أحيانا يكون للحيوان مكانة في قلب الإنسان . . يزرع نفسه في قلوبنا بطريقة لا إرادية .. يجبرنا على المرح معه .. والحزن لأجله .. والشفقة عليه .
..
كنا قد قررنا أنا وأصدقائي الأربعة كعادتنا الشهرية الخروج في رحلة برية…
حيث الوادي الرملي .. يلتحف الهدوء .. وحيث الليل يرتدي عباءة من الصمت والخشوع ..
والسكون يدغدغ الروح .. ويعانق الفؤاد .. فيجبره على أن يعزف سيمفونية على أوتار الوادي العاشق للحصى .. والحصباء ..
…
ضربنا موعدنا .. وحددنا مبلغ رحلتنا .. ونفقات طعامنا وحجم شرابنا ..
كانت نقطة التجمع في آخر المدينة .. حيث نركن سياراتنا .. ونركب سيارة الإرتحال المعتادة .. الباجيرو القديمة .. ذات الدفع الرباعي .. والتي كانت رفيقتنا المخلصة لسنوات طويلة .
كان الجميع قد تواجد في نقطة الإلتقاء في الوقت المحدد ..
الكل أنزل أغراضه المكلف بإحضارها .
كنا خمسة شباب ..
حملنا حاجاتنا في صندوق الباجيرو .. وعبأناه حتى التخمة .. والخيمة وأوتادها تتربع في سقف السيارة .. وتسكن قمتها .
ركبت في المقعد الخلفي كالعادة .. فأنا من عشاق المقاعد الخلفية .. دائما أحافظ على مركزي الخلفي .. حيث أستمتع بمراقبة الرؤوس .. وتأمل الوجوه القابعة أمامي .
تحركت سيارتنا ..
فوجئت بأن شيئا في الخلف يلعق رقبتي .. فالتفت .. فإذا “بكبش” جميل أبيض ينظر إلي وكأنه يبتسم ..
لم أنتبه إلى رفيقنا السادس ..
ولم أتوقع وجوده معنا .. فنادرا ما نحمل معنا كبشا حيا .. حيث غالبا ما نكتفي بجزء من ذبيحة .. أو بعضا من الدجاجات المثلجة ..
..
أهملته .. ولم أكترث لوجوده .
وأخذت أتبادل الكلمات .. وأمضغ النكات مع رفقتي وأصدقائي .
ولكن الكبش كان مكترثا بي …
فأخذ يعبث برقبتي وشعري من الخلف بكل نعومة ولطف .
ظل الكبش طوال ساعتي الرحلة على هذه الطريقة .. رغم أن أمامه ثلاثة رؤوس كبيرة لكنه لم يلتفت إليها مطلقا .. مركزا جل إهتمامه وعنايته على رأسي ورقبتي ..!
..
وصلنا إلى مكان التخييم ..
أنزلنا أغراضنا .. وغرسنا أوتاد خيمتنا .. ووزعنا مهامنا .. وأوقدنا نارنا .
أحد أصدقائي لم يربط الكبش .. وإنما أطلقه على سجيته وكأنه متيقن تماما بأن هذا الكبش لن يبتعد عن المكان أبدا ..
..
وفعلا .. ظل الكبش في معيتي .. يمشي حيث أمشي .. ويجلس حيث أجلس .. لاصقا فروه بجلدي .
تارة يقفز فوقي ويلاحقني .. وتارة يمضغ إزاري …
حتى حين أبتعد بعيدا للتخلص من الماء المتكدس في مثانتي .. كان برفقتي !
سبحان الله .. هل كنا روحا واحدة في عالم السرمد .. انقسمت الى روحين مختلفتين حين قرر الله أن ينزلنا الأرض .. وسيتخلفنا فيها .. !!
هل روح الحيوان وروح الإنسان روحين متماثلتين متناغمتين ..
أم أن روح الحيوان تختلف تماما عن روح الإنسان ..!!!!؟
لست أدري !!
..
لا يمكن أن تكون هذه المودة التي يمارسها هذا الكبش المسكين معي مودة عادية .. حتما هناك لغزا غامضا في روحه .. هو يعرفه .. وأنا أجهله .
..
كان الشباب قد قرروا ذبح الكبش في الصباح .. لذلك قضى الكبش كل المساء بصحبتي .. بين قفز فوقي .. وعبثا .. ولعقا لرأسي .
فكان يجلس حيث أجلس .. ويمشي حيث أمشي .. لذلك لم يفكر أصدقائي في ربط الكبش ليلا .. فقد تأكدوا بأنه مرتبط بي رباطا أوثق من رباط الحبل .
كان سلوكا عجيبا غريبا .. لم أفهمه ..!
…
نهضنا جميعنا قبل الشروق بقليل .. صلينا الفجر جماعة ..
وصلى الكبش معنا .. كان يقف ملاصقا لي .. وكأنه الرجل السادس .
كان يجلس حين نتشهد ..
ويقف منتصبا حين نكبر وننتصب .
سبحان الله .. ما سر هذا الكبش العجيب ..!
أشرقت الشمس .. وانبلج النور ..
بعد الصلاة مباشرة .. رأيت أحد أصدقائي يسن السكين ويشحذها .. فباغتني حزن عميق .. واقتحمني غم ثقيل ..
هل سيذبحون هذا الكبش الرائع الجميل ..؟
لم أحتمل رؤية السكين ..
فكيف سأحتمل رؤيتها وهي تقطع رقبته .. وتفصل رأسه عن جسده .
كان من المقرر أن الشخص الذي يمسك الكبش ويرديه أرضا لذبحه هو أنا .. ولكني اعتذرت منهم ..
ورجوتهم بأن يعفوني من هذه المهمة العنيفة ..
كيف أشارك في ذبح كبشا متعلقا بي .. ملتصقا بجسدي منذ البارحة !!
مسكه أحدهم من رأسه وسحبه إلى مكان الذبح حيث مثواه الأخير .. وتبعه آخر يحمل سكين الموت اللامعة .. وأداة الفناء القاصمة ..
فلم أتمالك نفسي .. وهربت بعيدا .. بعيدا عن المكان ..
بعد ساعة أو أقل بقليل عدت من مكاني البعيد ..
مشيت وجلا .. متعثرا ..
مررت على المكان الذي ذبح فيه صديقي الكبش .. حيث أنتهوا من مهمتهم الدموية ..
اقتربت ممتعضا من المكان ..
كان الكبش قد تحول إلى أجزاء من اللحم والشحم مكدسة في وعاء كبير .
لم أنتبه للرأس .. والذي ترك في مكانه كما هو ..
ولكني فجأة التفت إلى الرأس .. فرأيت عينيه تنظر إلي بتمعن وتركيز ..
كان في عينيه عذاب .. ودموع ..
اقتربت من الرأس ..
فتهيأ لي بأن شفتيه تتحركان .. وكأنه يتمتم بكلمات ..
فوضعت أذني اليمني على فمه ..
فخيل إلي بأنني سمعته يهمس لي :
( هذه نهاية كل “كبش” يا صديقي.! )
عبدالله الفارسي