والناس يمرون بحالة وجدانية عميقة بسبب الفقد الكبير لمن قاد مسيرة نهضة القطر العماني لخمسين عاما، دون أن يكل أو يمل، حتى آخر أسبوع من حياته، ما زال يبعث برسائل الحب والطمأنينة لمن عاش معنى الأمن والسلام الوجداني الداخلي، والتطور الخارجي، نزع الناس وتوجهوا لزيارة قبره، أو مقبرة الأسرة التي دفن فيها، والوقوف صفا، رافعين الدعاء، ومفترشين الحصباء، حزنا على فقيد الوطن…. والناس يمرون بهذا الحزن والألم قام بعض الأخوة بنشر رسالة يحثهم على عدم السفر لزيارة قبر السلطان، لما فيه من مخالفة شرعية – حسب رأيه- فلا يعزم السفر أو يشد الرحال إلا إلى الثلاثة مساجد؛ الحرم المكي والنبوي والأقصى، فقمت بكتابة رسالة تبين بعض الخطأ فيما ذهب إليه الأخ الحريص في رسالته، وارتأى بعض الأخوة كتابتها كمقال ونشرها، وها أنا ذا ألبي ذلك..
جزى الله السلطان قابوس بما قدم من خير وشهدنا عليه وشهد غيرنا من حال ومن تسبب لهم بإسلام من غير المسلمين وسلام وراحة من العالمين..
أما ما ظهر من غير ذلك فالله عليم بتأويله فيما أورد الأخوة..
بالنسبة لشد الرحال فشد الرحال ظاهر المعنى لا يكون إلا للمساجد الثلاثة.. وهنا جاء بمعنى الحث على زيارتها وضرب الأكباد لها للتعبد لما فيها من قداسة وعظمة ” ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب”
وإلا فالرحال تشد، والناس يرتحلون لغير العبادة، للعمل والسياحة والعيادة ” قل سيروا في الأرض فانظروا” ” فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه” …وغيرها من آيات فيها إثبات الحركة والتنقل (شد الرحال/ السفر) لأغراض حياتية شتى، ومن ذلك عيادة الأحبة وزيارتهم أحياء وأمواتا
أما ما ظهر من صلاة من الحضور أو قراءة قرآن، فهم تركوا جدار المقبرة خلفهم، واستقبلوا مكة يصلون فرضهم ونفلهم، والقراءة تسكين لقلوبهم، وليس طلبًا من إنسان، ميتا أو حيا، أجرًا ولا عافية، على رغم الخلاف في المساجد والمقابر فيها أو حولها.. وتأويل “قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا” وهذا بحث طويل ليس هذا مقامه.
لكن الحوار اليوم عن زيارة قبر السلطان كما هو دافع ورقة الأخ كاتب الرسالة عبدالوهاب الراسبي.
لذلك فخلاصة الحديث أن ما يفعله الناس ليس بشرك… بل ربما من الإيمان، بزيادة وصل ميت عبر زيارة قبره والدعاء له أمامه.
والأدلة التي جاء بها صاحب الورقة لا تسعفه في طلب الناس الامتناع تحريمًا عن زيارة القبور عموما .. وقد يبدو ذلك من سماحه للقريب لقربه ولأنه لا يشد الرحال حسب تأويله بالسفر ومسافة السفر ومنع غيره من هو في حدود السفر.. وهذا واضح الكلفة والتناقض.. فإما هو جائز أو ليس بجائز، أما تعليقه بالمسافة قربًا وبعدًا، وسفرًا وحضرا، فهو تكلف ظاهر.. والآيات في السياحة والسفر والتنقل للوصل والعبرة ومناحي الحياة الأخرى ظاهرة في كتاب الله العزيز.
فزيارة القبور هو من واسع الدين وواسع الحياة ومباحات الأمور على الأصل، لا يضيق على الناس فوق التنبيه العام لهم في زيارتهم للقبور أو المريض أو الملوك أن لا يشركوا بالله في كل تلك المواقف، ولا يعبدوا دونه من أحد منهم، لا بالتبرك بقبر ميت، ولا مقام سلطان أو عالم حي، ولا غير ذلك من مظاهر.
أما مطلق زيارة الملك في سلطانه، أو المريض في فراشه، أو الحبيب في قبره، أو العالم والزاهد في ركنه، أو غيرهم، فذلك من طبائع الحياة، ولا ينبغي التضييق على الناس بها بزعم كبير كالشرك.
إن هذا الدين قويم حد قدرته الكبيرة على استيعاب مشاعر الناس واحتياجاتهم في التعبير عن طبائع حياتهم، وليس منهجًا قويمًا ذلك الذي لا يستطيع أن يحتوي ردات فعل الناس الطبيعية، وحاجتهم للتعبير الوسطي الإنساني عن مشاعرهم.
رغم ذلك فإن هذا القطر من أرض الله فيه من أضرحة الأئمة والصالحين بل وحتى الصحابة رضوان الله عليهم الكثير، وقبورهم لا تقام عليها المباني ولا الصروح، ولا يتقرب بزيارتهم، ولا يتبرك بذلك، بل باتت هذه قبور يمر عليها الناس مرورا، ولا تزار كثيرا، فثقافة عمان وعقيدتها لا تعطي القبر وصاحبه فوق إنسانيته، وفقده حبيبًا وغاليًا، ولا تزيد عن ذلك أنملة، فلا خوف عليهم إذن من هذا الباب، ولا هم يحزنون.
نرجو الله لنا ولكم العفو ونسأل الله الرحمة لسلطاننا والحفظ لبلادنا قيادة وشعبا
عبدالحميد بن حميد الجامعي
الجمعة
٢١ جمادى الأولى ١٤١٤ هـ
١٧ يناير ٢٠٢٠ م
#عاشق_عمان