خمسون عاما ذهبية عاشتها عمان منذ عام ١٩٧٠م حتى عام ٢٠٢٠م في كنف رعاية المغفور له بإذن الله تعالى جلالة السلطان قابوس ـ طيب الله ثراه ـ هذه العقود الذهبية التي طوقت حاضر عمان المشرق نقشها خالد الذكر في صفحات من نور أضاءت تاريخ عمان، لذا فهو خالد بمنجزاته الشامخة، وخالد بفكره المستنير ومبادئه السياسية والإنسانية العظيمة التي رسخها. اليوم وبعد هذه العقود الخمسة تستضيء عمان بتلك المدرسة القابوسية الحكيمة، ولا ريب أن يستمد أبناء عمان من هذه الذاكرة المجيدة القيم الوطنية للانطلاق نحو نهضة متجددة معززة بالوفاء والولاء لله والوطن والسلطان، ورغم الظروف التي تمر على العالم، يستشرف أبناء عمان ملامح تلك النهضة المتجددة برعاية جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ الذي يستكمل كتابة تاريخ عمان بحكمة راسخة مستمدة من عمق الحضارة العمانية وتاريخها العريق، وأبناء الشعب العماني اليوم يجددون الولاء لقائد عمان الأشم جلالة السلطان هيثم بن طارق ـ أيده الله ـ فهو خير خلف لخير سلف، فقد توسم فيه جلالة السلطان قابوس الصفات والقدرات المؤهلة لإكمال مسيرة عمان، ولسان العمانيين يلهج بالدعاء أن يسدد الله خطاه، وقد تفضل جلالته ـ أعزه الله ـ في خطابه الكريم أنه سيرتسم خطى السلطان الراحل، كلمات نزلت على قلوب أبناء الشعب بالاطمئنان والسعادة فتجاوزت الحدود لتسجل بصمتها على صفحة العلاقات الدولية، فحفظ الله جلالته الذي رسخ وسما عمانيا ذا دلالة عظيمة في وصف جلالة السلطان قابوس بـ”أعز الرجال وأنقاهم” ورحم الله حبيب الشعب والوطن الذي أفنى حياته من أجل عمان وأهلها، فجزاه الله خير الجزاء وجعله في روح وريحان وجنة نعيم .
اليوم وبعد مضي ما يناهز الأربعة أشهر على رحيل جلالة السلطان قابوس ما زالت قلوب أبناء عمان تستأنس بذكر قائدها التاريخي، فما تركه من إرث عظيم سيخلده أبناء عمان الأوفياء وسيحافظون عليه، وسيقدمون أرواحهم فداء لهذا الوطن، فما بناه جلالة السلطان قابوس من نهضة عملاقة يتطلب المحافظة على منجزاتها واستكمال انطلاقتها، فكان لجلالة السلطان قابوس الفضل في إخراج عمان من دوامة الفقر والعزلة والانقسام إلى مستقبل مشرق ساده الأمل والازدهار والانفتاح والاستقرار، ومد جسور العلاقات الدولية إلى المحيط العربي والدولي، فنقش علاقات عمان الدولية وفق نموذج فريد، وأسهم بمساعيه الخيرة في حلحلة مختلف قضايا المنطقة والعالم بفكر حكيم، لذا عرفت عمان بالحكمة المستمدة من النهج السلطاني السامي، فكم من القضايا العربية التي برزت فيها حكمة جلالة السلطان قابوس منذ سبعينيات القرن الماضي، كما قدم جلالته دعمه السخي للعديد من الجهات وفي بعض الأزمات التي ألمت بالمنطقة، فكان يستشرف المستقبل ويقدم الحلول الاستباقية بفكره المستنير، فحظيت عمان بالاحترام والتقدير من سائر دول العالم ونال الإنسان العماني الاحترام أينما حل وارتحل، فرحمك الله وأكرم مثواك .
الشمائل والخصال والصفات الكريمة التي ارتكز عليها جلالة السلطان قابوس ـ رحمه الله ـ كانت هي المحرك الحقيقي لسياساته ومواقفه، فقد جمع مختلف الأخلاق الكريمة من سماحة وسخاء وشجاعة وقلب رحيم وإحساس بالمسؤولية تجاه الإنسانية جمعاء، وكان يحمل ضميرا صادقا مخلصا لوطنه وأمته، وكان يعتز بعمانيته، وكان له جلال ووقار وهيبة وبشاشة محيا في نفس الوقت، بالإضافة إلى بصيرة ثاقبة وفكر عميق، وكان ـ رحمه الله ـ لديه رغبة في نشر الخير والسلام والأمن في ربوع العالم، ولطالما تكللت مساعيه بالنجاح نظرا لما يحمله من إخلاص وصدق وحكمة سديدة وهبها الله سبحانه، وجلالة السلطان قابوس ـ طيب الله ثراه ـ شخصية متنوعة المعارف والثقافات والعلوم؛ فهو يجمع بين علوم الدين والدنيا، فكان يحفظ القرآن ويسترشد بآياته في الكثير من خطبه، وكان ضليعا باللغة العربية، ويتحدث الإنجليزية كأحد أبنائها، ولديه اطلاع واسع ومتنوع في الكثير من المجالات، ويستطيع التحدث في أي موضوع، وقد وهبه الله قلبا عامرا بحب الفقراء والمساكين، لذا فقد جاء يحمل رسالة عظيمة لوطنه وأمته بما تشمل من معانٍ وقيم ومبادئ فبلغها كاملة رحمه الله وجعله في روضة من رياض الجنة .
جلالة السلطان قابوس ـ غفر الله له ـ كان ينهل من إرث حضاري عماني عريق، وينحدر من سلالة أسرة حاكمة توارثت الحكم منذ منتصف القرن الثامن عشر وقدمت لعمان والمنطقة إضاءات تاريخية مهمة، فكان جلالته قدوة للعمانيين في كل المزايا والخصال القيمة، واستنسخ العمانيون تلك المعاني والشمائل الكريمة، لتقدم عمان نموذجا إنسانيا فريدا ولله الحمد .
التوجيهات السامية الكريمة من لدن جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ باعتماد يوم الثامن عشر من نوفمبر المجيد يوما وطنيا للنهضة لتحتفي به السلطنة في كل عام يؤكد استمرار نهضة عمان المتجددة التي يقودها سليل السلاطين جلالة السلطان هيثم بن طارق ـ حفظه الله ورعاه ـ وتعد هذه اللفتة الكريمة من لدن جلالته وفاء وعرفانا للسلطان الخالد في القلوب جلالة السلطان قابوس ـ طيب الله ثراه. كما أن احتفاء السلطنة بهذا اليوم المجيد يمثل ارتباطا وثيقا لأبناء عمان الأوفياء واستذكارا لقائد عمان التاريخي، فكم أثلج صدور أبناء عمان هذه التوجيهات السامية الكريمة، وهي تأكيد لاستكمال ما بدأه جلالة السلطان قابوس في دولة راسخة ونهضة متجددة، وعمان تحتفل هذا العام بعيدها الخمسين استكمالا لنهضة جلالة السلطان قابوس ـ طيب الله ثراه، كما أن جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ أصدر مرسوما سلطانيا ساميا قضى بتعديل الملحق رقم (3) المرفق بقانون علم الدولة وشعارها ونشيدها الوطني، وفاء للسلطان الخالد في القلوب، فهكذا هم أهل الوفاء دائما .
لقد ارتبط أبناء عمان بجلالة السلطان قابوس ـ طيب الله ثراه ـ بعلاقة روحية وثيقة، وستظل ذكراه معطرة بأجمل الذكريات، فلا ينسى العمانيون يوم الـ٢٣ من يوليو ١٩٧٠م عندما تقلد جلالته مقاليد الحكم في عمان فانتشرت الأفراح والبشرى في ربوع عمان، في حاسة شعورية لا إرادية سكنت مشاعر هذا الشعب وهذا الوطن بأن هناك مستقبلا مشرقا ينتظر عمان، ولن ينسى أبناء عمان أيضا مختلف المحطات التاريخية التي تجاوزتها عمان بفضل قيادة جلالة السلطان قابوس الحكيمة، فلن ينسى العمانيون عيد النصر الذي أعلنه جلالة السلطان الراحل في الـ١١ من ديسمبر ١٩٧٥م بعد التخلص من فلول التمرد واحتواء أخطر أزمة عاشتها عمان في القرن العشرين بفضل قيادة جلالته الحكيمة ومواجهته الأزمة عسكريا واحتوائها سياسيا، ولن ينسى أبناء عمان المحطات الوطنية اللاحقة وحركة بناء النهضة العمانية الكبرى، وبناء مؤسسات الدولة ومتابعة جلالته الحثيثة لمختلف مسارات العمل الوطني في سباق مع الزمن، ولن ينسى العمانيون أيضا تلك الوقفة الشامخة الواثقة بالله عندما احتدمت الأزمات في الخليج فكان جلالته هو رسول السلام في كل الأزمات، ولن ينسى العمانيون والعرب مواقف جلالته في مختلف الأزمات التي عصفت بالمنطقة في حقبة التسعينيات، ودعم جلالته المستمر للقضية الفلسطينية على منابر الأمم المتحدة والتنسيق مع الأشقاء الفلسطينيين ودعمه السخي لصندوق الأقصى وأبناء الشعب الفلسطيني، كذلك لن ينسى العمانيون دور جلالته في احتواء الأحداث والاعتصامات في عام ٢٠١١م كل ذلك بفضل الحكمة السلطانية المتفردة، ولن ينسى العمانيون أيضا اليوم الذي خاطب فيه جلالته شعبه من مقر علاجه في جمهورية ألمانيا الاتحادية فاجتاحت عمان حالة من الفرح المغمور بالبكاء، كما لن ينسى العمانيون ذلك اليوم من شهر مارس ٢٠١٥م عندما وطئت أقدام جلالته أرض الوطن عائدا من رحلته العلاجية فعمت البشرى وانطلقت المسيرات والأفراح، كل ذلك لمكانة حبيب الشعب في قلوب أبناء عمان، وأخيرا لن ينسى أبناء عمان والأمة العربية فجر يوم السبت الحزين الـ١١ من يناير ٢٠٢٠م عندما ودعنا جلالته لمثواه الطاهر واستودعناه جوار الرحمن، كل هذه الذكريات ستظل عالقة في المشاعر والقلوب، وما زالت الذاكرة تستعيد كل التفاصيل في مراسم جنازته ـ رحمه الله ـ وبساطتها والتواضع لما يلائم ذلك الموقف العظيم، نسأل الله سبحانه أن يجزيه عن عمان وأهلها خير الجزاء .
بصمات العقود الخمسة لجلالة السلطان قابوس كشفت عنها لحظة الوداع، سواء على الصعيد المحلي أو العربي أو الدولي فعدد من دول العالم نكست أعلامها لأول مرة من أجل زعيم خارج بلادها، كما حضر العزاء عدد كبير من الوفود إلى السلطنة، في رسالة واضحة لما يمثله جلالة السلطان قابوس ـ غفر الله له ـ في ذاكرة الشعوب والدول، نسأل الله في هذا الشهر المبارك أن يرفع درجته في الصابرين، ويجعله من ورثة جنة النعيم، إنه تعالى سميع مجيب، والحمدلله رب العالمين .
بقلم/ خميس بن عبيد القطيطي