في الحديث عن المشهد اللبناني السائد اليوم بما يخيم عليه من أجواء الفتنة الطائفية والمذهبية وحالة الفوضى المتفاقمة والحروب الأهلية المتصلة بلا توقف، لا يمكننا أن نفصل كل ذلك عن المخططات والمشاريع والخرائط الصهيونية المتعلقة بلبنان، ويمكن أن نذهب أبعد من ذلك بالتوثيق بأن “كل مظاهر الفتنة والفوضى والحروب الأهلية في لبنان إنما هي صناعة صهيونية ولكن بأدوات محلية”، وهناك في الجعبة والأرشيف كم هائل من الوثائق والشهادات التي تتحدث عن الدور الصهيوني-الاستعماري في استهداف لبنان وغزوه وتخريبه. فمن أين إذن نبدأ الحكاية اللبنانية في الاستراتيجيات الصهيونية؟! ومتى وضعت الحركة الصهيونية لبنان هدفاً لغزوها ولأطماعها التوسعية؟
بقراءة الأدبيات الصهيونية التاريخية نجد أن الأطماع الاسرائيلية في الأراضي العربية وفي المياه العربية وفي الهيمنة الاستراتيجية على المنطقة برمتها قائمة متصلة لم تتوقف منذ البدايات الأولى للحركة الصهيونية ونشأة الكيان. فقد أشار بن غوريون أول رئيس وزراء للكيان الصهيوني في تقرير قدمه أمام المجلس العالمي لعمال صهيون عام 1937 إلى الأهداف الاستراتيجية الصهيونية بعيدة المدى، حيث قال: “أن الدولة اليهودية المعروضة علينا بالحدود الحالية (على يد اللجنة الملكية البريطانية) لا يمكن أبداً أن تكون الحل المنشود لمسألة اليهود، ولا هدف الصهيونية الذي سعت إليه طويلاً، حتى لو أجريت على هذه الحدود بعض التعديلات الممكنة واللازمة لصالحنا.. إلا أنه يمكن قبولها بوصفها المرحلة الأولى والأساسية التي تنطلق منها تتمة مراحل تحقيق الوطن الصهيوني الأكبر، وذلك عن طريق بناء قوة يهودية جبارة فيها، وبأقصر وقت ممكن، ثم احتلال باقي مناطق مطامحنا التاريخية كلها – عن كتاب الصهيونية فكراً وعملاً – ص81 – “.
وكان بن غوريون “من أكثر المؤيدين لإسرائيل الكبرى على مدى سنوات عديدة، وذلك في منتصف الخمسينات، حيث كان يحلم في شبابه بدولة إسرائيلية تمتد على جانبي نهر الأردن – ميخائيل بارزوهر – صحيفة الجروزلم بوست 7/5/1990 “. وكذلك كان يوسف طرومبلدور أحد كبار الزعماء التاريخيين للطلائع الاستعمارية الصهيونية في فلسطين، قد أدلى بقول تبناه كبار المنظرين الصهيونيين من بعده أكد فيه “حدودنا تكون في كل مكان يصل إليه محراث عبري – طرومبلدور في نشرة أصدرتها نقابة المعلمين الصهيونيين لصالح الكيرن كييمت – “.
وقد وثق الشاعر الصهيوني المتشدد حاييم حيفر تلك النزعة الصهيونية التوسعية العدوانية في نشيد الطلائع الصهيوني، حيث قال: “نحن نمهر حدودنا بوطء أقدامنا… ونتجاوز بخطانا بعض ما ليس لنا.. ونقتحم – حاييم حيفر من رجال البلماخ وله زاوية دائمة في صحيفة يديعوت أحرنوت “.
وعززت وثيقة بالغة الخطورة أطلق عليها اسم الخطة الاستراتيجية للجيش الإسرائيلي لعام 1956 – 1957 النزعة الاستراتيجية الصهيونية الموثقة بأقوال بن غوريون وغيره أعلاه. وقد نقل الوثيقة إلى اللغة الإنجليزية السياسي الهندي ر.ك. كرانجيا – ونشرها في كتابه ” خنجر إسرائيل “. وما جاء على لسان قادة الجيش الإسرائيلي فيها ” … لذا يجب أن نضنع نصب أعيننا في كل الخطط التي نرسمها الهدف المزدوج التالي:
الاستيلاء على الأراضي ذات الأهمية الجوهرية لنا في زمن الحرب، وذلك كهدف أدنى.
الاستيلاء على الأراضي الكفيلة بأن تسد كل احتياجاتنا، وذلك كهدف أقصى – ر.ك. كرانجيا / خنجر إسرائيل، الطبعة الأولى 1958 ص45″.
وأوضحت الوثيقة / الخطة “أن الهدف الاقليمي الأدنى لإسرائيل هو احتلال المناطق المجاورة لقناة السويس ونهر الليطاني والخليج الفارسي، لأنها تنطوي على أهمية حيوية – المصدر السابق نفسه ص 81 “، وفي الإطار ذاته جاء في كتاب: “إسرائيل استراتيجية توسعية مغلفة بالسلام”، لمؤلفه البروفسور الإسرائيلي المعروف يسرائيل شاحك: “أن رغبة إسرائيل الحقيقية هي السيطرة والنفوذ، وهدفها الحقيقي هو بسط نفوذها وسيطرتها على الشرق الأوسط برمته من المغرب حتى باكستان، وأطماعها أطماع إقليمية بالأساس، إلا أنها لا تخلو من أطماع عالمية – صحيفة الأيام الفلسطينية 18/4/1998”. وقد تبنى الجنرال باراك في عهده ذات المنطق الاستراتيجي الـ بن غوريوني – الرابيني وبشكل خاص ما يتعلق منه بالهيمنة والأطماع الاستراتيجية في المنطقة كلها، إذ أعلن وردد باراك غير مرة: “أن إسرائيل أقوى دولة في المنطقة في مجال / مدار 1500كم، وهي أقوى من كل جاراتها، ليس فقط بفضل عظمة الجيش الإسرائيلي وصورتها كدولة نووية، وإنما أيضاً لأنها تمتلك اقتصاداً متطوراً وعلاقات خاصة مع الولايات المتحدة وبنية علمية وتكنولوجيا متقدمة.. وتستند إلى الدوافع الوطنية – الوف بن / صحيفة هآرتس العبرية 28/9/1999 “. وجاء في قراءة بين سطور الاستراتيجية التي أعدها الجنرال باراك “أن استراتيجية إسرائيل لعام 2020 ترفض الاندماج بالمحيط وتعتمد التفوق التكنولوجي –11/7/1998.
ولا حاجة هنا لنشرح الآفاق والمغازي الحقيقية لاصطلاح التفوق التكنولوجي من وجهة نظر صهيونية، حيث أنه يعني في الجوهر استمرار التفوق الاستراتيجي على المنطقة كلها، وفي بعد الاستراتيجية والأطماع الصهيونية أيضاً كشفت وثيقة إسرائيلية أخرى وضعها ثلاثة باحثين إسرائيليين ترأسهم مهندس المياه اليشع كالي، بتكليف من إدارات حكومية رسمية، النقاب عن الأطماع الصهيونية في الأقطار العربية، حيث أكدت: “أن هدف إسرائيل هو السيطرة على مصادر المياه، وجر النيل إلى النقب، والليطاني إلى طبريا.. وشق واصلاح وانشاء الخطوط الحديدية والطرق المعبدة لربط الكيان الصهيوني بالدول العربية المجاورة.. والأهداف والدوافع اقتصادية وسياسية واستراتيجية – صحيفة دافار العبرية 4/6/1983 “.
وجاء في تقرير إسرائيلي آخر: لقد اعتبر الصهيونيون أرض إسرائيل المعلنة تلك الممتدة من الليطاني وحتى سيناء، ومن الجولان حتى البحر – عن نشرة كيفونيم العبرية – 16/2/1985″.
ولقد اعتمدت الحركة الصهيونية ودولة الكيان الصهيوني جملة ركائز في استراتيجيتها بغية تحقيق أهدافها الاستراتيجية، والتي نشير لها بالخطوط العريضة فقط وهي:
أولاً : بناء قوة عسكرية ضاربة متعاظمة متفوقة على كل الجيوش العربية.
ثانياً : تبنى نظرية الردع الاستراتيجي للعرب عن طريق بناء ترسانة أسلحة نووية.
ثالثاً : العمل بنظرية الضربة الوقائية القاضية ضد الدول والجيوش العربية القوية التي قد تشكل تهديداً لدولة ” اسرائيل “.
رابعاً : احتلال أكبر مساحات ممكنة من الأراضي العربية المحيطة وضمها إلى ” اسرائيل “.
خامساً : استقدام أكبر عدد ممكن من يهود العالم وتوطينهم فيها.
سادساً : أما تكتيكياً على المستولي العسكري / فقد تبنى الجيش الإسرائيلي تكتيك الضربات والعمليات الانتقامية التي كثيراً ما أسفرت عن مجازر جماعية ضد الفلسطينيين والعرب.
وتمخض عن هذا التكتيك عبر الزمن نظرية الاجتياحات للأراضي العربية واللبنانية منها خاصة، والتي صاحبها على الدوام عمليات قتل وحرق وتدمير ومحو للمدن والقرى والبيوت والمزارع.
لبنان في الاستراتيجية الصهيونية
استهدفت الاستراتيجية الصهيونية كما تبين أعلاه الأوطان والعواصم العربية، وامتدت الأطماع الصهيونية لتشمل الأراضي ومصادر المياه العربية والهيمنة الاستراتيجية على المنطقة كلها، فقد احتل لبنان مكانة متقدمة في الاستراتيجية والأطماع الصهيونية التاريخية. ولا بأس أن نتساءل هنا مع الدكتور أحمد صدقي الدجاني-رحمه الله- الذي تساءل: “من أين نبدأ القصة؟ متى وضعت الحركة الصهيونية جنوب لبنان هدفاً لغزوها ولأطماعها التوسعية؟ وكيف انتقلت إلى التخطيط ثم اجتياح الجنوب؟ ثم متى بدأت تعاني؟ وكيف اضطرت للقيام بانسحاب أول؟ وكيف عمدت إلى اقتراف جرائم حرب بشعة يحفظها كتاب احتلالها؟ وأخيراً كيف اضطرت للانسحاب من الجنوب بمهانة وانهزمت؟ – صحيفة الدستور الأردنية 3/6/2000 – “.
وفي الرد على ذلك نوثق الحقائق التالية:
بدأت الحركة الصهيونية تربصها بلبنان منذ بدأت غزوها لفلسطين أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، وكانت فلسطين ولبنان قبل عام 1916 إقليمين تحت الحكم العثماني، وكانت حدود فلسطين الإدراية مشتركة مع سنجق بيروت، وكان شمال فلسطين يضم لواءي نابلس وعكا، وهما جزآن من ولاية بيروت. وجاءت معاهدة سايكس بيكو عام 1916، لترسم خطوطاً فاصلة بين ال قطر ين ثم جاء تصريح بلفور عام 1917، وتبعه قيام إنكلترا وفرنسا نيابة عن فلسطين والرافدين ( العراق ) وسورية ولبنان بتحديد الحدود السياسية بين مناطق ” انتدابهما ” في معاهدة باريس بتاريخ 23/1/1920، بعد أن احتلتا هذه الأقطار آخر الحرب العالمية الأولى واستعمرتاها تحت اسم ” انتداب ” أقرته عصبة أمم تسيطر عليها دول الهيمنة الأوروبية، وما أسرع ما طرأت تعديلات على هذه الحدود، ولا سيما الحدود بين فلسطين ولبنان.
وتكشف لنا مذكرة بعث بها لورد بلفور إلى لويد جورج رئيس وزراء بريطانيا في 26/6/1919 عن العامل الصهيوني في رسم هذه الحدود، وقد جاء فيها الشيء الرئيس الذي يجب أن يؤخذ في الاعتبار في تحديد هذه الحدود هو جعل السياسة الصهيونية ممكنة من خلال إعطاء مجال للتطورات الاقتصادية في فلسطين، ولذا يجب أن تعطي الحدود الشمالية لفلسطين سيطرة كاملة على مصادرة المياه، ويوم ذاك أجمع المسؤولون الإنكليز في فلسطين، وهم من الصهاينة أو من الموالين للصهيونية على أن ترسم الحدود في أماكن تمكن من الحصول على مياه الليطاني ومياه نهر الأردن معاً.
حين قامت لجنة تعيين الحدود برسمه في الطبيعة وتثبيته على الخريطة، وجدت صعوبات بالغة وهي تفصل ما كان موصولاً دوماً، وهكذا بلغ عدد القرى التي قسمها الحد 22 قرية على طول الحدود الفلسطينية – اللبنانية السورية، واضطرت الدولتان المنتدبتان “المستعمرتان” إلى إبرام اتفاقية حسن جوار عام 1926 لمعالجة المشكلات التي نجمت عن رسم الحدود وعانى منها أهل البلاد ما عانوا، لأنها مست جوانب حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والروحية والسياسية، وتكشف الدراسات التي أجريت على هذا الموضوع، ومنها دراسة الدكتور محمد محمود الديب، أن الصهيونية بذلت قصارى جهدها لضم جنوب لبنان إلى الأرض التي وعدتها بريطانيا أن تكون وطناً قومياً لليهود فلما لم تصل مبتغاها جعلت تغيير الحدود هدفاً لها، وعبرت عن قناعتها “بأن الحدود السياسية هي غشاء رقيق يغلف كائناً حياً، وأن نمو هذا الكائن الحي سيؤدي حتماً إلى تمزيق الغشاء الرقيق ليتوسع على حساب الأقطار المجاورة لفلسطين”، وهذه هي المقولة التوسعية الصهيونية، وهكذا أصبحت السيطرة على جنوب لبنان من بين أهداف التوسع للحركة الصهيونية ” – صحيفة الدستور / المصدر السابق نفسه -.
وفي السياق التوثيقي نعرض هنا لتطور الاستراتيجية والأطماع الصهيونية في لبنان:
بعد أن أقامت قوة الهيمنة الدولية ” دولة إسرائيل ” عام 1948 للحركة الصهيونية وحلت النكبة بشعب فلسطين العربي، وكانت لبنان ومعها سورية بين أوائل الأقطار التي نالت استقلالها في ثورة التحرير العالمية عام 1945، وهكذا أصبح الوجود الصهيوني على تخوم لبنان الجنوبية، وشرعت الحركة الصهيونية في بلورة مخطط تجاه لبنان، وقد كشفت لنا يوميات موشي شاريت خطوط هذا المخطط الذي نشرت دراسة قيمة عنه ليفياروكم. تحدثت هذه اليوميات عن اجتماع شارك فيه مع موشي شاريت بن غوريون ولافون وديان يوم 27/2/1954 جرى البحث فيه عن لبنان، وبلور الاجتماع اقتراحاً محدداً لخلق المتاعب في أكثر الجيران أمناً وهو لبنان بعد أن كانت المجموعة نفسها قد ناقشت خططاً لغزو سورية ومصر، وفي حالة لبنان لم تحاول طموحات الهيمنة الإسرائيلية، على حد تعبير ليفياروكم، أن تتظاهر بستر عورتها بورقة تين من مزاعم ” الأمن ” و ” الدفاع “، فقد طرح بن غوريون اقتراح إيجاد دولة مارونية في جزء من لبنان ينفصل عنه وتتحكم فيه ” إسرائيل “، وثار جدل حول الاقتراح عمد فيه شاريت إلى تفنيده ووصفه ” بأنه كلام فارغ ” وشرح العقبات التي تقف أمام تنفيذه، وجماعها عدم وجود عامل واحد جاهز لخلق مثل هذه الحالة، ورد بن غوريون بعنف موجهاً انتقادات لشاريت منها افتقاره للجرأة وصغر عقله وضيق أفقه، وحين قال شاريت ” لا نملك المال اللازم “، أجابه بن غوريون “المال يتم توفيره، إن لم يكن من الخزانة، فمن الوكالة اليهودية نأخذه”، وختم قائلاً “عندما يحدث هذا، فإن تغييراً حاسماً سوف يأخذ مكانه في الشرق الأوسط”.
تتابع يوميات موشي شاريت سرد قصة هذا المخطط الصهيوني تجاه لبنان، فتورد رسالة بعث بها بن غوريون في اليوم نفسه حين عاد إلى منتجعه في سيدي بوكر؛ شرح فيها الهدف تفصيلاً، وكيفية العمل لتحقيقه، وختم قائلاً: لا أدري أن كان رجال في لبنان، ولكن هناك طرقاً متعددة يمكن بواسطتها تنفيذ هذا المخطط. وقد رد شاريت برسالة يوم 18/2/1954 تزحزح فيها عن موقفه، وهكذا انتقل الحوار في 16/5/1954 إلى كبار الضباط والمسؤولين في وزارتي ” الدفاع والخارجية “، وطرح عليهم بن غوريون اقتراحه، وتبعه ديان الذي رسم ” شريط مشاهد ” متكاملاً (سيناريو)، يبدأ بإيجاد ضابط أو حتى ” مأجور ” يقبل القيام بدور ترسمه ” إسرائيل ” له، ويوافق أن يعلن منقذاً للبنان، ثم يقوم الجيش الإسرائيلي بدخول لبنان واحتلال جزء من أراضيه وإقامة دولة في هذا الجزء تكون حليفة ” لدولة إسرائيل “، وعندما تضم ” إسرائيل ” الأراضي الواقعة جنوب لبنان ضماً كلياً. يلفت النظر في القصة أن ديان باشر التمهيد لتنفيذ المخطط بالقيام في 22/9/1954 بعدوان على لبنان، تحت غطاء أنه انتقامي رداً على حادث غامض وقع في طبرية، وذلك على الرغم من اعتراض شاريت على فتح جبهة جديدة على حدود كانت هادئة تماماً منذ انشغال ” إسرائيل ” بالتآمر مع فرنسا وبريطانيا لشن العدوان الثلاثي على مصر، ولكن أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية تابعت محاولاتها البحث عن ” عميل “. ودخل المخطط الإسرائيلي تجاه لبنان مرحلة جديدة بعد حرب حزيران ( يونيو ) 1967 التي أرادت بها الحركة الصهيونية تمهيد أرضية ” التغيير الحاسم في الشرق الأوسط ” على حد تعبير بن غوريون، وكانت هذه الحرب تستهدف في ما تستهدف السيطرة على منابع المياه في الجولان، فهي ” حرب حول المياه ” في أحد وجوهها.
وكان أبا ايبان قد شرح في كتابه ” شعبي ” وفي عدد من محاضراته تصوراً لهذا ” الشرق الأوسط ” الذي يضم شعوباً مختلفة ودولاً، وكان مهد حضارات متباينة على حد زعمه، وصولاً إلى تبرير وجود ” إسرائيل ” في قلب الوطن العربي، وإلى ” بلقنة ” المنطقة بإقامة دول فيها على أساس طائفي .- المصدر السابق نفسه – “. وقد ثبتت الخطة الاستراتيجية للجيش الإسرائيلي المشار إليها أعلاه، أهداف العمليات الهجومية الإسرائيلية في القطاع الشمالي بالنص التالي:
“أن سلامة مناطقنا الحيوية في الشمال يجب حمايتها عن طريق إنشاء خط دفاعي على طول نهر الليطاني، ولذا يتم إقامة حاجز وقائي يحمي الجليل وحيفا.
أن احتلال الجليل حتى الليطاني سيسهل الدفاع عن الحكومة وسيفصل لبنان عن سوريا.
أما مهمة حرمان سوريا من قواعدها فإنها ستستدعي احتلال القنيطرة.
أن غرض العمليات في هذا القطاع هو احتلال بيروت ودمشق وإخراج سوريا ولبنان من الحرب – ر.ك. كرانجيا – مصدر سبق ذكره ص95 – “.
وثبت التقرير الإسرائيلي للباحثين الثلاثة المشار إليه أيضاً الأطماع الإسرائيلية في مياه لبنان، حينما أكد: “.. توجد في جعبة كالي – رئيس الطاقم – خطة مياه أخرى تشمل لبنان أيضاً، وهذه الخطة تقضي بنقل مياه الليطاني من مكان يقع إلى الشمال من قلعة البوفور إلى نهر الأردن ومنه إلى بحيرة طبريا واليرموك وإسرائيل.. التقرير الاسرائيلي – مصدر سبق ذكره – “.
وفي مسألة المياه اللبنانية والأطماع الصهيونية فيها فقد أدركت الحركة الصهيونية منذ نشأتها أهمية توفير المياه لفلسطين، ففي “العام 1873 أوفدت الجمعية العلمية البريطانية بعثة من الخبراء والمهندسين إلى فلسطين برئاسة الجنرال تشارلز وارن لتقصي ما فيها من موارد طبيعية ومنها الماء، وقد حصل بالتنسيق مع الدوائر اليهودية الفاعلة، وقد ركز تقرير اللجنة على أهمية مياه شمال فلسطين في ري مناطقها الجنوبية – عصام خليفة في كتاب: لبنان المياه والحدود 1916 – 1975 / ص35 – “.
وينقل خليفة عن مؤسس الحركة الصهيونية ثيودور هرتزل رده على الامبراطور غليوم الثاني، أن شرط الوصول إلى مستقبل زاهر لفلسطين ” يكمن إلى حد كبير في تأمين مياه الري “، ويركز هرتزل في مذكراته “على جنوب لبنان وجبل الشيخ نظراً لأهميتها الاقتصادية والعسكرية ولاحتوائهما على مصادر المياه لتطوير الحياة الاقتصادية والاجتماعية في فلسطين”. إن إدراك الحركة الصهيونية المبكر لمشكلة شح المياه في فلسطين كان في طليعة الأسباب لمطالبتها بتوسيع حدود فلسطين شمالاً لتشمل نهر الليطاني، لذلك ألح صهاينة بريطانيا العام 1916 على الحكومة لجعل “الليطاني ابتداء من موقع تعرجه من الشرق نحو الغرب حدوداً شمالية لفلسطين كي يتاح للدولة اليهودية الاستفادة من مياهه” على حد ما جاء في كتاب: القضية الفلسطينية والخطر الصهيوني (ص524) .
وفي تشرين الثاني 1918 رسمت اللجنة الاستشارية والصهيونية لفلسطين حدود فلسطين على نحو يجعل " الحد الشمالي لفلسطين يمتد من الليطاني إلى بانياس "، وتنشط المساعي والجهود الصهيونية في أنحاء أوروبا لتحقيق هذا الهدف، وكان بعضها يطمح إلى ضم أكثر من الليطاني وأبعد من الجنوب، ففي العام 1917 صدر لبن غوريون وبن زفي كتاب مشترك تحت عنوان " أرض إسرائيل "، دعيا فيه إلى جعل حدود المتصرفية في لبنان حدوداً شمالية للدولة اليهودية الموعودة.
وفي 3 شباط 1919 قدمت الحركة الصهيونية إلى مؤتمر السلام في فرساي – باريس مذكرة طالبت فيها بجعل حدود الدولة اليهودية تبدأ في الشمال عند نقطة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط بجوار مدينة صيدا وتتبع مفارق المياه عند تلال سلسلة جبال لبنان حتى تصل إلى جسر القرعون فتتجه منه إلى البيرة ” اللبنانية “، متبعة الخط الفاصل بين حوضي وادي القرن ووادي التيم، ثم تسير في خط جنوبي متبعة الخط الفاصل بين المنحدرات الشرقية والغربية لجبل الشيخ حتى جوار بيت جن، وتتجه منها شرقاً متبعة مفارق المياه الشمالية لنهر مغنية حتى تقترب من خط الحديد الحجازي إلى الغرب منه، ولا تنسى المذكرة أن تطالب بالتوصل إلى اتفاق دولي “تحمي بموجبه حقوق المياه للشعب القاطن جنوب نهر الليطاني” أي شعب إسرائيل، وهكذا يتبين أمامنا تكامل الأهداف العسكرية الاستراتيجية الإسرائيلية مع الأطماع الاقتصادية والمائية الإسرائيلية في لبنان؛ فالأطماع الصهيونية الاقليمية الجغرافية والاقتصادية إذن قائمة موثقة، على خلاف كافة الادعاءات الرسمية الإسرائيلية القائلة بأن الاجتياحات العسكرية للبنان جاءت رداً على ما أسمته ” الإرهاب الفلسطيني ” وحماية للمستعمرات اليهودية الشمالية.
جيش حداد – لحد
واستمراراً لتلك الأدبيات الصهيونية والأطماع المكشوفة لهم في لبنان وأرضه ومياهه وعلى أرضية كل ذلك، جاءت الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت في 1975 لتسمح لدولة الاحتلال الإسرائيلي بالعثور على الشخص المناسب وكان ضابطاً في الجيش اللبناني هو الرائد سعد حداد الذي كان يقود ثكنة عسكرية في بلدة مارونية قرب الحدود مع إسرائيل، مما فتح عهداً جديداً في تجسيد الاستراتيجية الصهيونية تجاه لبنان.
ففي تشرين الأول 1976، استولى سعد حداد على رأس ما أسماه ” جيش لبنان الحر ” الذي كان يضم ضباطاً لبنانيين مسيحيين ومدعوماً سراً من الدولة العبرية، على قاعدة الجيش اللبناني في مرجعيون وتمكن بذلك من السيطرة على كل الطريق التي تربط بين المواقع العسكرية الفلسطينية من جبل الشيخ إلى ساحل المتوسط. وبدءاً من 1977، تزايدت الاشتباكات مع مقاتلي الثورة الفلسطينية الذين كانوا يعسكرون في الجنوب، فهب ضباط الجيش الإسرائيلي لنجدة ما يسمى جيش لبنان الحر، وفي أول عملية غزو إسرائيلي للبنان في آذار 1978، منحت إسرائيل ” جيش لبنان الحر ” الذي أصبح اسمه حينذاك ” جيش لبنان الجنوبي ” وقامت بتمويله وتسليحه ليلعب دوره المطلوب. وعندما انسحب الجنود الإسرائيليون الذين كان يبلغ عددهم 25 ألفاً في حزيران من العام نفسه، نقلوا إلى حلفائهم اللبنانيين السيطرة على ” حزام أمني ” بعمق يتراوح بين خمسة وعشرة كيلو مترات، وليس إلى ستة آلاف جندي يشكلون قوة الطوارئ الدولية العاملة في جنوب لبنان التي كانت قد وصلت لتوها. وعندما حاول الجيش اللبناني الانتشار في الجنوب إلى جوار القوة الدولية في تموز 1978 ونيسان 1979، قصفته قوات سعد حداد، وقد حوكم هذا الضابط غيابياً مرتين أمام محكمة عرفية بتهمة ” التعاون مع العدو ” وطرد من الجيش، ولكن العقوبات لم تنفذ.
وفي صيف 1982، كان طموح ” إسرائيل ” أكبر من تلك بكثير فقد تقدم جيشها إلى بيروت مسانداً بقوة الميليشيا المسيحية بقيادة بشير الجميل الذي فرض انتخابه رئيساً للجمهورية اللبنانية، إلا أن طموح ” إسرائيل ” في حكومة لبنانية حليفة لها لم يتحقق لفترة طويلة، فقد اغتيل بشير الجميل في أيلول وجاء شقيقه أمين الجميل ليرفض تحت ضغط سوريا توقيع الاتفاق الإسرائيلي اللبناني ابرم في 17 أيار 1983. وبما أنه كان معرضاً لهجمات متزايدة، انسحب الجيش الإسرائيلي تدريجياً إلى منطقة مساحتها 850 كيلومترا مربعاً في أقصى الجنوب اللبناني وعهد بإدارتها إلى ميليشيا الجيش الجنوبي بقيادة اللواء المتقاعد انطوان لحد بعد وفاة سعد حداد في 1985، وانتشرت عناصر الميليشيا الذين بلغ عددهم 2500 جندي مرتزق في المواقع المتقدمة من المنطقة المحتلة، وفرضوا منذ 1985 سيطرتهم على منطقة جزين المسيحية وهي جيب تبلغ مساحته 40كم مربعاً ويقع في امتداد المنطقة المحتلة. وعرضت الميليشيا على عناصرها أجوراً مغرية وصلت حتى 500 دولار للجندي المبتدئ وسمحت لأسر عناصرها بالعمل في “إسرائيل”، وتمكنت الدولة العبرية التي لم تمانع في عمليات تجنيد قسرية، من الاكتفاء بنشر ألف جندي فقط في جنوب لبنان، وذلك بفضل جيش لبنان الجنوبي، كما سمح وجود الميليشيا في المواقع الأمامية بالحد من الخسائر الإسرائيلية – راجع هنا تقرير عن وكالات الأنباء المختلفة يوم 24/2/2000 – “.
إذن، كما هو واضح تمام الوضوح، فإن الاستراتيجية الإسرائيلية تبنت منذ المراحل الأولى فكرة وخطة العيث فساداً في لبنان وتقسيمه وإثارة الفتنة والحروب الأهلية فيه إلى جانب إقامة جيش عميل ودولة موالية ” لإسرائيل “، وتصيدت الحكومة الإسرائيلية الفرصة المواتية في العام 1975 لتحقق حلمها التاريخي المشار إليه.. ولتفرضه بقوة السلاح والدم والنار على مدى نحو 25 عاماً من الحرب المستمرة في الجنوب اللبناني.. ولكن.. لماذا هزم هذا المشروع/الحلم الصهيوني/الاسرائيلي بعد عام 25 عاماً؟ وما هي قصة القرارات 425 و 476 و 427؟ ولماذا هرولت ” إسرائيل ” لتطبيقها بعد 22 عاماً على صدورها؟ وكيف انهارت الاستراتيجية الصهيونية والسياسية الإسرائيلية التي اعتمدت سياسة الدم والنار والحرق؟
وفي الرد على كل هذه الأسئلة الاستراتيجية، يأتي هنا دور المقاومة الوطنية والاسلامية اللبنانية وعمودها الفقري حزب الله الذي يشكل محور القلق والدراسات والأبحاث في المؤسسة الأمنية -الاسخبارية- الصهيونية… وكل ما جرى ويجري في المشهد اللبناني اليوم، إنما يأتي في سياق الاستراتيجيات الصهيونية المعززة بالغطاء والدعم الاستعماري الأمريكي الغربي الكامل…!
نواف الزرو