يوماً بعد يوم أخذت تطورات تحريك الأزمة السورية، ضمن موجة “تسوية الأزمات” التى بدأت تفرض نفسها عربياً منذ زلزال الحدث الأفغانى، تطرح مؤشرات مهمة تكاد تشكل المعالم البارزة لأى تسوية محتملة للأزمة السورية. أول هذه المعالم أن الدور الأمريكى المستقبلى أضحى محدوداً ويتلخص فى الإبقاء على قوات أمريكية للدفاع عن “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) الكردية الحليفة وتمكينها من فرض سيطرتها على منابع النفط السورية فى منطقة شرق الفرات، على أمل استخدام هذا الدور كورقة ضغط على سوريا فى التسوية المقبلة كى لا تكون هذه التسوية بدون ثمن، والثمن الذى تريده واشنطن من سوريا يتركز فى ثلاثة مطالب؛ أولها إخراج إيران من سوريا ، وثانيها تأمين علاقات سوريا مع جوارها والمقصود هنا فرض ترتيبات أمنية مع إسرائيل تحقق مطالب الأمن الإسرائيلية وخاصة فى الجولان السورى المحتل ومنع أى وجود إيرانى أو لـ “حزب الله” فى المناطق الجنوبية القريبة من الحدود مع إسرائيل، وثالثها قبول سوريا بما يتضمنه القرار الدولى رقم 2254وخاصة من مطالب تأمين حقوق المشاركة السياسية وتأمين التعددية، والإفراج عن المعتقلين وعودة كريمة للاجئين السوريين.
ثانى هذه المعالم أن روسيا أضحت القوة الدولية التى تكاد تتفرد بإدارة التسوية السورية بإعتراف كل الأطراف لما تملكه روسيا من أوراق قوية فى سوريا.
أما ثالث هذه المعالم أن نجاح الدور الروسى فى تسوية الأزمة السورية يتوقف على امتلاك حلول قوية لحل تنازع المصالح بين القوى الإقليمية الثلاث المتنازعة على النفوذ فى سوريا: إسرائيل وإيران وتركيا فى ظل وجود مصالح قوية سياسية واقتصادية واستراتيجية لروسيا مع هذه الدول الثلاث .
لفترة غير قصيرة مضت كانت العلاقات الروسية- الإسرائيلية مثار تشكك فى العقل الاستراتيجى العربى الذى يبدو أنه كان مازال أسيراً لحقبة العلاقات العربية المميزة السابقة مع الاتحاد السوفيتى عندما كانت موسكو منحازة إلى الحقوق العربية خاصة فى فلسطين وكانت لها علاقات أقرب إلى التحالف مع دول عربية كانت مصنفة ضمن المعسكر الرافض لسياسة الهيمنة الأمريكية وقت أن كان العداء بين موسكو وواشنطن فى ذروته.
هذا التشكك ظل يحكم العقل والفكر العربى فى التعامل مع موسكو خاصة بالنسبة للقضية الفلسطينية، لكن السلوك الروسى فى الأزمة السورية وما أظهرته موسكو من “صمت مريب” على اعتداءات إسرائيلية ضد الجيش السورى وضد حلفائه خاصة إيران و”حزب الله” على الأراضى السورية أزال ستار الغموض عن السياسة الروسية، وكشف أن روسيا الجديدة حريصة على أن تكون حليفة لإسرائيل فى الشرق الأوسط اعتقاداً منها بأن “إسرائيل بوابة مهمة للدخول الروسى إلى حوض البحر المتوسط وإقليم الشرق الأوسط”.
دعم هذه القناعة الروسية أن إسرائيل كانت شديدة الحرص على نسج علاقات مصالح قوية مع روسيا خاصة فى سوريا تتمثل فى الاعتراف الإسرائيلى بالمصالح الروسية فى سوريا، وإطلاق يد روسيا لحل الأزمة السورية على النحو الذى تريده موسكو شرط أن تعترف روسيا بالمقابل بوجود مصالح أمنية إسرائيلية فى سوريا أبرزها إخلاء سوريا من الوجود الإيرانى وكل حلفاء طهران على الأراضى السورية ، وإعطاء إسرائيل حق الدفاع عن نفسها على الأراضى السورية بحيث تغض الصواريخ الروسية المتطورة الموجودة فى حوزة الجيش السورى الطرف عن الاعتداءات الإسرائيلية فى العمق السورى عندما تضرب إسرائيل مواقع إيرانية أو حليفة لإيران شرط عدم استهداف القوات السورية، أو الروسية بالطبع.
يبدو أن روسيا توصلت إلى حلول ترضيها مع إسرائيل كشفها بوضوح شديد وزير الخارجية الروسى سيرجى لافروف عند استقباله وزير خارجية إسرائيل الجديد مائير لابيد فى موسكو (9/9/2021) ، هذا التوافق الروسى- الإسرائيلى أكده بيان لوزارة الخارجية الروسية قبل وصول الضيف الإسرائيلى جاء فيه أن روسيا “لا تريد سوريا حلبة لصراع عسكرى مع دول أخرى”. فروسيا لا تريد للغارات الإسرائيلية أن تتحول إلى مواجهة بين دمشق وتل أبيب أو بين طهران وتل أبيب عبر محور “الجولان – درعا” لذلك أعلن عقب لقاء يائير لابيد مع لافروف عن التوصل إلى “آلية روسية- إسرائيلية” لحل الخلافات بين البلدين إزاء الوجود الإيرانى فى سوريا.
أما بالنسبة لتركيا فإن روسيا مازالت مرتبكة فى حل أزمة الوجود التركى على الأراضى السورية، ويبدو أن قمة سوتشى الأخيرة بين الرئيسين الروسى فلاديمير بوتين والتركى رجب طيب أردوغان (29/9/2021) بعد أقل من ثلاثة أسابيع من اجتماع قمة مماثلة بين الرئيس الروسى ونظيره السورى الرئيس بشار الأسد لم تستطع حل أزمة الدعم التركى للمنظمات الإرهابية فى إدلب ولم تحل أزمة الوجود العسكرى التركى غرب الفرات وشمال سوريا، رغم أن الرئيس الروسى كان يعوِّل على تأزم العلاقات التركية – الأمريكية لمزيد من التنازلات التركية، ولأن هذا لم يحدث فقد عادت المقاتلات التركية والقوات السورية لاستئناف قصفها الجوى والبرى فى 1/10/2021) بعد توقف خمسة أيم سبق القمة الروسية- التركية على منطقة “خفض التصعيد” ومناطق أخرى فى إدلب، فى إشارة إلى أن روسيا مازالت عندها مهام كبيرة لحل أزمة الوجود التركى فى سوريا ولكن بما يحفظ لروسيا مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية مع تركيا.
تبقى إيران تشكل المعضلة الأهم بالنسبة لروسيا فى سوريا، معضلة تحكمها المصالح العميقة المشتركة بين البلدين كما يحكمها التحالف المشترك فى سوريا ضد الإرهاب وضد كل الأطراف التى تدخلت لإسقاط النظام فى سوريا، وفى ظل إدراك روسى حقيقى بقوة المصالح والنفوذ الإيرانى فى سوريا، وعمق التحالف الاستراتيجى بين دمشق وطهران الذى يمتد تاريخياً إلى الأعوام الأولى لتفجر الثورة الإيرانية عام 1979، وإدراك الرئيس السورى بشار الأسد أن التحالف مع إيران يعد أحد أهم ضمانات الحفاظ على النظام فى سوريا، وأحد أهم مرتكزات انخراط سوريا فى “محور المقاومة” بالتحالف مع إيران و”حزب الله” ضد كيان الاحتلال الإسرائيلى. وقبل هذا وذاك ما سبق أن أعلنته وأكدته موسكو على لسان كبار المسئولين بأن الوجود الإيرانى فى سوريا مشروع لأنه جاء بطلب رسمى من الحكومة السورية، تماماً كما هو الوجود الروسى على العكس من أى وجود آخر سواء كان أمريكياً أو تركياً أو أوروبياً ، تطالب روسيا بإنهائه لذلك تواجه روسيا تحديات هائلة فى إيجاد صيغة لتسوية الأزمة السورية تأخذ فى اعتبارها الحفاظ على مصالح إيران فى سوريا المرفوضة أمريكياً وإسرائيلياً وأوروبياً بشكل أساسى ناهيك عن الرفضين التركى والعربى، فهل لدى موسكو صيغة لحل إشكالية الوجود الإيرانى فى سوريا لضمان تحريك ملف التسوية السورية؟
سؤال صعب تحكمه ملفات شديدة التعقيد تتداخل فيها مصالح أطراف كثيرة، لكن يبقى ملف العلاقات السورية- الإيرانية هو أهم هذه الملفات، بمعنى أى اختيارات ستقبل سوريا للتسوية هل ستقبل تسوية تريدها أم تسوية مفروضة عليها ؟ إجابة هذا السؤال ستحكم مسارات تسوية روسيا مشكلتها فى سوريا مع إيران .
د. محمد السعيد إدريس
جريدة الأهرام : 12 / 10 / 2021 م