التطبيع من الطبع والطبيعة، وسياسيا جعل ما ليس طبيعيا في الأصل طبيعيا، عبر معالجات معينة، تقلل من كفة غير الطبيعي، وتُغَلِّب كفة الطبيعية فيه.
في قضية العرب الأولى منذ ١٩٤٨م، قضية فلسطين، دخل المصطلح في ملفات السياسة، وبات مصطلحا جاذبا بالنسبة للحرب، وبات هو عراب السلام، إلا أن أغلب المعالجات (التنازلات) في سبيل هذا التطبيع، كانت من العرب (الطرف المحتلة أرضه) من دون دولة الاحتلال، مما صير التطبيع من حالته المعتدلة، والمستفيد منها الأطراف جميعها، إلى مصطلح مشوه، يختزن في داخله تقهقرَ العرب ومواقفَهم اتجاه قضيتِهم، وتفوقَ دولة الاحتلال في فلسطين المطرد.
إن التطبيع المشوه استطاع ضمان تفوق الكيان المحتل بمجموعة أسباب، من أظهرها قصر الذاكرة السياسية العربية أو ظاهرة الزهايمر في الفكر العربي السياسي، وغياب التفكير الاستراتيجي بعيد المدى، والعاطفة التي تغلف أغلب قراراتهم، وغياب ثقافة المصلحة الواحدة، وتغليب المصلحة الخاصة على المصلحة العامة، واستعداد المجموعات العربية تخوين بعضها بعضا، رغم روابط الدم واللغة والدين والتاريخ، وعدم انطلاق الدول العربية في سياستها اتجاه الاحتلال من منطلق الوعي الجمعي والثقافي والتاريخي للشعوب.
لقد أدت هذه الأسباب لا سيما قصر الذاكرة السياسية أو الزهايمر السياسي إلى مجموعة تنازلٍ للعرب مقابل قضيتهم، بدءا من الفلسطينيين أنفسهم، في عدم استفادتهم من وطنهم وتاريخهم، وانقسامهم على فلسطين، وانقسامهم على أنفسهم، وتركهم المقاومة الناعمة والمسلحة، ودخولهم في اتفاقية أوسلو مع دولة الاحتلال، دون قدرة هذه الذاكرة الشائخة على استحضار تنازلات واتفاقيات سابقة ككامب ديفيد، التي قام بها العرب، دون أن يحققوا أدنى تقدم في قضيتهم، بينما دولة الاحتلال لا تنفك تخرج من انتصار سياسي لآخر، ضاربة بالقرارات الدولية عرض الحائط، وإن نفذت بنودا من اتفاقية ما فإنها لا تنفذ إلا ما يصب في مصلحتها، كالتعاون الأمني بينها وبين السلطة، والذي أدى إلى تمزع الجسد الفسلطيني، وعمليا كفاية السلطة من خلال هذه الاتفاقية المأونة الأمنية عن الكيان المحتل، لتتوالى التنازلات في ظل هذه الذاكرة السياسية الشائخة ذات الزهايمر الحاد، فكانت اتفاقية وادي عربة واتفاقية الأرض مقابل السلام، وكان انقسام العرب بين مقاوم ومهادن، مما تسبب على الدوام في تفسخهم وشتاتهم، ولم تفلح كل تلك التنازلات إلا في تفوق دولة الاحتلال وتقهقر العرب وقضية فلسطين، وعزز ذلك التفوقَ الصهيوني التفكيرُ الاستراتيجي والتخطيط، المضاف إليه الخبث وامتلاك المبادرة على التحكم في الإعلام العالمي، الذي تغلغل في إعلامنا العربي عميقا، وتحكمها في سياسات دول عظمى كالولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا.
إن التطبيع حركة خبيثة تعمل على ضمان التخلف العربي والتفوق الصهيوني بخلق الفوضى في الدول العربية المطبعة وذلك عبر إيجاد الانفصام الداخلي وخلخلة الثقة بين الحاكم والشعب، وإدخالها في أتون الإشكالات الداخلية ودوامات أمنية مختلفة، تمنعها من الاستقرار، وبالتالي من التقدم والتطور، كما إنها تعمل على إضعاف موقف الداخل الفلسطيني، سلطةً ومقاومة، وعلى إضعاف دول المحور، المطبعة، كالأردن، وتلك الممانعة، كلبنان وسوريا، مما يضمن لدولة الاحتلال التفوق الأبدي… وهذا (التطبيع والتنازلات) هو سبب بقاءها وتوسعها خلال السبعين عاما الفائتة، وازديادها قوة فوق قوتها يوما بعد يوم…
الدول التي تسعى للتطبيع اليوم ستدخل في ذات الدوامة وذات التخلف، وبدل اشتغالها بتطوير ذاتها والتقدم العلمي والاقتصادي، ستشتغل بدوامات الأمن، ومحاربة التطرف والإرهاب والمعارضات، وتأمين تفعيل الاتفاقيات المتبادلة، كتأمين مثلا الوفود السياحية الصهيونية، والدخول في مواجهة داخلية وخارجية في حال عدم قدرتها على ذلك، وسلسلة الإحراجات المتوقعة، والجهود المضاعفة على الدولة، وعلى مؤسساتها الحساسة، وستكون مسرحا جديدا للجرائم العالمية الدولية، في النزاع مع دولة الاحتلال، في قضية غير محقة ولا حاجة لها بها، ولا تجمعنا وإياها حدود ما، نعمل على سد شرها بشر أهون منه.
في جانب آخر فإن توقيت هذا التطبيع المعلن لم يأت عبثيا، فقد جاء لإعطاء دفعة للأمام للرئيس ترامب للفوز من جديد في الانتخابات المقبلة للبيت الابيض في نوفمبر القادم، أي بعد شهر ونيف، والتجديد له لأربع سنوات قادمة، بعد الأربع سنوات الفائتة، والتي وازت في تخلفها، وتقهقر الأمن العالمي سنين مضاعفة لا تعد، إن فوزه والمشاركة في ذلك ودعمه، ولو بتأييد التطبيع الأخير فضلا عن التطبيع قد يعد جريمة عالمية، وخطرا أمنيًا على العالم في أربع سنوات قادمة، والتي لا شك ستكون أكثر وبالا على الانسان والدول وعلى الشعوب من سابقاتها الأربع.
كما إننا يجب الإشارة إلى أنه لا علاقة واليهودية كشريعة بدولة الاحتلال، وإن كان القائمون عليها يدينون بها، ويزعمونها دولة قومية لليهود، إلا أن اليهودية تعتقد بالشتات في حق اليهود، والعيش مع الشعوب الأخرى، ولا يجوز لهم إقامة دولة مستقلة لهم، لأنها ضد مشيئة الرب، والصهيونية هي من أقامت الدولة، وبالتالي خالفت هذه العقيدة، لذلك نرى كثيرا من اليهود في أمريكا وغيرها ضد قيام دولة الاحتلال، ويحرقون علمها، كما إن القضية قضية اغتصاب حقوق وأراضي وتهجير شعوب وقتا وإفساد، وليس في دولة اكتسبت استقلالها ضمن جغرافيتها، فهي دولة لم تقم إلا على أهل تلك الجغرافيا، فدولة الاحتلال دولة قامت على أنقاض شعب صاحب أرض، قامت بتهجيره كما قدمنا.
ختاما إلى عمان الحبيبة، لقد امتن الله علينا بحسن الثوابت، والانزواء عن الشرور في اختياراتنا، وقد ساعدنا وجودنا الجغرافي في أقصى الشرق العربي على ذلك منذ مطلع القرن الهجري الأول، بل منذ قبل الإسلام، ولقد قامت النهضة المباركة في السبعين على ذات المنهج الأصيل، ولقد أحسن جلالة السلطان قابوس طيب الله ثراه بناء هذه السياسة الخارجية وأجاد، ورغم استياءنا المعبر عنه لزيارة رئيس وزراء الاحتلال لعمان غير المعلنة العام الفائت، إلا أن زيارة محمود عباس الموازية جعلتنا نتفهم، أنها طلب لسد شر عن فلسطين وعن المنطقة، فقدرنا ذلك، إلا أنه ما كان اليوم من إعلان تأييد التطبيع من وزارة الخارجية بين الإمارات ودولة الاحتلال، وما تسرب من خبر قدمه الرئيس الأمريكي وغيره أن عمان مقبلة على هذا التطبيع تاليا يوجب علينا كتابة هذا البيان لله وللوطن وللتاريخ، فإن التطبيع هنا لن يجلب لعمان إلا ما قدمنا من رزايا، وما نحن في غنى عنه، من تبلبل وخلخلة الثقة بين الحكومة والشعب، وزرع الفتنة عموما، وظهور مزيد من قلاقل خارجية وداخلية، وإرهاق الدولة ومؤسساتها الأمنية بما لن يدر علينا إلا التخلف والتراجع، وإشغالنا عن النهضة المتجددة، التي بدأها السلطان هيثم حفظه الله، بجد واجتهاد، فكل ذلك سيشكل كلفة عالية اقتصاديا وسياسيا وأمنيًا وفكريا واجتماعيا وثقافيا، وسيفقدنا كثيرا من مرتكزات الدولة المدنية التي بناها المقام الخالد رحمه الله، فضلا عن سمعتنا ورايتنا البيضاء العالمية، ويجعلنا ننتكس حيث انتكس غيرنا.
إن في تطبيع العرب إلى الآن ومصيرهم منه، وما باتت عليه دول التطبيع العربية من تحديات وصعوبات ووضع مخل متقهقر بعد مجد وسؤدد، وما بات شغلها الشاغل (الشق الأمني وعدم الاستقرار الداخلي) يشي بأن التطبيع تروجه دولة الاحتلال والحركة الصهيونية الداعمة لها لأنها ضمانة تفوقها وتخلف العرب، ونحن إذ نشهد ذلك ونرى، فنرجو من الأخوة القائمين على السياسة الخارجية في وطننا الحبيب عمان عدم إرهاق الدولة بمثل ذلكم التوجه، حفاظا على مكاسب السلطنة ووضعها المستقل، واستقرارها، والحفاظ على الجهات الأمنية المختلفة وعدم إشغالها بما لا طائل لعمان به، بموقعها الجغرافي وتراثها، فما حاجتُنا وتأمينَ الأفواج السياحية أو الوفود السياسية والرياضية وغيرها لدولة الاحتلال، وإحراجَ الحكومة نفسَها، وفتنةَ شعبها، وقد عرفته غيورا، بأن تأتي له بمحتل قبلة المسلمين الأولى، وأرضه العربية فلسطين، ثم تطلب منه أن ينسى حقيقة كونه محتلا، مجرما، قاطع طريق، استولى على بيوت العرب ومزارعهم، وهجرهم منها، ففي ذلك الطلب والمواجهة حرج أمني واجتماعي مخيف، فضلا عن صورتنا وسمعتنا وعن سجلنا الخارجي الأبيض غير المنحاز إلى دولة ظالمة أيا كانت، فما بالنا وهي عصابة احتلت أرضا عربية، وسمت نفسها دولة، وكانت كيانا مارقا على كل النصوص والشرائع الدولية، ففي قبول هذا المحتل والتطبيع معه مصيبة كبرى لا نتحمله كشعب علم الحق وتربى عليه، فضلا عن استغلال الوشاة من المغرضين -وعلى رأسهم الصهاينة شركاء التطبيع- لهذا التطبيع وحتى التأييد لإضعاف الدولة ونهجلتها، وبث الفتنة، كما يفعلون بالدول المطبعة الأخرى، ولتشويه صورة الدولة وسلطانها هيثم المعظم، وسجله الأبيض الناصع، وهو يخط حروفا من نور في نهضته المتجددة القائمة.
إن لدولة الاحتلال ختاما -إن كانت صادقة- فيما من طبع حتى الآن من الدول العربية معها كفاية لإثبات رغبتها بالسلام، ولا حاجة لعمانٍ الرزاحةِ والثقل أن تلوث يدها بذلكم الطعم الخبيث، فلا نُصابَنَّ في مقتل، ونُصدمْ بتطبيع عمان الحبيبة -حاشاها وأعاذها الله- مع دولة مارقة محتلة، لأن في ذلك ما لا يحمد عقباه، بالنظر إلى التطبيع، وطرفه الآخر، خائن العهود والمواثيق منذ الأزل واليوم، عقيدةً لا مناورة سياسية..
حمى الله عمان وفلسطين والدول العربية من هذا الشر، الذي ابتليت به الإنسانية، وأعاد الله الحق لأهله، وشرفنا بعودة مقدساتنا والصلاة فيها ونحن في عزة وكرامة.
عبدالحميد بن حميد بن عبدالله الجامعي
الجمعة
٣٢ ذي الحجة ١٤٤١ هـ
١٤ أغسطس ٢٠٢٠ م