سيظل تاريخ العاشر من يناير عام ٢٠٢٠م في ذاكرة عمان على مدى عقود طويلة، فقد سجل في صحائفه رحيل جلالة السلطان قابوس المعظم سلطان الحكمة والسلام، وباني عمان الحديثة وقائد مسيرة النهضة المباركة. وفي هذا المقام نقدم صادق التعازي والمواساة لأبناء الشعب العماني الأوفياء وأبناء الأمتين العربية والإسلامية، ولا شك أن عمان اليوم فقدت زعيما تاريخيا وقائدا استثنائيا بعد خمسين عاما على تولي جلالته ـ رحمه الله ـ مقاليد الحكم في البلاد في عام ١٩٧٠م، لذا فقد تتضاءل الكلمات أمام هذا المشهد العظيم والمصاب الجلل الذي ألم بهذا الوطن العزيز، فلم يكن جلالته ـ رحمه الله ـ بالنسبة للعمانيين حاكما عاديا، بل كان أبا لكل العمانيين، فقدم تضحيات جساما من أجل عمان وأبنائها، وعاهد أبناء شعبه منذ أول يوم تولى فيه العرش وتحقق ما وعد به، فقد جاء يحمل رسالة عظيمة، لتتحول عمان من ظلام الجهل والعوز والمرض إلى رحاب النور والعلم والتطور في ركب الأمم المتقدمة، فجلالة السلطان قابوس لم يأتِ من أجل السلطة فهو سلطان من نسل السلاطين، ولكن شاءت المشيئة الإلهية إحداث تحول تاريخي في عمان بوصول هذا القائد الحكيم إلى مقاليد الحكم، فبدأ بأسرع ما يمكن في وضع قواعد الأساس لمؤسسات الدولة العصرية، فانطلقت مسيرة عمان تسابق الزمن وبدأ الخير يطل على هذا البلد العظيم، وتابع جلالته مسيرة العمل والبناء رغم صعوبة الموقف والظروف الأمنية التي كانت مسيطرة على الدولة قبل وصول جلالته إلى سدة الحكم إلا أن ذلك لم يثنه عن التحرك عبر مسارين أحدهما الحفاظ على وحدة التراب الوطني واحتواء الموقف وإخماد الثورة، والآخر كان في مجال التنمية التي كانت شاهدة على تسارع النهضة المباركة، كما كان العمانيون أيضا في الموعد واستلم الشعب الإشارة من لدن هذا القائد الحكيم فانطلق الجميع في بناء عمان، وعاد المغتربون العمانيون من الخارج للمساهمة في بناء الدولة وتلبية لدعوة السلطان قابوس. كل ذلك الحراك الوطني على الأرض صاحبه حراك معنوي موازٍ في حركة النهضة والروح الوطنية والعنفوان والطموح العماني في سباق مع الزمن، وقد أزاح السلطان قابوس الكثير من الأوامر غير الضرورية عن كاهل الشعب وعاش مع أبناء شعبه الوفي في كل ربوع وطنه يستكشف الحاجة الوطنية، ويسدي تعليماته في العمل والبناء، وكذلك كان جلالته ـ رحمه الله ـ قريبا من جيشه، فهو القائد الأعلى للقوات المسلحة يتابع تطوير جيشه، ويستكمل تجهيز تشكيلاته لحماية مقدسات هذه الأرض الطيبة التي قال عنها جلالته لا تنبت إلا طيبا، وبعد أن تم لعمان احتواء القلاقل الأمنية بحكمة وسياسة جلالته ـ رحمه الله ـ بدأ خطط التنمية عام ١٩٧٥م واستمرت النهضة في سباقها وتسارعها مع الزمن.
نحن اليوم لسنا في سرد ما حققته نهضة جلالة السلطان قابوس المباركة منذ عام ١٩٧٠ ولغاية اليوم ٢٠٢٠م، فتلك المنجزات الوطنية بقيت شاهدة على ما تحقق، لذلك نحاول سبر العلاقة الروحية الأبوية الراسخة التي قضت المشيئة الإلهية صياغتها بين قائد استثنائي وشعب وفي تلقف هذه الهبة الربانية فكانت علاقة جلالته بشعبه علاقة الأب والقائد بأسرته، فكم من المشاهد والأحداث التاريخية خلال الخمسين عاما والتي عبرت عن تلك العلاقة الروحية المتينة بين الشعب وقائده، فرسم جلالته ـ رحمه الله ـ لوحات وطنية ساهمت في زرع الروح الوطنية منها الجولات السنوية السامية التي جاب فيها جلالته قرى وأرياف عمان، وتعرف على حاجة المواطن عن قرب ليس بينه وبين شعبه وسيط أو مسؤول، كما كانت المناسبات الوطنية أيضا لحظات مفعمة بالحب والوفاء المتبادل بين الوطن وقائده المفدى، سواء في الأعياد الوطنية أو الخطابات السنوية التي كان ينتظرها أبناء شعبه الوفي كتوجيهات سديدة من لدن القائد الحكيم والضمير الحريص على هذا الوطن والقلب المحب لهذا الشعب الرحيم بأبنائه ليرسم الطريق لمستقبل الوطن، فلم ينسَ جلالة السلطان قابوس ـ رحمه الله ـ أحدا من شعبه إلا ناله كرمه رحمه الله، فقد كان قائدا ربانيا مجددا وهبه الله الحكمة ما مكنه من الارتقاء ببلده وإبعاده عن شبح الحروب والأزمات فعم خيره الجميع، ولا تنسى عمان تلك الأحداث الشعبية التي حدثت في عام ٢٠١١م كيف استطاع جلالته تجاوز تلك المرحلة العصيبة والاصطفاف إلى جانب شعبه، وهكذا يكون عندما تملك الدول والشعوب زعماء من فئة العظماء في التاريخ.
لقد سجلت نصائح وأفكار قابوس ـ طيب الله ثراه ـ إضاءات للجوار الخليجي والعربي ونموذجية متفردة في استقراء المستقبل وفقا للمعطيات السياسية والأمنية في المنطقة، وتلك القراءات لا يدركها الإنسان العادي إلا من وهبه الله الحكمة وفصل الخطاب، فمن نصائحه وتوجيهاته كانت المشورة لتشكيل جيشا خليجيا موحدا في وقت مبكر وأثبتت التجارب والأيام الحاجة لذلك، كما قاطع العرب جمهورية مصر العربية واستطاع جلالته في وقت مبكر أيضا مخالفة ذلك التوجه الجماعي العربي ليقينه التام أن المقاطعة ليست هي الحل بل ستؤدي إلى إبعاد العرب عن بعضهم البعض، ولن يكون المستفيد هنا إلا أعداء الأمة، وبالفعل أثبتت الأيام صوابية الفكر السلطاني العماني، كذلك كان للسلطان قابوس دور محايد في الحرب العراقية ـ الإيرانية وواصل الجهود والمساعي السياسية لإنهاء تلك الحرب الخاسرة، كما أن السلطان قابوس لم يورط بلده وشعبه في أي حروب عبثية، أما في أزمة الخليج الثانية فقد كانت القوات العمانية في مقدمة الجيوش التي دخلت دولة الكويت من أجل التحرير إيمانا بأهمية ذلك، وفي البيت الخليجي كان جلالته دائما هو صمام الأمان فيه وساهم في احتوائه ورأب الصدع فيه، ولم تتوقف جهود سلطان السلام في التقريب بين الأشقاء دائما، واستمرت الحكمة السلطانية فيما يتعلق بنزع فتيل التوترات في مياه الخليج واحتواء الأزمات التي تشهدها المنطقة، ويجمع العالم على دور جلالته في احتواء الكثير من ألسنة اللهب التي طالما أوشكت على الاشتعال، وهكذا كانت مسيرة سلطان الحكمة والسلام يطفئ نيران الحروب والأزمات من أجل دول المنطقة وشعوبها، كما تجنبت عمان ممارسة أي دور غير إيجابي فيما سمي بالربيع العربي بفضل حكمة السلطان قابوس، وفي إطار القضية الفلسطينية ساهم ماديا ومعنويا من أجل إحلال السلام في المنطقة ودعم الأشقاء في فلسطين، واليوم يقام في فلسطين خيام العزاء وإعلان الحداد في فلسطين على فقيد الأمة والعرب جميعا، لأن فلسطين تعلم من هو هذا الفقيد، بل أعلن الحداد في الأردن ومصر ودول مجلس التعاون الخليجي، فالراحل هنا هو آخر الحكماء في التاريخ المعاصر.
لو تحدثنا عن مناقب جلالة السلطان قابوس لما اتسع المقام، فالعالم بأسره اليوم يعبر عن الصدمة في رحيل هذا القائد ويشارك أبناء عمان في هذا المصاب الجلل، نسأل الله أن يتغمد فقيد عمان والأمة السلطان قابوس بواسع رحمته ومغفرته وراضوانه وأن يسكنه فسيح جناته مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، اللهم آمين.
ونحن في هذا المقام نعاهد الله والوطن على المضي قدما في تلبية النداء والولاء لجلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور آل سعيد ـ حفظه الله ورعاه.
خميس بن عبيد القطيطي
khamisalqutaiti@gmail.com
#عاشق_عمان