أتذكرون “قرية الأربق” ؟
كانت هنا نديمة البحر وصديقة الموج.
وكان الرمل الذي يتأرجح بين مد وجزر امتدادات حوش البيوت.
وكانت الأربق النبيلة أول قرية تضحي بقلعتها لصالح مطرح والميناء.
وجاء البناؤون ومعهم “الديناميت والبلدوزر” وقرارات النسف والإزالة.
ومع أول كبسة زر على الأسلاك الناسفة اهتز الجبل ولم تتزحزح القلعة من مكانها.
وتوالت الضربات وقلعة الأربق على عنادها وقد حزمت أمرها على الصمود مع الجبل أو الموت مع الجبل في أكبر مواجهة مع الديناميت.
وقد اغتاظ البناؤون لهذا الكبرياء فقرروا نسف الجبل بالكامل وتفتيت حجارته فكانت القلعة أكبر قطع الفتات وأرهفها.
وشكلت قلعة الأربق عبر الزمن هلالاً آمناً لمطرح يبدأ طرفه ب”كوت” مطرح وينتهي عند آخر برج في القلعة.
وكانت التضحية بقلعة الأربق هدية ماضي القرية للمستقبل ولصالح أن تكون مطرح عاصمة التجارة.
عرفتُ “الأربق” من أول رحلة نظمتها المدرسة السعيدية لمطرح لطلبة الصف التمهيدي.
يومها رن جرس الحصة الثانية ولكن مربي الصف لم يأذن بفتح كتاب القراءة بل أمرنا لنخرج إلى الحوش لنتحلق حول سارية العلم وكأنه يستأذن السارية لبدء رحلة مدرسية ، ثم أطلق الصفارة لننتظم في طابور طويل يبدأ بالمدرس الاستاذ علي بن سيف الوهيبي وينتهي عند آخر طالب.
خرجنا من الباب الخلفي للسعيدية ومشينا بجوار المبنى الذي يشغله حاليا بيت البرندة وعبرنا الفضاء الذي يتلألأ بمسجد المنذري فأطراف جبروه فالمقبرة التي تعطرت بالولي الرضي عزان بن قيس.
ثم مررنا بسفح الجبل وتجاوزناه إلى بدايات الأرصفة.
كانت الحجارة قد تلفعت السواد فأمر الأستاذ علي بن سيف الوهيبي الطابور العابر للمكان بأن يتوقف وأن ننتشر لنقضي سويعات في ظلال قلعة الأربق وعلى الحجارة التي تلفعت السواد.
بعد ذلك أمرنا لأن نجرف السواد من الحجارة ببعض مسننات الحجارة فكان السواد بقايا رسوبيات القار وبقع الزيت التي تسربت من سفينة معطوبة فاستضافت شطآن الأربق هذا السواد.
وطلب منا أن نشكل من حصاد القار الذي جمعناه أشباه تماثيل ومجسمات.
يومها لم تعرف المدارس الصلصال فكان القار هدية مجانية من السفن المعطوبة لأربق نديمة البحر فاغتنمتها المدرسة السعيدية لحصة مهارات في الهواء الطلق فشكلنا من حصاد التجريف نخيلا وخيولا وسفنا وبيوتاً.
صفَّرَ الأستاذ علي بن سيف الوهيبي مجدداً فانتظم الطابور فمشينا في طريق العودة لنسلك طريقاً جديداً هذه المرة ونحن نتابع تكسر الموج وتطاير “الشناجيب” من طابور يمشي على إيقاع خطوات بالمارش العسكري.
هنا كانت الأربق تجفف القاشع والسردين وتملأ “التنكات” سمكا مملَّحاً.
وهنا تستضيف الأربق كل صيف السفن المحملة بالأمبا ، حيث يتسابق المزارعون في حيل الغاف ب”محاجينهم” قطف “الأمبا” مع بداية اصفراره لينضج في حاويات التخميل الخشبية اثناء الإبحار فتبيعه الأربق لمطرح وتحمله منها السيارات خارج نطاق المكان.
هنا يشعشع عبق الأمباء كل صيف ويختلط مع فواكه المواسم والرطب.
ومن هنا يستقلُّ المغادرون إلى “الشطيفي وعِيِِنْتْ ودارْسَيتْ” “هواريهم” بعد رحلة صيد ورحلة بيع.
وبينما بحر أربق ينبض بالحياة كان الشاطيء ينتهي بسلسلة من البيوت الصغيرة فمسجد الأربق فبيت خليل الذي تعاقبت عليه العهود وتعددت مع التعاقب الاستخدامات من قصر إلى نُزُلٍ إلى بنك فمطعم ، ثم بيت المنذري الذي بدأت تحت سقفه المدرسة السعيدية عامها الدراسي قبل أن تنتقل لمبناها الجديد.
ومررنا ب”ماركيت” اللحم بمصطباته المضرجة بالدماء فالمحل الذي يؤجِّر “السياكل” كل نصف ساعة لقاء “آناتٍ” معدودة ، لننتهي ببيت ناظر السعيدية الاستاذ رمزي محمود مصطفى حيث يتجمهر تحت صباحاته المدرسون لتمضية دقائق مع “الروثمانز والثري فايف” دون أن ترصدهم عيون طلابهم فيهتز الشموخ ، لينتهي مشوار الأربق فندخل المدرسة ونتجه مباشرة إلى الحنفيات الموصولة بأنابيب الحوض الإسمنتي لنغسل أيادينا مما علق بها من قار ونشبك الكفوف إلى أن تمتلئ فنطفيء عطش يوم صيفي مشمس بماء الحوض بعوالقه ورمله فمن لا يشرب بكفه لا تسقيه كفوف الرجال.
تلكم هي الأربق نديمة البحر وصديقة الموج وشاطيء الأمبا القادم من حيل الغاف وحزام قريات الأخضر.
تلكم هي الأربق التي ضحَّت بقلعتها بكل إباء من أجل هدف نبيل ، دون أن تفاتح القلعة في أمر النسف فاعترضت القلعة على قرار الأربق وأصرت أن تموت مع الجبل وليس قبله ، فليس في إرث القلاع عبر التاريخ مصطلح التنازل والتضحيات.
تلكم هي الأربق وبقايا القار العالق في حجارتها ما يزال عالقا في أظافري ، والكثير من تماثيلنا المصنوعة من القار في مخازن المدرسة وصفوفها تنازع السكرات. لتموت مع مبنى المدرسة، فتماثيل قار الأربق الأربق التي شكلنها رضعت عناد المكان وكبريائه وتشربت العنفوان والإباء من القلعة فاختارت الموت مع المدرسة السعيدية وليس قبلها.
——————————————-
حمود بن سالم السيابي