لِنُزَوِّ العواطفَ التي ما ثارت إلا غارت، ولْنَتَبَنَ شيئا من بُعْدِ النظر وركاسته، وشيئا من عمق التفكير وإحاطته..
دائما ما تكون المواقف لا سيما الجدلية ذات تسميات مختلفة، حسب موقف الأطراف منها، فمثلا كان طلب فرعون بقاء بني إسرائيل تحت خدمة المصريين كما هم، مسخرين لزراعة أراضيهم، وتربية أولادهم ومواشيهم، هو الرشاد بعينه ” ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد”، من ذلك كانت دعوة موسى إلى خلافه من إرسال بني إسرائيل، وخروجهم من مصر هي دعوة مفسد، يريد تغيير الدين ونشر الفساد..” إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد..”
نحن اليوم نعيش إحدى المراحل المشابهة، حينما يقوم فرعون اليوم وطاغوته -الجناح الصهيو-أمريكي المتطرف- بطرح ما سماه صفقة القرن، بالنسبة له وللكيان المحتل، وهي بالنسبة لنا نحن العرب، وللأحرار منا ومن غيرنا صفعة القرن، وصفقة الوهن، والتي فيما يظهر ستكون على المدى البعيد مرجعا للتفاوضات القادمة، ما استمر وهن العرب عامة، والفلسطينيين خاصة قائمًا، ناسخةً بذلك مرجعيات سابقة كأوسلو وكامب ديفيد وغيرها.
أولا يجب الاعتراف أنه لم تنشأ هذه الصفقة اليوم، ولم تكن وليدة الساعة، بل إرهاصاتها سابقة، ومسبباتها تضرب في القِدَم، من يوم وقَّعت مصر معاهدة كامب ديفيد، مرورًا باتفاق أوسلوا، ومعاهدة وادي عربة، وكل الانخراطات اللاحقة مع دولة الاحتلال في فلسطين…. إنها ناتج الضعف المتراكب للعرب عموما، وللفلسطينيين خصوصًا، والذي تجلى للأسف في عدم قدرة الإخوة الفلسطينيين، ممن يقاطع صفقة القرن اليوم على الاتحاد في سبيل الأرض، أرض الأجداد والشهداء، ويكونوا يدا واحدة ضاربة للخارج، بدل أن يُشهِدوا العالم على تمزع كلمتهم، وتفكك وحدتهم، والعنف على بعضهم عنفا يتجاوز فعل المحتل فيهم..
ليست الدول العربية التي حضرت هي من يجب أن تُلعنَ، أو يُصبَّ عليها جامُّ الغضب، في صورة عاطفية اعتاد عليها أعداء الأمة، حتى ألفوها، ولم يقيموا لها وزنًا، بل الغضب والعتب على الرئاسة الفلسطينية، وعلى المقاومة الفلسطينية، الذين لم يستطيعوا أن يحرصوا -مع الصفعات المتوالية التي تنالهم جميعًا، وتنال فلسطين الحبيبة- على الاجتماع والاتحاد من أجل وطنهم المنهوب، وبالأخص مَنْ بسط اليد للاحتلال، وكان عينَه وشُرطيَّه على أهل بلده، فأذاقهم في سبيل المحتل ونيابة عنه -باتفاقيات بينية- صنوفَ التنكيل والعذاب، أما قضية عدم حضوره الصفقة المعلنة، فإنها لا تشفع له، فقد حفر الحفرة، وعمقها، وأسلم فلسطين لتسقط فيها، فليس “دفرة” ترامب ودفعُه لها فيها بأشدِّ من حفره، وتعميقه، وتسليم فلسطين له، وهل كان السقوط لو لم يكن الحفر والتعميق والتسليم؟! وهل كانت الصفقة لتكون لولا تخاذله، ولولا الإنشطارات المتوالية في الجسد الفلسطيني، الذي كان هو للأسف حزامَها الناسف باسم المحتل؟!
إن الرد الوحيد والأساس، هو التحلي بالشجاعة اليوم من قبل الفلسطينيين، والاتحادُ إن صدقوا فلسطين حبهم، وصدقوا شعاراتهم، الاتحادُ غير المشروط بينهم إلا بحب فلسطين، وحب الإنسان الفسلطيني المظلوم، أما ما دون ذلك من ردات فعل عاطفية غائرة، من دعوات لمقاطعة، أو شكاية عند الأمم المتحدة، أو مسيرات عاطفية جياشة، وهم لم يصلحوا وحدتهم وصفهم، فهي دعوات فارغة، وخيانة حقيقية لقضية الأحرار الكبرى، القضية العربية والفلسطينية..
إن موقف الدول العربية وغير العربية التي حضرت والتي لم تحضر لا يمكن الحكم عليها بالخيانة أو بالوفاء للقضية الفلسطينين من مجرد حضورها أو مقاطعتها، بل الخيانة سابقة لذلك بقرون عدة، وليست بحاجة إلى الاستدلال عليها، فصفقة القرن المعلنة والتي عليها الجدال اليوم هي دليل أكبر عليها كما قدمنا، وخائنوها ربما يكونون من الحضور ومن المقاطعين سواءً بسواء، إن موقف الدول يقاس بخط عملها الممتد، وليست بلحظة بعينها، لذلك فعمان سياستها قائمة على حضور الاجتماعات العامة، وما يخص فلسطين والقضايا العربية خاصة، بعيدًا عن موقفها وخطها الرئيس للقضايا المطروحة، وغايتها من ذلك الحفاظ على الباب مفتوحا، بما يمكنها من نقض الداء بحكمة، وحفظ الإنسان ورعاية السلام ما أمكن، ومواقفها السابقة وتدخلاتها الخيرة شفيعة لها، وعدم تعميقها الاصطفاف الفلسطيني، والهوة بين الفلسطينيين، وبقاؤها على مسافة واحدة بين الفرقاء، ومحاولة التقريب بينهم، دليل آخر على كون حضورها هو من باب منهجها ومسلكها من وقوفها على كل شيء، ومحاولة الانطلاق من ذلك الحضور لنقض ما يضر، وإثبات ما يسر، وكذلك خَزْرُ ترامب للاتفاق النووي بالخروج منه، والذي سخَّرت عمان له طاقتها لتجنيب المنطقة ويلات الحرب دليل آخر على متانة السياسة العمانية الراسخة، فهي تحضر الاجتماع مدركة كل الإدراك سياسة ترامب التعسفية، والتي أضرت بالاتفاق النووي الساهرة عليه عمان، فهو حضورُ وعيٍ إذن، لا حضورَ عاطفة ودعم، ومع اعتراضي الشخصي على الحضور عموما، وعلى أي تقارب مع دولة الاحتلال، إلا أنني أجزم أن عمان بسياستها التي أرساها جلالة السلطان قابوس -فقيدُ الإنسانية- كانت هنا من المخلصين الحضور… هكذا يمكن الحكم على الحاضرين بمواقفهم السابقة، فكما إن من الحضور مخلصين للقضية الفلسطينية، وعمان منهم، فإن من المقاطعين ومالئي العالم ضجيجا ممن هو أول الخائنين للقضية الفلسطينية، بسبق أعماله وتعاونه مع المحتل، فالخيانة إذن ليس بحضور لحظة إعلان صفقة القرن، والوفاء ليس بمقاطعتها، ولكن كل ذلك بسابق السجل، والمواقف من الأطراف، كما بينا، وسابق العمل المخلص أو الخائن منها.
إن مواجهة صفقة القرن عند ترامب، وصفقة الوهن عندنا، يكون على سبيلين، سبيل يخص الفلسطينيين من ضرورة الوحدة الحقيقية، وليس التزيين، وقد أوضحنا ذلك، وربما من أول خطوات الوحدة هو تغيير الأوجه، وإلغاء التحزب وتعدد الحركات، وإذابة جميع أطياف الشعب الفلسطيني تحت قيادة موحدة من جديد، ولكن بغير مَنْ خِيضَتْ التجربة بهم من شخصيات، فأثبتوا فشلهم، وبالانتفاء عن كل معاهدات الوهن التي تمت، والسبيل الثاني بإيقاف العرب والأحرار في العالم التواصل مع الكيان المحتل في فلسطين، وكل أشكال التطبيع، لا مباشرة، ولا عبر الولايات المتحدة وغيرها، وليس ثم حاجة لأكثر من ذلك، لسنا بحاجة إلى تحريك جيوش، ولا إلى لعنٍ وسبٍّ من علا المنابر، فقط ممارسة أبسط الواجب، وهو الثبات على أصل فلسطين في الثمانية والأربعين، وأن ليس هناك في خرائطنا، ولا على ألسنتنا، ولا في قلوبنا إلا فلسطين فقط، ونحرم ما دون ذلك من محتل عليها جميعًا، وتتناغم حياتنا في إعلامها، ومناهجها على ذلك… ليس حاجة إلى دعوى عنف، ولا دعوى تفجير ونسف، فإن هذا الحد الأدنى من الواجب سيكون كفيلًا بفعل السحر، وحلحلة قضية فلسطين، وسيسعى المحتل على المدى البعيد ذاته لتقديم الحلول وعرضها، حتى لا يجد له واقعًا، فيتكيف يومها بما يمليه عليه موقف العرب القوي، بعيدًا عن توسعه وحلمه، هذا أقل ما يمكن أن يُطلب اليوم من الفلسطينيين والعرب، دولًا وشعوبًا، أقلُّ ما يُطلبُ منكَ أنتَ أيها المطلعُ الكريم، ومنكِ أنت أيتها القارئةُ المُجيدة..ألا هل بلغت اللهم فاشهد…
عبدالحميد بن حميد الجامعي
الأربعاء
٤ جمادى الآخرة ١٤٤١ هـ
٢٩ يناير ٢٠٢٠م
#عاشق_عمان