مرت الأيام الأربعون منذ رحيل جلالة السلطان قابوس قائد عمان التاريخي الخالد، وما أصعبها من أيام مرت على هذا الوطن العزيز بفراق أب كريم وسلطان حكيم؛ حبيب الشعب قابوس بن سعيد ـ طيب الله ثراه ـ الذي سجلت مآثره ومنجزاته في هذا الوطن العزيز بأحرف من نور، لم تكن منجزات مادية فحسب، بل كانت معنوية أيضا وهي أبلغ أثرا في قلوب أبناء عمان، وتجاوزت محبته حدود الوطن إلى باقي الشعوب، فرثاه الجميع وما زال تأبينه مستمرا بين أبنائه الذين أحبوه ونسج معهم علاقة استثنائية فريدة، كما رثاه أبناء الأمة العربية، وتم تأبينه من أعلى منبر دولي (الأمم المتحدة) كيف لا؟ وهو سلطان السلام الذي خلد اسمه في ذاكرة السلام العالمي، فتشرفت جوائز السلام الدولي بالانحناء أمام مقامه الكريم، وقد أبهر العالم بما حقق لوطنه وللسلام العالمي، لقد نقش جلالته ـ أكرم الله مثواه ـ اسم عمان على خريطة العالم مرصعة بالاحترام، فعرف المواطن العماني بالهدوء المغلف بالاحترام مقتبسا من نهج جلالته أينما وجد فنالت عمان احترام العالم، كل ذلك كان بفضل السلطان قابوس الذي سخَّره الله لهذا البلد العريق فحمل الرسالة وأدى الأمانة، فاستقرت روحه الطاهرة في رحاب الرحمن آمنة مطمئنة، رحمك الله يا حبيب الوطن يا من تهفو القلوب والآذان بذكر اسمك، غفر لك ورضي عنك وأسكنك فسيح جناته .
التأبين الذي قدمه أبناء عمان خلال الأيام الأربعين الماضية لرحيل المغفور له بإذن الله تعالى جلالة السلطان قابوس ـ طيب الله ثراه ـ سيستمر بإذن الله معززا بالدعاء، وهذا لم يأتِ من فراغ، بل جاء نابعا من قيم الوفاء الذي أسسته مع شعبك والعلاقة الاستثنائية التي رسختها ورابطة الحب التي نظمتها، لقد أوفيت بالعهد وقدمت التضحيات الجسام، وأفنيت عمرك من أجل هذا الوطن، وقد صدقت الوعد عندما قلت في أول يوم من عهدكم الميمون: “سأجعلكم تعيشون سعداء لمستقبل أفضل” وتحقق ما وعدت به ـ رحمة الله عليك .
يتذكر العمانيون الذين عاشوا مرحلة ما قبل عهد النهضة كيف ذاقوا شظف العيش وضنك الحياة وعاشوا ظروفا صعبة، حتى جاء فجر الـ٢٣ من يوليو ١٩٧٠م المجيد، فتحولت عمان من الظلام إلى النور ومن العزلة إلى الانفتاح ومن الشدة إلى الرخاء، كل ذلك بفضل الله تعالى بعد أن قيض لهذا الوطن قائدا حكيما وسلطانا عادلا مخلصا متسامحا جاء بصبغة عمان التي صاغها التاريخ .
لقد قدمت عمان إضاءات مهمة خلال تاريخها العريق فساهمت في نشر الإسلام في شتى بقاع الأرض، وامتدت كامبراطورية عربية عظيمة شملت مناطق متعددة من شبه الجزيرة العربية وإفريقيا والضفة الأخرى من الخليج، هذا التاريخ العظيم الذي تقف عليه عمان أعاد صياغته جلالة السلطان قابوس بن سعيد بطريقة عصرية تتناسب مع النظام الدولي المعاصر، فقال جلالته ـ طيب الله ثراه ـ في مستهل عهده الميمون: “أريد أن أنظر إلى خارطة العالم ولا أجد بلدا لا تربطه صداقة بعمان”. هكذا كانت رغبته في جعل عمان صديقا للجميع، كما ارتكزت سياسة جلالته ـ رحمه الله ـ على العمل من أجل السلم والأمن الدوليين، وعدم التدخل في شؤون الغير، والسعي من أجل استقرار المنطقة والعالم، فقدم خدمات جليلة للمنطقة والعالم واستنار الجميع بفكر جلالته الحكيم، مما جعل عمان في عهده قبلة للسلام والأمن ونافذة لحل الكثير من الأزمات التي كادت تعصف بالمنطقة، لذا لا غرابة أن يجد جلالة السلطان قابوس كل هذا المخزون الهائل من الحب والاحترام لدى العالم .
جلالة السلطان قابوس ـ طيب الله ثراه ـ سلم الراية لجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ وهو خير خلف لخير سلف، وثقة عمان وأبنائها كبيرة بجلالة السلطان هيثم وبشائر الخير على محياه، والمسار الذي بدأ مستقيما ناجحا منذ بدايته، سيكمل الله مسيرته بحوله وقوته جل جلاله نحو مزيد من النجاح وهو سبحانه ولي ذلك والقادر عليه .
كان جلالته يعمل بصمت ويسدي النصائح الأمينة للأشقاء مراعيا خير ومصلحة الشعوب، تدفعه نوازع الخير والإنسانية التي تتجسد في كيانه، لذا فقد أثبتت تجارب التاريخ المعاصر أن سياسات جلالة السلطان قابوس ـ غفر الله له ـ كانت استثنائية وحملت بعد النظر والبصيرة الثاقبة، فقد آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب فشمل خيره الجميع، واليوم يدرك أبناء عمان أن عليهم رد الدين والوفاء لهذا القائد الوالد الحكيم بالدعاء والاستغفار في كل صلواتهم، فالوفاء من شيم الأوفياء، وجلالته ـ طيب الله ثراه ـ نادى في كثير من خطاباته “أبناء عمان الأوفياء” وقد آن الأوان أن نرد على هذا النداء بإخلاص الدعاء لقائد عمان العادل الكريم الرحيم الذي بذل ما في وسعه على حساب صحته من أجل أن نسعد ونأمن ونطمئن وأفنى عمره من أجل عمان، فجزاه الله عن عمان وأهلها خير ما جزى قائدا عن بلده، وغفر له وأسكنه فسيح جناته .
عمان تختتم اليوم فترة الحداد وأبناؤها مؤمنون بما قضى الله سبحانه، فالحمد لله من قبل ومن بعد، وهذه سنة الله في خلقه ونحمد الله أن قيض لنا طوال خمسة عقود هذا القائد الحكيم الذي جاد الزمان به على أرض عمان، فكان فيها الأب والقائد والمعلم وعاشت عمان تحت كنفه بخير وسلام واستقرار وازدهار، ونحن في هذا البلد الطيب إذ نعيش ختام أيام الحداد الرسمي، نؤكد أن شيم الوفاء التي نسجها سلطان القلوب مع أبناء شعبه، تحتم علينا أن نتضرع إلى الله دائما بالدعاء على الدوام بأن يكرم الله والدنا قابوس، وأن يغفر له ويجعل قبره روضة من رياض الجنة، والملائكة المقربون يدخلون عليه من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعمى عقبى الدار، وسوف نستأنس بسيرة جلالته العطرة ومنجزاته الشاهرة ومآثره الكريمة، مجددين العهد والولاء للوطن ولجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ وسنحافظ على ما تحقق من منجزات، وسنعمل بعون الله لاستكمال مسيرة النهضة المباركة بكل تفانٍ وإخلاص، والآمال بتجاوز كل الصعاب بعون الله .
التأبين والمرثيات واستشعار ذاكرة قائد عمان التاريخي السلطان قابوس تمثل قيما عليا ستظل باقية في القلوب، كما سيظل رمز عمان قابوس خالدا في القلوب، إلا أنه يتحتم على أبناء عمان تجسيد تلك القيم الوطنية بالعمل وبذل الغالي والنفيس من أجل عمان، فالعالم اليوم يسير في سباق حضاري وتنافس دولي مشروع، ونحن في عمان لدينا كل المعطيات والعناصر التي تؤهلنا للانطلاق مجددا بهمة وعزيمة وإخلاص وإيمان بأن عمان تمتلك ركائز قوية قادرة على تجاوز كل الهموم، كل ذلك سيكون واقعا ملموسا بعون الله في عهد متواصل يستكمل مسيرته جلالة السلطان هيثم ـ حفظه الله ورعاه ـ وأبناء عمان المخلصون، فالحمد لله على ما أعطى ولله ما أخذ، والله نعم المولى ونعم النصير .
خميس بن عبيد القطيطي