تحدِّيات خطيرة بدأت بالظهور في دول الخليج العربية في بدايات انتشار جائحة كورونا، تتعلق بالأمن الغذائي لهذه الدول التي لطالما اعتمدت لعقود طويلة على استعمال الإيرادات المالية الضخمة المتأتية من بيع النفط، لاستيراد القسم الأكبر من احتياجاتها من السلع الأساسية؛ فأزمة تفشي فيروس “كوفيد 19” فَرَضتْ تحديات جديدة على هذا الصعيد، نتج عنها اهتمام تلك الحكومات بالبحث عن طرق بديلة لتوفير الحد الأدنى من الاحتياجات الغذائية لشعوبها، والحد الأدنى من الاحتياجات الغذائية هو توفير الحد الأدنى من التغذية الأساسية لأبنائها من تلك الاحتياجات بانتظام وفي كل الظروف؛ فالعديد من الدول المصدرة للغذاء حول العالم تُفضِّل الاحتفاظ بسلعها الغذائية كمخزون إستراتيجي في وقت الأزمات؛ الأمر الذي قد يسبب أزمة في المواد الغذائية الرئيسية لدى الدول المستوردة للغذاء.
وفي عُمان، كما في دول مجلس دول التعاون الأخرى، يزداد اعتماد تلك الدول على الخارج لتأمين احتياجاتها الغذائية، خصوصاً مع استمرار النمو السكاني وشح المياه، وقد يُشكِّل الأمن الغذائي في منطقة الخليج أزمة حقيقية بسبب الاعتماد بنسبة 90% على استيراد احتياجاتها الغذائية من الخارج.
بدايات الاهتمام بالزراعة الحديثة في عُمان، كانت بعد تصدير أول شحنة من النفط في العام 1967م عندما تقرر إقامة بعض المزارع النموذجية، وبعد النهضة المباركة تم تأسيس دائرة للزراعة في عام 1971م، والتي استمرت إلى عام 1975م، وخلال هذه الفترة تم إنشاء محطات بحوث ومراكز التنمية الزراعية، وفي العام 1975م أنشئت “وزارة الزراعة والأسماك والنفط والمعادن”، وخلال نفس الفترة أنشئت أول شركة زراعية حكومية “مزارع شمس عُمان” مع شريك هولندي، كما تم إنشاء مزرعتين كبيرتين في صحار وصلالة تقومان بإنتاج الألبان والخضراوات، وتم تصدير بعض الخضار إلى هولندا، كما تم في نفس الفترة تشكيل شركة أعلاف ظفار، ولكن إجمالا لم تتمكَّن وزارة الزراعة في عهودها المختلفة من تحقيق أية إنجازات زراعية أو سمكية أو حيوانية ذات أهمية تُذكر، باستثناء السنوات الأخيرة، كما لم تقم بإيجاد حلول علمية مؤسسية لها، على الرغم من قيام الوزارة بعقد اتفاقية مع شركة جايكا اليابانية المشهورة والتي أعدت خطة للتنمية الزراعية “1990-2000”.
وفي العام 2007م، وبأوامر من جلالة السلطان الراحل -طيَّب الله ثراه- بعد حصول الأزمة العالمية في الغذاء، تم تشكيل لجنة للأمن الغذائي لدراسة زراعة القمح، وأُخرى لدراسة زراعة مليون نخلة، المهم أن معظم الجهود التي بُذلت لم تكن تتم بشكل مؤسسي كاف، بقدر ما كانت تتم وفقا للاجتهادات الشخصية.
سياسات توزيع الأراضي الزراعية أدت لنتائج عكسية؛ إذ تحولت أكثريتها إلى مزارع ترفيهية، كما أن اتباع الطرق التقليدية للزراعة، أدى إلى تآكل التربة وتعريتها، والانتشار العمراني العشوائي، هو الآخر أسهم بالتخلي عن مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية، كما أن أساليب الري البدائية، أدت إلى زيادة كبيرة في نسبة ملوحة الأرض، لقد تضافرت كل هذه العوامل لتجعل من رفع مستوى إنتاجية ما تبقى من الأراضي الزراعية الصالحة أمرًا في غاية الأهمية، يستوجب التوقف عن اتباع الطرق البدائية للزراعة، أو زراعة منتوجات تقليدية ذات قيمة متدنية، وتستنزف كميات هائلة من المياه الجوفية؛ فالعالم المتقدم هجر هذه الطرق منذ مدة طويلة وحقق تقدما مذهلا.
مُواجهة الفقر الزراعي لا يُمكن أن يُعَالَج ببعض الإصلاحات الفنية أو القرارات الإدارية أو الإجرائية، بل بحاجة لمعالجة الجوانب الهيكلية والثقافية والعلمية من المشكلة الزراعية، وحيث أُخفقت جميع الحلول الأكثر تقليدية في حل المعضلة، تركَّز الاهتمام في الآونة الأخيرة على التكنولوجيا الحيوية، باعتبارها حلا ممكنا، ويُقصد بالتكنولوجيا الحيوية أية طريقة تستخدم أعضاء حية، او تلجأ إلى معالجات معينة، لإيجاد أو تعديل المنتوجات، ولتحسين سلالات من الحيوانات والنباتات، أو لتطوير أعضاء حية دقيقة، بُغية استخدامها في أغراض محددة.
استخدام التكنولوجيا الحيوية -يُمكن اعتباره- مرحلة متقدمة تمامًا في محاولات الجنس البشري لإنتاج النباتات والحيوانات، وليست هذه بقضية جديدة، وإن كان فهم العملية وسرعتها هي الجديدة، فقد سعى المزارعون منذ آلاف السنين لتحسين مزروعاتهم ومواشيهم عن طريق التربية الانتقائية، اعتقادا منهم بوجود عنصر داخلي مهم في تحسين المواصفات المرغوبة وإزالة الصفات السيئة، واليوم نرى مهندسي الهندسة الوراثية يستطيعون عن طريق التأثير على الجينات، إنجاز محاصيل محسنة في غضون أشهر أو سنوات، بدلا من العقود التي تستغرقها أساليب التنمية النباتية التقليدية، ولابد لجامعاتنا من إجراء بحوث علمية من أجل إحداث تحسينات زراعية وحيوانية وسمكية ملموسة، أو حتى طفرات نوعية زراعية وحيوانية.
الإنجازات التي تحقَّقت في الحقل الزراعي في العالم المتقدم عديدة ومذهلة، إنها باختصار تتراوح بين حقن الماشية بهرمون النمو، بُغية زيادة إنتاجها من الحليب “أو اللحم أو الجلد حسب الرغبة”، كما تتمثل بإيجاد نباتات مقاومة للفيروسات والحشرات وإنتاج محاصيل لا تتأثر ببعض المبيدات المستخدمة للتخلص من الأعشاب الضارة؛ مما يسمح للمزارع باستخدام تلك المبيدات دون تردُّد، وكذلك تشمل إنتاج محاصيل تتواءم مع جو معين وتربة معينة، تنمو في التربة المالحة أو في المناخات الحارة، أو التي تتمتع بموارد مائية قليلة.
لقد حقَّق الإنتاج الزراعي العالمي توسُّعًا كبيرا بسبب استخدام التكنولوجيا الحيوية؛ حيث ارتفع الإنتاج العالمي من الغذاء خلال الفترة 1970-2010 بوتيرة أسرع عن أية مرحلة سابقة في التاريخ، تصاعد الحصاد العالمي من الحبوب 300 ضعف، وشهد إنتاج المحاصيل الجذرية واللحوم والحليب والأسماك والفواكه والخضراوات نموا هائلا، تلبية للطلب العالمي المتزايد على الغذاء، نتيجة للنمو السكاني وارتفاع مستويات المعيشة، كما تم استصلاح ملايين الهكتارات من الأراضي الجديدة، واستُخدمت آلات أكثر تطورًا وازداد استعمال الأسمدة الكيمياوية ووسائل الري الحديثة. ونتيجة للتقدم الكبير في مجال التكنولوجيا الحيوية والذي تمخَّض عنه، إنتاج سلالات زراعية جديدة أكثر تطورا، تم إنتاج أنواع جديدة من الأرز المهجَّن الذي يتمتع بقدرات أعلى على مقاومة الأمراض والحشرات، ولم يَرتقِ المحصول الزراعي من حيث النوع فقط بل من ناحية الكم أيضا، حتى وصل أحيانا إلى أربعة أضعاف مستويات الإنتاج السابقة، وتستطيع الإنجازات العلمية الكبرى أن تقدِّم المساعدة لحل المشاكل المرتبطة بانخفاض وتدنِّي جودة التربة، إضافة لعدم كفاية الأراضي الصالحة للزراعة.
العالم المتقدم هو المنتج الرئيسي للغذاء ولذلك تزداد تبعيتنا للخارج، كما تعتمد عليه أكثر من مائة دولة، وإذا أُصيب الإنتاج هناك لخلل كبير، نتيجة الجفاف أو الأمراض أو الحروب أو تبدل الطقس أو لأسباب سياسية، فإن نتائج ذلك سوف تكون كارثية علينا، ومن ناحية أخرى من الصعب أن نتخيل أن الدول الصناعية التي خصصت كميات هائلة من أموال الدعم الحمائية، لتمتلئ مخازنها بالاحتياطيات، أن تستمر في ذلك لفترة طويلة، مما يعني أن الأسعار سوف ترتفع.
الاهتمام بالزراعة والثروة الحيوانية والسمكية، لن يُسهم في توفير الحد الأدنى من الأمن الغذائي فقط، بل سيُسهم أيضا في تقليل وارداتنا والمساهمة في صادراتنا، وتعزيز ميزان المدفوعات، وفي تنويع مصادر الدخل، وتوليد فرص عمل جديدة لشبابنا، كما أنه سيوفر وظائف في الأنشطة التي سوف تولدها الزراعة والثروتين الحيوانية والسمكية، مع تزايد أهمية الطلب على التجميع والتخزين والتصنيع والخدمات اللوجستية، ولأصحاب الجرارات والسائقين وفني التصليح، إضافة إلى ظهور العديد من فرص العمل في الزراعة غير التقليدية ذاتها؛ لذلك فالاهتمام بهذه التكنولوجيا لم يعد ترفا بل هو مطلب إستراتيجي، ولابد أن يوضع في قمة الأولويات الوطنية الملحة.
مرتضى بن حسن بن علي