صباح هذا اليوم هو صباح ثاني يوم لي في باريس، محتم علي أن أقضي خمسة أيام أخرى ثم أرحل إلى ميدينة مارتن في الشمال السويسري، ثم مدينة شافهاوزن، كان علي أيضا أن أبعث رسالة إلى صديقتي سيلين أخبرها بأنني قد وصلت بالسلامة إلى باريس وأنني في ضيافة أصدقاء داميان، على أن سيلين نفسها كانت موجودة في فرنسا لكن في مدينة أخرى اسمها مارسيليا تقع في الجنوب الفرنسي، كانت سيلين قد قررت في وقت سابق أن تصبح معلمة لغة فرنسية في شافهاوزن لهذا تقضي إجازتها في مارسيليا مع عائلة فرنسية تحريا لإتقان اللغة، وقد علمت من صديقنا لويك بأنه يلتقيها هناك، ولا أعرف نوع اللقاءات التي يلتقيانها، واقع الحال إن لويك شاب فرنسي مثقف ووسيم، ودائما ما يكون أنيقا في ملابسه، وخجول جدا مرهفة الإحساس إلى الحد الذي يسهل التأثير عليه، هو من ذلك النوع الذي تفتن به الفتيات ليس لأناقته ووسامته فقط وإنما أيضا لأنهن يشعرن بلذة عظيمة حين يجدن عاشقا مثله منقادا لسيطرتهن ورغباتهن، كان أكبر جرم ارتكبه لويك في حياته هو عندما أسكرته ببيرة جينيس في إحدى الحانات الشعبية في مدينة بورمونث ثم عندما خرجنا وأراد التبول أقنعته بسلطتي العمرية عليه أن يفعلها عند جذع شجرة كبيرة كانت تقف بجوار الشارع، ففعلها بسرعة وارتباك شديدين كانت ساقاه ترتجفان من هول ما يقوم به من فعل شنيع، حتى إذا ما فرغ وعاد إلي نسي كل تلك الأوهام والمخاوف التي تملكته قبل التبول، حتى إنه نسي أن يغلق سحاب بنطاله، كان يشعر بنشوة وسعادة لا نهاية لها وهو يمشي بجاوري مغلقا سحاب بنطاله في العلن أمام المارة، لكل معصية نرتكبها لذة لكن المعصية الأولى لها مذاق خاص جدا، خاصة عندما يرتكبها المرء دون أن يقبض عليه، مع هذا يجب أن أعترف إن لويك يمتلك الشجاعة والرغبة في التغيير، لكنه نشأ على أن يكون شابا لطيفا جدا كثير الحذر من الوقوع في خطأ يسيء إلى أحد ما على الخصوص حذر من أن يسيء تصرفه إلى اسم عائلته، هو لا يتحدث كثيرا وإن تحدث فإنه يتحدث بجملة محسوبة ومعروفة ومعدة مسبقا إعدادا جيدا، أخبرني بنفسه بأنه يقطن في منزل كبير مع أمه وأبيه ويدرس في كلية عسكرية عريقة في برشلونة، وأن أبويه يتبعان نظاما تربويا شديدا لدرجة أنهما لا يسمحان له بمصادقة أي عربي في المدينة، أو على الأدق أمه هي التي لا تسمح له بذلك، لأن في مارسليا عربا كثيرين وهؤلاء العرب حسب زعمها يهددون النظام الفرنسي فهم يحتكرون التجارة ويشتغلون في المخدرات والدعارة والإرهاب بل إن كل الجرائم الشنيعة في مارسيليا سببها العرب، أو لا بد أن تكون بطريقة ما مرتبطة بالعرب، وقد أرسل لويك رسالة طويلة في الخاص يعتذر لي عن عدم قدرته على زيارتي في باريس ولا استقبالي في مارسيليا، شارحا لي وجهة نظر أمه. مع أنني كنت أرغب في زيارة مارسيليا فهي مدينة الكابتن زين الدين زيدان وهي ثاني أكبر مدينة فرنسية بعد باريس، وموطن الغريم التقليدي لنادي باريس سانجريمان.
حسنا، ربما لم يكن يجدر بي أن أحدثكم عن لويك وعن سيلينا، وعن ما يعتمل في صدري من غيرة، فقد وقعت في هذا الصباح المروع في العديد من المشكلات التي لم تكن تخطر على بالي أن أقع فيها، أو على الأحرى هي من وقعت علي، فقد كنت حريصا على أن أظل إنسانا صالحا رغم كل ما أقوم به من محرمات اجتماعية أو دينية، أحرص على الصلاح مع نفسي قليلا ومع الآخرين كثيرا، أكثر مما يستحقون، ما جرى هو إنني في ذلك الصباح وبعد أن أنهيت مراسلتي مع سيلين نزلت إلى مطعم الفندق لتناول وجبة الإفطار، كانت الساعة تشير إلى الثامنة صباحا، وكنت أشعر بلهفة لتناول وجبة الافطار الفرنسي والمرور أمام طاولة الاستقبال حيث يمكن أن ألقي تحية حب على زينا الفتاة الفرنسية العذبة التي حدثتكم عنها سابقا وأن أكمل معها متعة الحديث الذي بعثتها في نفسي مساء الأمس، وأستزيد منها معرفة عن مجتمعها في الحي الفقير وطموحها في الحياة، نعم كنت أريد أن أسألها عن طموحها لأن في طوح الإنسان تنضوي كل حياته ومن هناك سأعرف بواعث تكدر خاطرها ليلة أمس، لكنني حين اقتربت من الاستقبال لم أجدها هناك، فانتابني شعور كريه من الإحباط، وسألت الشاب المبتسم الذي كان يتأمل الشحوب الذي حل على وجهي عنها وأخبرني معتذرا بأنه لا يوجد فتاة تعمل معه في الاستقبال..، وقد صدمت من إجابته الناكرة غير أنني لم أشأ أن أطيل المحادثة معه فقلت له على سبيل الإثبات: إن اسمها زينا وإنني التقيت بها بالأمس فور وصولي.. ، فاحمر وجه الشاب احمرارا عجيبا وقطب حاجبيه، وحسبت إنما فعل ذلك لأنه أدرك أنني كشفت كذبه علي، فتركته قاصدا الذهاب إلى المطعم..
للكاتب / جمال النوفلي