مدخل..
تموج الأرض منذ نشأة البشرية عليها بتوجهات متباينة…قد تتقاطع مع بعضها وقد تختلف درجة التضاد..
وقد أراد الخالق لهذه الحالة من الاختلاف والتباين أن تكون حتى يمارس الكائن البشري (الإنسان) حقه في الإيمان بالدعوة وبالكفر بها..أي عدم تبنيها.. ( فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) … ولذلك خلقهم أن يكونوا مستقلين وأحراراً في معتقداتهم…مع تحملهم المسؤولية الدنيوية والأخروية لقراراتهم
اليوم سنتناول مشهدا بسيطا من مشاهد عديدة توري نار الخلاف وتذكي الفرقة بين البشر..والهدف هو تلمس النور للخروج منها بسلام.
لقد تعهد الله منذ خلقه الإنسان ونزوله الأرض أن يصله منه ما يزكيه ويعينه مقابل تحديات الحياة العامة…لأسباب مدركة بحواسه الخمس أو غير مدركة.. (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)
ولأن الكتب السماوية ..والتي يدين بها أغلب البشرية اليوم ( التوراة (العهد القديم)، والإنجيل (العهد الجديد) والقرآن) ذات مصدر واحد فسنأخذ في سبيل تلمس النور آخرها وهو القرآن..لاعتبارات عدة، من أبلغها كونُه الكتابَ الأوحد الذي لا تتعدد نسخه، والذي حافظ على مضمونه منذ أربعة عشر قرناً إلى اليوم..وكونه آخرها نزولًا، وخاتما لها جميعا يجعله يحوي ما جاء في الكتابين السابقين..ويزيد عليهما..
من الجانب الآخر سنأخذ صورة من نقد غير المؤمن به لبعض آياته، ونعمل على محاولة رؤية النور الأبدي الذي نعتقد بوجوده في كتب الرب المنزلة.. وستكون بدايتنا مع مسألة الإرث في الإسلام وتقسيمه بين الذكر والأنثى.
الميراث:
يصدر كثير اليوم في التشكيك بالقرآن عن عدم مساواته في الإرث بين الذكر والأنثى..فهو يجعل للأنثى نصف ما للذكر.. أو هكذا يروج له، مستدلين بنص الكتاب في سياق ذكر الأولاد وقوله: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ ۚ )
وقبل الشروع في دراسة ذلك فربما من الجميل التأكيد أن العدالة هو الأمر المنشود في الحياة…فجميعنا يطلب العدالة الإجتماعية وعدالة التشريعات والقوانين..
والمساواة لا سيما مساواة الظاهر…مثلا أعطيكم هذه العصي بطول واحد وأطلب منكم أن تجنوا التفاح من أشجاركم المتساوية..وأنتم تتفاوتون في القامات وفي العمر..بين القصير والطويل، والقوي والضعيف…فأنا من حيث الظاهر ساويت بينكم في العطاء وسلمتكم ذات العصي… ولكن في الحقيقة ظلمتكم بهذه المساواة في توفير الأداة..والنتيجة غياب العدالة في الطلب.. وفي المحصلة سيعيش طويلكم/ قويكم، وسيموت قصيركم/ ضعيفكم جوعا.
وحتى نتيقن من أن هدف التوزيع الرباني العدالة، بعيدا عن النسبة الظاهرة (واحد لواحد أو عصا لعصا)، وبعيدا عما يحققه ظاهر المساواة أو غيره، فنأخذ حالة الأخوة ذكورا وإناثاً للمتوفى ولا ولد له (فرع) ولا أب ( أصل)، والذي عبر عنه القرآن بالكلالة، في الآية ١٢ من سورة النساء والآية ١٧٦ من ذات السورة.
فبينما في الآية الأخيرة تصديق لمن يريد إثبات الفرق في الإرث لمجرد الجنس في الإسلام؛ ( وَإِن كَانُوا إِخْوَةً رِّجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ )، وتهمة الإسلام بذلك، تأتي الأولى لتثبت العكس، وتنفي ذلكم الادعاء، فقد جاء الإخوة ذكورا وإناثًا شركاء في القسمة فيها، توزع عليهم بالتساوي، ومنهما نخرج بـالتالي؛
أولا: أن القرآن لا يعتمد مطلق الجنس في التوزيع، وإلا لم تكن الأنثى مساوية لأخيها الذكر في الأولى، لأنها في كل الأحوال تبقى أنثى، ولتمَّ إلحاقها لتكون نصفه، لو كان على اعتبار الجنس (ذكرا وأنثى)، كذلك لما اقتسم الأم والأب الثلث بالتساوي (السدس لكل منهما)، ولجعل لها النصف بسبب أنها أنثى مطلقا.
ثانيا: حقيقة عدم مطلق التوزيع في الإرث بمجرد الجنس يدلل على أن هناك عوامل أخرى حقيقية، وبعيدة عن الجنس ذكرا وأنثى، يتم اعتبارها من قبل الخالق في كتابه المنزل، لا سيما وأن عدم اعتبار الجنس أدى في بعض الحالات إلى أن ترث الأنثى أضعاف أخيها الذكر (الأخ للأم والأخت الشقيقة)..
إذن فالبحث عن هذه العوامل هو ما يجب أن يُحث عليه اليوم لاستجلاء عدالة التوزيع الرباني في القرآن..
سنة حياتية عامة؛
يشكل الموت والحياة ثنائية أبدية بعجلة لا تتباطأ..ويتم الربط بينهما بانتقال الموروث المادي من الميت للحي لديمومة تطور الحياة وعمرانها، من ذلك كان التوزيع العادل والدقيق لتلكم التركة من أصل ما يحتاجه الإنسان في حياته، فكان مستحقا بذلك نورا من خالقة عبر تشريع عادل يسمح بالتطور البشري، والذي من عوامله الرئيسة الاستقرار المادي والمعنوي لعناصره..
لذلك لو تصورنا أن كل إنسان صلته بأصله وفرعه هو عبارة عن شجرة ممتدة، وله أفرع قد تتقاطع مع الأشجار الأخرى وتتداخل، وكل جيل ينتقل منه إلى الجيل الذي يليه ما يحافظ على تلكم الشجرة بفروعها وأصلها، وعلى مربعها ومحيطها الأقرب فالأقرب، فإنا نستطيع بها أن ندرك العدل الإلهي في التوزيع..
إن تلكم الأشجار إن لم يتم توزيع مقومات الحياة عليها بشكل عادل، فوصل للفرع منه ما وصل للأصل بالتساوي مثلا، والفرع متصل بأصل آخر في جلبة أو مقصورة/ حديقة أخرى فإن الأصل الأول سيفقد مقومات استمرار الحياة والتطور، وينتهي به الأمر إلى الهزال، وربما الانقراض والاختفاء من خارطة الأشجار القائمة.
ولأن الأسر قائمة في امتدادها على الذكور، فطريا وعمليا، في جميع العقائد والأديان المرجعية، فأولادهم الذكور من يحمل اسم الأسرة، ومن يكون مسؤولا عن الواجب الاجتماعي اتجاهها في المحافل والنوازل، بينما الأنثى يحمل أولادها اسم أبيهم، والذكر أوجب عليه التشريع القوامة على المرأة، أُمًّا وأختا وبنتا وزوجة، بمعنى توفير المسكن الآمن والمأكل وجميع المتطلب لها، حقا لها وواجبا عليه بدون منة، أو فضل، كان لهذه الحقائق المجتمعية والطبيعية دورها في تشكيل هذا التوزيع.
فالأصل بذلك هم الذكور لبعض ما قدمنا أعلاه وللواجبات على كاهلهم، بينما الفروع تكون الأنثى، وقد يكون الذكر معها فيتساويان في القسمة، وذلك عندما يكونان فرعين لأصل آخر مستقل..وفرع الأنثى ذات اَلصِّلَة المباشرة بالأصل قد يكون أكبر أضعافا من الذكر، عندما يكون أصله في غيره، ويعاد باقي الأمر إلى أصل مربعه أو محيطه أو قبيلته وعاقلته، لاعتبار الحق الجمعي والقدرة الاقتصادية والاجتماعية الكبرى لأسرته وقبيلته الكبيرة (بدءا بأعمامه وأبناء أعمامه لأصلهم الواحد).
إن وضع المرأة العام يجعلها مسؤولا عنها وجوبا بالنسبة للرجل، كان أبا أو أخا أو زوجا أو ولدا، ولا يتخيل في جميع الشرائع الإنسانية أن تطالب الأم مثلا بالواجب في سد الجانب المعيشي للبيت، ويسكت عن الأب ذي الأهلية ولا يلام في الأمر، بينما العكس ممكن جدا، يلام الأب ولا لوم على الأم، فلما كان الوضع العام هكذا، جاء إعطاء الذكر في ما ارتبط بأصول المتوفى ضِعف المرأة (الأخ والأخت الشقيقين أو لأب)، وهذا ضمان لنمو فرع المتوفى المباشر، وولده من بعده، بانتقال ما اكتسب أبوهم -معظمه- إليهم لإكمال المسيرة وتعزيز الجانب الاقتصادي والاجتماعي له، بينما تكون أخته مسؤولة منه بالإضافة إلى قسمها من تركة أبيها، فيكون ضعف أخيها مع نصفها مجتمعا معهما، وهي يشاركها في ضعفه وجوبا، بينما لا تشاركه في نصفها إلا تفضلا، أو تنتقل به إلى تكوين أسرة جديدة مع رجل آخر (زوج)، بمال منتقل إليه من أصوله، فيجتمع ضعفه من أصله مع نصفها من أصلها لتنشئة الأسرة الجديدة لها، وهكذا في الإرث بين الزوجين، يخضع لذات النظرية والفلسفة العادلة، فهي ترث منه (الربع أو الثمن) نصف ما يرث منها (النصف أو الربع) بعدم الأولاد أو بوجودهم، لأنها قد تنتقل إلى زوج آخر بأصل جديد، بينما يبقى هو مسؤولا عن الأولاد بينهما، مباشرة منها أو تربية ومعيشة من غيرها، مستفيدين مباشرة في حياته أو بعد موته بانتقالها إليهم، وسيكون لأولاء وصل لها بفضل الأمومة في الحالين، بينما لا يكون لزوجها من ولدها من غيره بذات الدرجة.
أما إذا تساوت الأخوة في عدم الاشتراك بالأصول، أي أن يكون الورثة (الأخ والأخت) من أم واحدة، ومن أصل (أب) آخر، فهنا ينتفي المعنى في التفريق، ويتساوى الأخ والأخت في عدم الأصول مع أخيهما من أم، فيتقاسمان نصيبهما بالتساوي، وهكذا مهما كان عددهم وجنسهم، يتساوون في قسمتهم ( وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَٰلَةً أَوِ ٱمۡرَأَةٌ وَلَهُۥٓ أَخٌ أَوۡ أُخۡتٌ فَلِكُلِّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا ٱلسُّدُسُۚ فَإِن كَانُوٓاْ أَكۡثَرَ مِن ذَٰلِكَ فَهُمۡ شُرَكَآءُ فِي ٱلثُّلُثِۚ)، وهذا أيضا ينطبق على أمثلة أخرى كالوالدين، فمتى كان للمتوفى ولد تساوى أبواه في قسمهما، لأن أولاده أولى بنظرية الأصول، وانتقال مكتسب أبيهم (المتوفى) إليهم، فتساوى الأب والأم في المسافة بينهما وولدهما المتوفى، فلم يعتبر الجنس بينهما، بل مجرد الأبوة.
بل في أحوال كثيرة تزيد الأنثى إرثا على أخيها الذكر، فلو توفي أخ ليس له إلا أخت شقيقة، وأخوهما من أم، لورثت هي ثلاثة أرباع التركة، بينما يأخذ أخوها الذكر ربع التركة فقط، وهكذا جميع الإرث لم يبنَ على مسألة الجنس، والذكر والأنثى، بل بني على العدالة في انتقال المال الأكثر من الأصل إلى فرعه الممتد، فإن تساوى الذكر والأنثى فهم شركاء في نصيبهم، وتقاسموا التركة المنتقلة إليهم بالتساوي، وإن اتصلت الأنثى بالأصل وأخوها الذكر بالفرع، رجحت هي عليه وورثت أضعاف أخيه وليس فقط ضعفه، كما رأينا.
إن التوزيع الرباني العادل يضمن استمرار تلكم الصورة للحديقة الغناء، والأشجار دائمة الحياة والنمو، كان التوزيع بظاهر التساوي بين الذكر والأنثى، أو بمضاعفة الذكر على الأنثى، أو بمضاعفة الأنثى على الذكر، كما مثلنا..
إن هذا النظام لا يمكن أن يكون إلا ربانيا، فالدقة في التوزيع غير المبني على الجنس بل على الأصل والأولى، يدل على مطلق المنطقية والواقعية ، وهو ما يسقط اللبس الذي يتأبطه بعضهم براءة ومكرا، في سبيل النيل من منظومة هذه الرسالة الإنسانية، وذلك عبر الترويج لفكرة مغالطة من خلال استقطاع المواضع من سياقاتها، أو عدم مقارنتها ببعضها، وقراءتها بشمولية عامة.
عبدالحميد بن حميد بن عبدالله الجامعي
الجمعة:
٢٨ رمضان ١٤٤١هـ
٢٢ مايو ٢٠٢٠م