أحيانا تذهلك الحياة بمقابلة أشخاص غريبي الأطوار .. فريدي الصفات
رجال .. فلاسفة .. او أشباه فلاسفة .. او ممكن أن نطلق عليهم بأنهم أنصاف حكماء بكل معنى الكلمة ..
استطاعوا أن يحققوا رغباتهم في الحياة بكل عناد وإصرار ..
او بمعنى اصح استطاعت الحياة ان تمنحهم ما اردوا وأحبوا .
استطاعوا أن يعيشوا حياتهم كما يرغبون ..
ولم يلتفتوا لرأي المجتمع وثقافته القذرة .. وأفكاره البالية ..
وأعتقد بأن حين تقابل شابا في العشرين من العمر .. ويقول لك بأنه لا يرغب في الزواج قبل الخامسة والأربعين ..
ولا يرغب في أنجاب أبناء نهائيا ..
فكرة كهذه لأول وهلة تعتبر نوع من أنواع الخبل .. وصنف من أصناف الجنون .
فحين تجلس مع شاب يافع في العشرين من عمره .. وتسمعه يصرح لك بكل ثقة ووضوح بأنه لا يرغب في تأسيس أسرة ابدا .. وأنه يرغب في الاستمتاع بحياته حتى الخامسة والأربعين ..
وأنه حين يقرر الزواج بعد الخامسة والأربعين لا يرغب مطلقا في أنجاب أبناء .. وأنه سيتزوج من امرأة عقيم ..او امرأة تجاوزت مرحلة الإنجاب ..
حين تسمع هذا التصريح من شاب .. تتركه مباشرة .. وتسخر منه سخرية عظيمة .. وتقول له (أنت ما صاحي ) .. ثم تتركه وراء ظهرك .. كأنه لا أحد .. و لا حقيقة له .
في شهر ديسمبر الماضي ..
كنت في العاصمة مسقط .. اتسكع في سوق مطرح التقليدي القديم ..
لا ابحث عن شيء .. وانما اتسكع لأقتل الضيق .. واحرق الوقت ..
كنت غاية في التهلهل .. والترقع .. والاندثار .
وفجأة فاجأتني الصدفة بمقابلة إنسان جلست معه منذ 30 عاما ..
جلست معه لمدة ساعتين فقط في إحدى أيام العام 1988 .
هو عرفني مباشرة .. وناداني .. وانا لم اعرفه ..الا بعد ان قال لي .. ( لقد جلسنا معا في مقهى في السيب وتعشينا مع بعض) ..
فلم أتذكره ..
ولكنه ضحك .. وقال ألا تذكر شخصا قال لك بأنه لن يتزوج إلا بعد الخامسة والأربعين ..!!
هنا اشتعلت ذاكرتي الواهية المنطفئة .. واستقيظت خلاياي الميتة .. الخاملة .
وبدأت أتذكر هذا الشاب الذي قال لي فعلا بأنه لن يتزوج قبل الخامسة والأربعين .. وتذكرت أيضا عبارته الأخطر أيضا بأنه سيبحث عن امرأة لا تنجب ..!!
سحبني من يدي بكل حنان و شوق ولهفة وكأنني جده الكبير .. واسكنني في مقعد صغير امام مقهى صغير ..
وطلب لي شايا وخبزا ساخنا ..
…
حقيقة .. حين تصادف إنسانا لم تراه منذ ثلاثين عاما .. يقتحمك فضول كبير للثرثرة معه ..
ومعرفة أخباره .. والاطلاع على سيرة حياته ..
إننا نعشق سماع سير حياة من نتعرف عليهم ..
يسيل لعابنا لمعرفة اسرارهم .. ونجاحاتهم .. واخفاقاتهم .
فكل إنسان يحاول أن يطلع على سيرة حياة الآخرين … ليعمل مقارنة واهمة بينه وبين نفسه .. وليعزز نفسه بكل أصناف الكذب والتحايل على الذات … ويقول لنفسه سرا ( الحمد لله .. حياتي كانت أفضل من حياته بكثير … انا الافضل !! )
حيث لا يمكن المقارنة بين حياتين .. او بمعنى أدق لا يمكن المقارنة بين قدرين. ..!
إنها من أهم طرق التحايل على الذات وانجع وسيلة من وسائل ترميم الانتكاسات ..
المهم ..
اذهلني الرجل فعلا .. فقد كان انيقا .. صحيحا .. معافا .. ومتألقا .. ينضح سعادة .. ويتدفق زهوا .. وكأنه في بدايات الثلاثين من العمر .. بينما كان في الحقيقة في عامه الخمسين ..
اما انا فكنت أمامه كأنني في السبعين .. وانا في الحقيقة كنت في بداية عقدي الخامس ..
إنها عوامل التعرية المجتمعية التي تضرب الوجوه .. وتحطم الصدور .. وتهشم الأفئدة ..!!
والذي أكمل معدل الذهول وطبعه في وجهي .. انه قال لي بأنه لم يتزوج إلا منذ 5 سنوات بالضبط .. اي حين بلغ الخامسة والأربعين ..
يالهي ..
كيف استطاع هذا الرجل تحقيق هذه الرغبة الصعبة العنيفة المزعجة … المؤلمة .
لقد ألقى أمامي محاضرة فلسفية .. وجودية عميقة لم اسمعها من قبل في حياتي من اي استاذ جامعي خلال سنوات دراستي للفلسفة ..
قال لي : عشت حياتي طولا وعرضا ..
سافرت إلى أكثر من نصف العالم ..
لم أضع المرأة في قلبي مطلقا .. وحذفتها من رزنامة افكاري وهواجسي ..
استهلكت حياتي استهلاكا لذيذا .. ممتعا .. و رائعا ..
رياضة .. متعة .. سفر ..
لا اقول لك بأني كنت نظيفا عفيفا .. لا ..
فلا احد نظيف طاهر في هذه المجتمعات النجسة .
يستحيل أن تكون نظيفا في مجتمع ملىء بالقذارة والعفن …
ولكن لم تكن المرأة شيئا مهما في عقلي .. ومازالت لا تحدث في نفسي ذلك الصخب الذي يدمر الحياة .. ويسلب الرجل حريته وكرامته ويمرغ أنفه في التراب .
فقلت له : وهل تزوجت إمرأة عقيم ..؟؟
فقال نعم .. لقد تزوجت عقيم كما خططت ..
لقد تزوجت من امرأة جميلة .. تطلقت مرتين بسبب عقمها ..
لقد بحثت عنها سنتين كاملتين حتى عثرت عليها .. لتطفيء لهيبي .. وتدفيء فراشي .. وتؤنس وحدتي .
قلت له : وكيف تستطيع الحياة بدون أولاد … الأبناء زهور الحياة ورحيقها .
ضحك بكل ألق وجمال وقال : أنا عشت في أسرة كبيرة .. سبعة إخوة واربعة أخوات .. وانا كنت اصغرهم .
كلهم متزوجون .. ولديهم من الابناء العدد الكثير و الوفير ..
لقد رأيت معاناتهم .. لقد شاهدت ألمهم ..
لقد سمعت وجعهم وانينهم .. غضبهم ..
ولمست اذلالاهم وشقاءهم وانحناءهم لزوجاتهم وابناءهم ..
رغم سعادتهم لكنهم تعساء ،… ورغم فرحهم لكنهم أشقياء ..
إنها عملية نفسية معقدة جدا لا يمكن تحليلها بسهولة
كانت حياتهم تحذيرا و إنذارا كبيرا لي ..
لا ارغب في ان أعيش تجربة أحدهم مهما كانت ممتعة ورائعة …
لا ارغب في الانحناء من أجل أبناء لا اعرف ماذا سيقدمون لي ..
لا اتمنى الركوع والانذلال من أجل أطفال لا أضمن برهم .. ووفاءهم .. كما لا أضمن موتهم .. ومرضهم
لا تصدق بأن الأبناء سيدعون لك في صلاواتهم … وسجداتهم .
لا تصدق بأن الأبناء سينحنون لك ليناولوك حذائك البالي .. ويضعونه في قدمك المرتعشة ..
لا تصدق بأنهم سيدفعون من جيوبهم صدقة تطهرك من الذنوب والخطايا ..
لا تصدق بأن الأبناء سيمنحونك بطاقة دخول إلى الجنة ..
لا تصدق بأنهم سيغيرون (حفاظتك) حين تصاب بجلطة دماغية في هذا المجتمع الذي يقتلك يوميا .. ويحاول تجليطك بأي طريقة .
هذه كلها عروض واعلانات دينية مزركشة لتشجيع التكاثر والتناسل .. وملء الأرض بالاشقياء والتعساء .
مفهوم الأبن البار غير متوافر حاليا not
available
حقيقة الأبن البار غير متاحة في الزمن الراهن .. وان كانت متوفرة .. فهي نادرة ندرة المعادن النفيسة .
الأبناء يقتلونك .. ولا يحيونك ..
الأبناء يمرضونك ولا يشفونك يا صديقي .
الأبناء يسقطونك …. ولا يرفعونك أبدا
أنا لا ارغب في بقاء اسمي حيا .. ولا اتمنى لسلالتي الانتشار والاستمرار ..
اريد ان أعيش لنفسي فقط .. وأموت بنفسي .
والحمد لله .. حققت رغبتي .. وأمنيتي .. وانا أعيش أجمل أيام حياتي مع زوجة لا تنجب ..
فأنا كل شيء في حياتها .. وهي كل ما أنتمي إليه في هذه الحياة .
عشت ثلاثين عاما قبل وصولها ..
طائرا حرا .. طليفا .. سريحا ..
ومازالت اجنحتي طويلة وطليقة .. احلق بهما كيفما أشاء
صمت صديقي ليكمل احتساء الشاي .. وازدراد القطعة الأخيرة من خبزته الأخيرة ..
ثم نظر الي بعينين واسعتين كأنهما سحابة حبلى بالمرح .. ليكمل صمته .
اذن كان ذلك هو سر قوته .. وصحته .. وعافيته ..!!
لقد اقنعتني فلسفته ..
واذهلتني حكمته ..
و(كلا ميسر لما خلق الله ) .
البشر عقول مختلفة .. وأفكار متباينة واعتقادات متنوعة ..
ولكل إنسان مطلق الحرية في التفكير والاعتقاد بما يشاء ..
هو .. فضل ان يعيش حرا طليقا .. لا يخضع لزوجة .. ولا يلتزم ويخضع لأسرة .. ولا ينحني لرغبة ابن او ابنة ..
وقد استطاع أن يغذي هذه الرغبة في أعماقه منذ سنوات شبابه الأولى .. لذلك نجح في الانتصار على غريزة الأبوة .. وهزمها بسهولة كبيرة .
لكن الغالبية العظمى من الرجال يفضلون القفص الزوجي .. يفضلون الاختناق .. يحبون الانكسار والانتكاس .. يعشقون الانحناء للنساء مقابل متعة سريعة كاذبة .. أنهم يستمتعون بالانهيار .. والذل .. والهوان لأجل عيون أطفالهم البريئة الجميلة ..!!
هي في النهاية أفكار .. ومعتقدات ..
والكيس ليس من أنجب أبناء .. وبنات ..
بل الكيس من فهم الحياة .. وأدرك ماهيتها .. واستطاع الانتصار عليها .. والاستمتاع بكل دقيقة فيها .
… كونوا بخير …
عبدالله الفارسي