أحاجتني الظروف مؤخراً إلى أن أشد الرحال إلى محافظة مسقط.. هذه المحافظة الغناء التي أحبها وأتردد عليها كثيراً بوصفها عاصمة الوطن المعطاء، عشقي الأول وموطن الشموخ والمجد والعطاء، كما كان لها نصيباً وافراً من سنوات خدمتي الوظيفية التي انتهى رابطها بالتقاعد الاختياري..
فكانت هذه أول رحلة مسقطية، بعد أن تم رفع الحظر المفروض على هذه المدينة التاريخية، بسبب اندلاع المواجهة الكرونية، التي لا تزال تدور رحاها بشدة في سائر الكرة الأرضية، القصية منها والدنية.
امتطيت صهوة فرسي ذات الأربع عجلات من ماركة تويوتا التي افتتن بها الناس أجمع، والعمانيون على وجه الخصوص، فلا ينازعهم فيها منازع ولا ينافسهم منافس، بل وربما يصل الأمر إلى المشاجرة لو حاولت إقناع أحدهم بتفضيل نوع آخر عليها فلسان حاله يقول (تويوتا وبس) شأنه في ذلك شأن التعصب لبرشلونة وريال مدريد اللذان لا ناقة لنا فيهما ولا جمل، ولا حتى جحش ولا سنور..
وطفقت ( التاكوما) تنهب الطريق نهباً بمحركها القوي، وكابينتها الثنائية، وحوضها الواسع، ولونها الرصاصي الفاقع، منطلقة من ولاية بهلا، مروراً بولايات محافظة الداخلية المحاذية للطريق المزدوج الذي يربط الولاية بالعاصمة، تحسبها بغلة تسر الناظرين، وتشفط البنزين، وتصحر جيبي المسكين..
في الشارع الممتد من ولاية بدبد حادثني عبر سماعة شاشة السيارة، أحد الأصدقاء من ذوي المرح والدعابة والفكاهة، والذي لا تمل من مجالسته ومؤانسته، فقصّر عليّ الدرب بحديثه الشائق عن التعدد الزوجي، وبالأخص زواج السر وما حدث مع أصحاب هذا النوع من مواقف طريفة وأخرى حزينة خاصة في زمن الحصار الكروني، واسترسل في ذلك وهو لا يعلم أن (بعض الناس) كان معي في الرحلة وهم من النوع الذي لا يحلو لهم سماع قصص التعددية، أكانت جهرية أم سرية، وعبثاً حاولت تغيير دفة الحديث نحو التناقضات التي يعيشها العالم مع وباء كرونا ، لتنتهي المكالمة حين وصول برج الصحوة.
وجدنا محافظة مسقط امتلأت حرارةً ورطوبة، فعجبنا من مقدرة فيروس كرونا على الإقامة والتعايش مع هذه الظررف المناخية القاسية، والغريب أنه طاب له المقام في محافظة مسقط التي استأثرت بنصيب الأسد من الإصابات والوفيات.
وفي سوق السيب أنهينا مأربنا الذي جئنا من أجله، ثم قمنا بجولة تسوقية في أسواق العامري التجارية التي تمتاز بتسويق أنواع من المواد الغذائية، كأرز الوالي والوزير، اللذان يشعرانك بهيبة من سميا بلقبهما، عندما تلتهم حبات ذلكم الأرز اللذيذ الذي صار طوع أمرك ورهن إشارة بطنك، ببضعة ريالات معدودة، فليتها معاملاتنا تنجز بهذه السهولة والمرونة.
فضلاً عن كون أسواق العامري هي لمستثمر عماني، ومن الواجب الوطني منحه الأفضلية في التسوق، دعماً ومساندة له في هذا الزمان الذي يتمدد فيه المستثمر الأجنبي في كافة أرجاء أنحاء البلاد، والقادم يقول هل من مزيد .
بعد الانتهاء من التسوق وجبت صلاة الظهر، ومن ثم ستعطي المعدة أوامرها الصارمة بوجوب تناول وجبة الغداء ، وحينها بدأت المعاناة..
فالمساجد والحدائق والمتنزهات مغلقة، والمطاعم غير مسموح لها أن تقدم الأطعمة في الداخل، والمعارف كثرة لكنك تتجنب الذهاب عند أحدهم احتراماً للتعليمات، وبعداً للشكوك والظنون،وأسعار الفنادق لا تطاق، والإمكانات المادية لم تسمح لنا ببناء قطعة الأرض السكنية القابضين عليها هناك منذ عشرات السنين، علماً بأننا بيتنا النية من قبل على العودة للولاية بعد انتهاء المهمة التي أتينا من أجلها.
قاتلك الله يا كرونا أكنت حقيقة أو مكيدة .. أو وهماً فقد تسببت في جعلنا نؤدي الصلاة خارج المسجد في أشعة الشمس الحارقة، ونتناول غدائنا تحت شجرة خفيفة الظل، وسط حرارة لافحة، وكنا قبل مجيئك النحس نفاضل بين المساجد والمطاعم والحدائق أيهما أحسن وأجمل وأفخم..
فارحل بقدرة الله الواحد الأحد عن ديارنا عاجلاً غير آجلا، فقد اجهزت علينا بخيلك ورجلك، فأفسدت كل شيء، وعطلت الصلوات في المساجد، وشللت الاقتصاد، وعكرت الأمزجة، وأحدثت الفرقة، وحلت بين المرء وأخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، فارحل عنا بسلام، وعد من حيث أتيت بعزة القدير الذي لا يضام، والسلام ختام.
مسهريات يكتبها ناصر بن مسهر العلوي