تطير بين الفينة والأخرى تقارير وتصريحات منذ نشأة خبر التطبيع الأول بين الإمارات ودولة الاحتلال في فلسطين، أن ثم دولا خليجية وعربية قادمة ستعمد إلى اقتفاء أثر المُطَبِّعتَينِ الأُوْلَيَيْنِ (الإمارات والبحرين)، وقد أشار إلى عددها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب (٥-٦ دول) في تصريحه وهو جذلانُ ليلةَ التوقيع على ما يعرف باتفاقية إبراهيم، وفي أكثر تلكم التصاريح الحالمة كان اسم عمان حاضرا، وكلَّ ما ورد اسمُ عمان هناك كلما حبس العمانيون أنفاسهم مخافة الخزي والعار الذي سيشعرون به حتما، لو تم ترجمة رؤيا ترامب وفريقه على أرض الواقع.
إن ما يعيشه العالم اليوم والعالم العربي بشكل خاص في قضيته الفلسطينية هو أمر تاريخي لا شك، وهذه الصفة (التاريخية) لا تجعل منه تشريفا وكرامة، فمن الأمور التاريخية للأسف ما لا يزال عارا على الأمم، كحروبها وانقساماتها وخياناتها ونكباتها، ولكل أمر أو حدث تاريخي أنصاره ومريدوه، وله أعداؤه ومبغضوه، ولو كان ذلك فرعونَ في جوره، أو موسى في عدله.
من ثم فالأحداث تقاس بسياقاتها، وما تحققه من رخاء وسلام وعدالةٍ للإنسان والإنسانية، أو شقاء وظلم وتسلط وطغيان عليهما.
لذلك لا يخرج ما تعيشه الأمة العربية في أحداثها الأخيرة عن هذه القاعدة، ولا يخرج التطبيع الأخير كحدث مهم عن ذلكم أيضا، ويمكن معرفة موضعه من الخيانة والصيانة من خلال تداعياته وآثاره.
للتحقق من الحدث التاريخي القائم (التطبيع) لا بد من تعيين أطرافه، وهم أربعة؛ المطبعون (الدول العربية)، وعرَّاب الاتفاقية ووسيطها (الولايات المتحدة الأمريكية)، ومن تداعى عليهم أثر ذلكم التطبيع، وهم الفلسطينيون في فلسطين المحتلة وفي الشتات والشعوب العربية من ورائهم، وأخيرا دولة الاحتلال وكيانها في فلسطين المحتلة.
ربما تجدر الإشارةُ إلى حقيقة كون “شعب” الكيان المحتل هو شعبا تجميعيا، وليس شعبا حقيقيا في مجمله، فهم لا يجمعهم عرق حقيقي، فليس نسل يعقوب (إسرائيل النبي) قاصرا عليهم ولا يستغرق جميعهم، كما يخيل ويروج له، فبنو إسرائيل منهم من تنصر فصار نصرانيًّا (مسيحيا)، ومنهم من أسلم فصار مسلما، وأولاء هم في فلسطين منذ القدم، ومن الفلسطينين الذين يحاربهم الكيان المحتل اليوم، والعروبة لحقت أهل فلسطين إما بأصل العرب فيها، أو بلسانهم العربي مع تعدد أعراقهم وأنسابهم ودياناتهم، أما شعب الكيان المحتل التجميعي، فمنهم من قد يكون من بني إسرائيل وهم أقلية مقابل بني إسرائيل ممن أسلم وتنصر، ومنهم من يكون من غيرهم من أعراق وأجناس مختلفة، شجعهم على الهجرة إلى فلسطين المحتلة العملية الممنهجة والمدروسة والممولة والعروض المصاحبة المغرية للأفراد لتلكم الهجرة من قبل الحركة الصهيونية وممالئيها، وقد يكون منهم يهود وغير يهود، كما وليست فلسطين قضية إسلامية حسب، بل هي قضية إنسانية، ينافح عنها الإنسان الشريف المسلم واليهودي والمسيحي وغيرهم، فليست الأزمة إذن مع اليهود اليوم، والتي يتلحف بها الداعون للتطبيع ويتمترسون وراءها تزويرا وتدليسا، فاليهود موجودون في دول عربية عدة وفي فلسطين من قبل، وفي كل حضارات المسلمين كالأندلس، ولكن الإشكال مع الصهيونية، والتي يقوم على خدمتها أناس يعودون لديانات وأعراق مختلفة (يهودية ومسيحية ومسلمة)، وبدوافع متعددة.
أيضا مما يجب تأكيده قبل الشروع في جوهر الموضوع (التطبيع ضره ونفعه) أن الأرض المقدسة (فلسطين) هي موعودُ المسلمين والصالحين منذ الأزل قبل محمد وقبل عيسى وقبل موسى، لأنهم (المسلمين والصالحين) يحفظون صفة بركتها للعالمين (الأرض التي باركنا فيها للعالمين) (القرآن الكريم، الأنبياء آية ٧١)، ولما كان الإسلام يمثله موسى وبنو إسرائيل (اليهود) يومئذ كانوا هم أولى بحكمها وتحقيق البركة فيها، فهي كتبت لهم لإسلامهم وإيمانهم بالأنبياء جميعهم حتى موسى وهارون ومن وليهم، كما كتبت على إبراهيم الهجرة إليها وهو أبو التوحيد، فلما بعث عيسى صلى الله عليه وسلم رسولا فكفروا به وآذوه في أمه بتهمتهم إياها وفي نفسه حتى هموا بصلبه وقتله، وقد كانت -من طغيانهم- واقعةُ الصلب والقتل، ولكن لمن ألقي عليه شَبَهُ عيسى عليه السلام (القرآن الكريم سورة النساء آية ١٥٧)، فلما كفروا بعيسى انتقلت صفة الإسلام إلى من آمن بعيسى من بني إسرائيل ومن بقية الناس، ممن عرفوا بالنصرانية، فكانوا أحق بالأرض المقدسة لأنهم من حافظ على العهد، عهدِ بركتها للعالمين، ومن آمن بالنبيين إلى آخرهم يومئذ وهو عيسى ابن العذراء البتول عليهما الصلاة والسلام، حتى بعث خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، لتنتقل تلكم الأحقية في حكم الأرض المقدسة وملكها إلى من آمن به من بني إسرائيل ومن العرب وغيرهم من العالمين، وتخرج عمن لم يؤمنوا به، فعاش بها الناس تحت حكمهم جميعا (يهود ونصارى ومسلمين) جنبا إلى جنب ألف سنة ومئات السنين بسلام مباركين، هذا من جهة الأحقية الدينية اليوم على الأرض المقدسة، أما تاريخيا فلما نزل إبراهيم فلسطين كانت الأرض عامرة قبل نزوله، ومباركة بأهلها، (ومكث إبراهيم في بلاد الفلسطينيين فترة طويلة) (العهد القديم، سفر التكوين؛ الإصحاح ٢١ آية ٣٤)، ولم يعدم أهلها منها بتهجير ولا نفي، بل وقع الأسر والتهجير على النازحين الجدد من بني إسرائيل مرارا قبل الميلاد وبعده، من ثم فالفلسطينيون وساكنوا الأرض اليوم المسلمون والمسيحيون (ممن أصله من العرب ومن بني إسرائيل ومن غيرهم) هم أولى تاريخيا بأرضهم من المتسلقين والمندسين والأغراب، والذين -ولو سلمنا لهم جدلًا بزعمهم من بني إسرائيل- فهم طارئون على فلسطين منذ إبراهيم عليه السلام وخرجوا طوعا (عصر يوسف عليه السلام إلى مصر) وقصرا عصر نبوخذ نصر (السبي الكبير إلى بابل في القرن السادس قبل الميلاد) وعصر الدولة البيزنطية النصرانية (القرن الثالث بعد الميلاد)، قبل أن يعودوا لفلسطين في القرن السابع بعد الميلاد إبان الفتح الإسلامي لفلسطين، قبل استحداث الصهاينة الكيانَ على أثر انتهاء الانتداب البريطاني، ووعد بلفور المشؤوم في بدايات القرن العشرين، هذا لو شئنا إهمال الحقائق العديدة التي سطرناها آنفا.
نعود الآن لجوهر مقالنا فنقول: إن الحكم على التطبيع يتمثل في إخضاع هذه الأطراف للقاعدة أعلاه وعرضهم عليها، فهل منهم من يعيش ظلما فيرتفعَ عنه ظلمه بالتطبيع؟ أو طغيانا وتجبرا فيُحَدَّ عليه تجبره؟! أو حياة بسيطة فتترفَه حياته؟ أو خصومة وكرها فترتفعَ بالعدالة والشرعية خصومته؟!
إن واقع الأطراف وحالهم وأثر هذا التطبيع المروج له فيهم هو كما يلي؛
كِيانٌ تجميعيٌ لشعبٍ متعدد الأعراق والنسب واللغة لم يكن شيئا مذكورا إلى سبعين سنة، لديه كل مقومات التقدم العلمي والعسكري، ولديه أيضا كل مقومات السلام، فبمجرد تطبيقه القرارت الدوليةَ (العادلة) بقيام دولة فلسطين مستقلةً وعاصمتُها القدس الشرقية يحل السلام وتعمر الأرض، إلا أنه دائم التملص، ودائم الالتفاف على الشرعية الدولية، يرى نفسه فوق القانون الدولي، وفوق جميع البشر، فتحقق هذا التطبيع سيزيده عتوا وكبرا وبغيا على الفلسطينيين.
وطرفٌ ثانٍ محتلةٌ أرضُه، تم تهجيره وتشتيته في الأصقاع، والاستيلاءُ على بيوته ومقدساته، قدم التضحيات، دماء وشهداء، وقدم التنازلات (التطبيعَ والرضى بأوسلو وحدود أراضي الـ ٦٧، والتنازلَ عن أراضي الـ ٤٨)، بل ذهب أبعد من ذلك، فانقسم على نفسه، حتى باتت السلطة يوما ما في وفائها والتزامها باتفاقياتها مع المحتل ألصقَ به وبتحقيق توافقاتها معه على حساب الفلسطينيين، فقاموا بحرب بعضهم وتقسيم جسدهم، بل لا يبعد أن يكونَ مهندسو تطبيع اليوم هم اليمينَ (المنشقةَ) عن السلطة الفلسطينية، والذين أصبحوا مستشارين في الدول المطبعة، وقد باتوا هم أعتى على أهلهم في فلسطين وأشد نكالا من الاحتلال، ولا يبعد كذلك أن يكون هذا التطبيع الزائف -وهم راسموه- ردةَ فعل منهم على زملاءهم القدامى في السلطة الفلسطينية ورئيسها، وانتقاما منهم، ورغبةً في قلب الطاولة على رؤوسهم، ونزع التمثيل الشرعي الدولي الذي تحظى به السلطة الفلسطينية كممثل دولي وحيد للفلسطينين، ولو من خلال تطبيع زائف مع محتل غاشم، وقبولِ صفقة بائرةٍ كصفقة القرن دون تمثيل من المعنيين (السلطة الفلسطينية)، ما دام ذلك الحاقد الموتور يشفي قلبَه، ويُذهب غيظه، والمحتل في كل ذلك ينظر إليهم بغبطة، ويوري نار فرقتهم، ويحصد ثمر شرهم على بعضهم، ويحقق مكاسب دون عناء ولا كلفة، لم يكن يوما ليحلم بها، والشعب المسكين في فلسطين من عموم الناس هم الضحية…. هم حبات القمح التي تطحنها رحى تخاصماتهم دقيقا يعجِنه ويخبُزه ويأكله المحتل… من ثم فالتطبيع القائم سيزيد من معاناة هؤلاء داخل فلسطين وفي الشتات.
وطرفٌ ثالثٌ عربيٌّ، يعيش في بحبوحة ورغد وأمان بعيدا عن الصراع، ولكنه بحكم ثقافته وجغرافيته ولغته، هو أقرب للطرف الثاني المحتلة أرضه (الفلسطينيين).. ليس له حاجة حقيقية في الطرف الأول (دولة الاحتلال)، وليس هناك ما يستدعي الذهاب إلى التطبيع أو يوجبه عليه (لولا ربما بعض مستشاريه والذين هم موتورون وحاقدون على السلطة الفلسطينية كما قدمنا، والذين قاموا بهندسة هذا التطبيع انتقاما لهم بعيدا عن المصلحة الوطنية)، كما أن عقيدة شعوب الخليج في أصلها ترفض التطبيع… إلا أن بعضهم وبسبب نشاطاته خارج حدود دولته، مهما كانت الأسباب والمسوغات مقبولة أو مرفوضة، قد تقاطع مع المحتل من حيث أصبح محتلا هو الآخر، يخوض تجربة الكيان، ولكنه يخوضها هو في أراض عربية شقيقة، ليعيش بعض إخوانه العرب وضعا مشابها لوضع الفلسطينيين، ولكن بشأن عربي كامل، مما يجعله يتفهم نفسية كيان الاحتلال ومنطلقاته وأهدافه وغاياته، ما يشجعه ربما على التطبيع، فضلا عن النفقات الطائلة على تلكم الحروب والاصطفافات ومقدماتها وما تعلق بها، والتي أرهقت تلكم الدول الشقيقة اقتصاديا، فكان في التطبيع والفتح الاقتصادي الموعود جراءه الذي ربما بشر به دونالد ترامب وصهره كوشنر طوقُ نجاة لهم، أو هكذا رأوا، وهناك آخرون من هذا الطرف ربما يعمدون على تمديد مظلة الرئيس الأمريكي بدعم التجديد له عبر قبول التطبيع أو التزيين له والتسهيل والدعم بالظاهر والباطن، وذلك لما شكلته هذه المظلة من حماية لهم في وجه مؤسسات عالمية وحقوقية ملاحقة لهم قانونيا وإعلاميا ودوليا، ضد ما قد يرونه جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية صدرت من هذه الدول المطبعة أو بعض قيادييها، والقائمون على هذه المنظمات الملاحقة يعتقدون بقدرتهم على تحقيقها وتحقيق العدالة في نظرهم لو أن الحكومة الأمريكية كانت حكومةً ديمقراطية، أو حتى جمهوريةً تقليدية، وفي المجمل فالتطبيع سيكلف هذه الدول اقتصاديا واجتماعيا وأمنيًا، كما ستسهل لكيان الاحتلال ضمان تفوقه عليهم بضمان تخلفهم عنه، بشتى السبل الشريفة وغير الشريفة.
وطرفٌ وسيطٌ أخير (الولايات المتحدة الأمريكية)، والتي أظهرت في رئاستها الحالية كثيرا من العدائية ضد قضايا الإنسان العامة، بما فيها السلام والبيئة وحقوق الإنسان والقانون الدولي، فقد انسحبت من معاهدات معنية بالمناخ والبيئة والحد من التسلح، والصحة العالمية، وحقوق الإنسان، وهاجمت المحكمة الدولية، وانسحبت من الاتفاق النووي مع إيران…. والتطبيع الحالي سيضاعف من هذا التوجه الراديكالي اتجهاه قضايا الإنسان، وسيسهم في نقض مزيد من المعهادات، وسيحذو حذوها دول أخرى كبرى، لينقطع عقد الأمم المتحدة، كما انقطع عقد عصبة الأمم من قبلُ إبان الحرب العالمية الثانية، وتكونَ الحروب الدولية بسبب هذا التطبيع أكثر قربا واحتمالا من ذي قبل.
إن الناظر إلى الوسيط ومن منطلق (فاقد الشيء لا يعطيه) يعلم أن اتفاق التطبيع -والذي ليس في مستوى الاتفاق النووي- لن يكون عادلا أبدًا، وأن دعوى السلام هنا هي دعوى فرعونَ في هدايته الناسَ سبيلَ الرشاد (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) (القرآن الكريم، سورة غافر، آية ٢٩)، فسلامُ ما يدعو له هذا التطبيعُ الزائف هو من صنف رشاد ما دعى له فرعون، وما نتج عنه من قتل المستضعفين، وتدهور أحوالهم، فضلا عن نهاية فرعون ومن مالأه من الطغاة المستكبرين.
إن التطبيع لا شك مع مارق عن الشرعية الدولية ومُستعلٍ عليها لن يزيده إلا مروقا واستعلاءً، ولن ينال الطرفَ المستضعفَ منه إلا نكالٌ وبؤسٌ، ولو شاءت دولة الاحتلال السلام لكان بيدها… وما تنازل عنه العرب مذ تطبيع مصر والاردن وأوسلو مع الفلسطينيين، ومبادرة الأرض مقابل السلام وغيرها جميعه فيه كفاية له، ولكنه كيان مستكبر، طاغ، عنصري غير إنساني، كما أن التطبيع سيعمل على خلق تحديات وشروخ عميقة وأمنية خطيرة جدا في وحدة نسيج الدول العربية المطبعة، وعلاقة الوطن العربي في دوله، وجامعتهم العربية، وقد بدأ ذلك التحدي لدول التطبيع العربية بالفعل، وذلك بظهور كيانات افتراضية وجبهات معارضة للدولة الرسمية، هذا فضلا عن تجربة التطبيع لدى مصر والأردن، والتي أثبتت فشلها، فلم تستفد منها الدولتان العربيتان، إلا تراجعا في مجالات متعددة بما فيها الاقتصاد، فضلا عن العقيدة القومية لدولة الاحتلال، والتي تعتمد على الاشتغال بكل سبيل لضمان تقهقر العرب مقابل تفوقها، من خلال زيادة القلاقل وخلق الشحناء والعداء في النسيج الداخلي دون شعور من المؤسسة الرسمية، حتى عندما تتوافق مع طرف منهم، فهي تنخر فيه حتى سقوطه بها أو بغيرها، تتمسك به ما دام يخدمها ويحقق ما تريد حتى إذا شبعت منه، نكثت بعهوده ومواثيقه، وأضحى كأن لم يكن شريكا وحبيبا، كما فعلت في السلطة الفلسطينية مؤخرا، رغم اتفاق أوسلو، والذي تقوم الآن بإبطال بنوده والتنصل منه.
ختاما وفي ظل حقيقة التطبيع وأثره أعلاه، فإني أرى عمان -على خلاف التقارير المروجة- غيرَ قادمة على التطبيع، وما كان منها في البيانين عن الخارجية العمانية لتطبيع الإمارات والبحرين فهو استصحاب لنهج أصيل لديها في التأكيد على سيادة الدول في قرارتها منذ كامب ديفيد… وعلى هذه الدول ولها مآلات هذا التطبيع وتوابعه، لا سيما البيان الأخير الذي اختلف في تفاصيله عن البيان الأول، حيث ذكر -مع إقرار حرية البحرين في قرارها السيادي ومباركته- أن السلام لا يقوم إلا بدولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس، وهو خلاف إدارة ترامب وعمله الدؤوب، والذي تمثل في نقل سفارة أمريكا أواخر ٢٠١٩ من تل الربيع إلى القدس اعترافا بها عاصمة لدولة الاحتلال، وأما حضور عمان مراسم التوقيع فمن ذلك البروتوكول والمنهج أيضا، مع تحفظنا الشخصي، وقراءتنا الخاصة بذلك.
إن عمان لن تطبع إذن… لن تطبع لأن سلطانها حسم بعدم التطبيع في المكالمة التي وردته من الرئيس الأمريكي ترامب، بينما حسمها الملك البحريني في مكالمة شبيهة واردة إليه من الرئيس الأمريكي بعده بيومين بالتطبيع، وغرد بهذا الحسم الأخير الرئيس الأمريكي سعيدا… لن تطبع لما سيكون لذلك من كلفة اقتصادية عالية، وأمنية كبيرة، وهو ما يؤثر على النهضة المتجددة، وما قد يسبب لها من شرخ عميق بإخراجها عن سياستها الخارجية المتزنة والمعتدلة، والتي نعتقد متيقنين بحرص جلالة السلطان عليها، ولو زهد بها المحللون، ففي التطبيع اصطفاف لطرف -ليته كان الأعدل بل الجائرَ الأعتى- مقابلَ طرفٍ مظلوم، يكافح من أجل أبسط حقوقه منذ عام ٤٨ من القرن الماضي وقبله، فضلا عن التقهقر بفتح الباب لمن عُرِفَ تاريخيا وحاضرا عنه عقيدةُ الغدر وخيانةُ المواثيق -وقد وافق شن طبقة مع الإدارة الأمريكية القائمة اليوم- من خلال أساليبه الخبيثة في إثارة القلاقل في الأمم والتجمعات حيث حل… كل تلكم الإشكالات هي أمر عقدي، مثل عقيدة تكفيريي المسلمين الأقدمين والحديثين ومثل عقيدة الغلاة المسيحيين -وليس هو مرضا نفسيا أو فكرا عارضا- بل هو أمر يتقرب به هؤلاء جميعا إلى الرب، فضلا عن أن التطبيع سيكون تراجعا أكيدًا لأي تقدم قد تم في قضية فلسطين، وإعلانا رسميا لموت ما يعرف بحل الدولتين، ومبادرة الأرض مقابل السلام بين الكيان في فلسطين المحتلة والعرب، ولو زعم المطبعون أن تطبيعهم سيحقق ذلك، فقد سبقتهم حضارات عربية كبرى ودول محورية وذات حدود مع فلسطين ولسنين طويلة، وهي أولى وأقوى وأجدر على تحقيق تقدم من دول الخليج، كمصر والأردن فلم ينالا من ذلك شيئا ولم تنل فلسطين، بل الفقرَ والتقهقرَ لهم جميعا، وذلكم هو التطبيع الذي يَسِمُهُ البعضُ -وسما مستحقا- بالخيانة.
لتكلم الأسباب وزيادة فعمان -وربما أقطار عربية كُثُر أخرى- لن تطبع مع الكيان المحتل في نسخته المتداولة إلا بقيام فلسطين دولة مستقلة وعاصمتها القدس أولا، وحلول السلام بصورته الحقيقية المبنية على أسس العدالة، وليس بصورته المشوهة والمزيفة والتي يروج لها اليوم، طلبا لفوز انتخابي غير جدير، وبدعاية إعلامية مضللة.
عبدالحميد بن حميد الجامعي
الجمعة
٢٩ محرم ١٤٤٢ هـ
١٨ سبتمبر ٢٠٢٠ م