سئم النَّاسُ كثرة الكلام عن التوظيف الذي لم يتحقق بطريقة ناجعة لحد الآن، وذلك رغم السنين الطويلة التي قضيناها خلف سراب التعمين، أو التوطين كما يقول عنه البعض في بلاد أخرى، أنا لست خبيراً اقتصادياً ولا إدارياً، ولكن أسمح لنفسي بالتفكير خارج الصندوق، ولأن التفكير لا يحتاج إلى إذن ومًتاح للجميع، فوجدت أنَّ التشغيل كلمة أكثر شمولية من كلمة التوظيف، والتوظيف هو عقد بين طرفين، جهة تحتاج إلى أيدٍ عاملة، وجهة أخرى فردية في المُقابل تبحث عن عمل، ونسبة الفشل في الاتفاق أكبر من الوفاق.
إذن فإنَّ مساحة التشغيل أكبر وأشمل، لأنَّ المُقْدِم على العمل أو الشغل، قد يعمل من غير وظيفة مُعينة مع جهة أخرى، والعرض والطلب في هذه المُهمة يعتمد على فكرة وقرار، فقد تكون المهمة بين الإنسان وذاته، فعلى سبيل المثال قد يعمل الإنسان مزارعاً في مزرعته أو مزرعة غيره، أو يعمل صياداً في البحر الذي يجاور بيته، وقد يشتري أو حتى يستأجر شاحنة، فيتعهد بنقل أغراض النَّاس عليها مُقابل أجر، وقد يتطور الأمر بالشخص النَّاوي على العمل، فيدخل في شراكة مع مجموعة من إخوانه أو أصدقائه في مشروع تجاري، والذي يرجِّح الوظيفة الحكومية على غيرها، هو الضمان بعد التقاعد أو العجز عن العمل، ولكن صندوق الضمان الوظيفي قد حلَّ هذه العقدة الآن.
لكن قد يظل الإنسان متوقفاً عن المُبادرة في تنفيذ شيء من هذه الأفكار، فيحتاج إلى من يُحفّزه ويكسر جمود التفكير عنده، فالشركات لن تُقدم على خطوة من هذا القبيل كما تعودنا منها، إذن فالجهة الوحيدة التي عليها القيام بمثل هذا العمل هي الحكومة، ولكن قبل ذلك عليها أن تخرج عن المألوف المتكرر في تفكيرها، وأن تفكر بطريقة مُختلفة عن المعتاد، ولدينا مجموعة جهات نشعر أنها الأقرب إلى خدمة النَّاس، مثل: وزارة التنمية الاجتماعية، ووزارة العمل، ووزارة التجارة والصناعة وترويج الاستثمار، ووزارة التراث والسياحة، ووزارة الثروة الزراعية والسمكية وموارد المياه، ووزارة الثقافة والرياضة والشباب، ووزارة الداخلية من خلال المُحافظات، وحتى وزارة الأوقاف والشؤون الدينية من خلال استثمار أموال بيت المال وأموال الوقف، فكل هذه الجهات قريبة من خدمة المُواطن، فينبغي لها أن تعمل متعاضدة ومتعاونة، وذلك من أجل تدوير دولاب التشغيل، وبعد مضي سنوات على التأسيس، ستجد الحكومة أنَّ المواطن عرف الطريق، وبدأ العمل بتقليد من سبقوه.
ويتوجب على مؤسسات الدولة أن تفتح مجموعة من الورش لتدريب الناس على العمل، وأن تُلغي شرط الشهادة، والتعرف على توجهاتهم الفكرية والذهنية وطموحاتهم العملية، وأن تنشئ الجمعيات الأهلية بدعم حكومي، فستجد الكثير من المواهب الكامنة في نفوس الناس، قد أفصحت عن نفسها، وأن النَّاس طامحون إلى العمل الحر، وستجد من بينهم من يطمح أن يكون تاجراً، وآخر ميكانيكي سيارات، أو كهربائي سيارات، أو كهربائي منازل ومنشآت، أو نجاراً أو أعمال الحدادة والسباكة، أو مزارعاً، أو صياد أسماك، أو بائع قطع غيار، أو بائع مواد البناء، أو عاملاً بالسياحة والأعمال الفندقية، أو بائع خضار، وغير ذلك الكثير من الأعمال الصالحة، ولكن سيحتاج هذا الإنسان إلى مظلة تحميه من الخسارة والفشل، وتحميه من اللوبيات الوافدة، ونحن لا نحسد وافداً على العمل، ولكن على ألا يُلحق الأذى بالمواطن، فهناك شواهد كثيرة على ضررهم الكبير على التاجر العُماني.
إنَّ الدعم المادي والمعنوي للمواطن، لا يقل أهمية عن مشاريع الاستثمار التي تتبناها الحكومة، فلنعتبر هذا المواطن مشروع مصنع يرجى إنتاجه، وذلك بمجرد أن يصبح قادراً ومتمكناً، وقد لا أقول بهتانا إذا اقترحت تخفيض الحد الأدنى للأجور إلى مائتي ريال، بشرط أن يدعم صندوق الضمان الوظيفي أجر المواطن حتى لا يقل مجمله عن 500 ريال، بحيث يسحب الدعم بشكل تدريجي منه، فعلى سبيل المثال كلما زاد الأجر من قبل جهة العمل عشرة ريالات، يسحب الصندوق منه في المُقابل خمسة ريالات، ويجب أن يُدعم الصندوق من الضرائب وأموال الزكاة، وقد نحتاج إلى هذا الدعم لفترة عشر سنوات تقريباً، وبعد ذلك ستنتشر ثقافة العمل الحر بين الناس، بعدما يطعم الناس حلاوة المال المكتسب من التجارة والأعمال الحرة، وستصبح الحاجة للوافدين فقط في الضرورات المُلحة والضيقة، فحتى أعمال النظافة سيشغلها الإنسان العُماني، عندما يكون الراتب مجزياً ويستحق التعب، ففي اليابان مثلاً يكون راتب عامل النظافة أعلى من راتب الطبيب، والأهم في كل هذا أن يُعطى الإنسان المجتهد الثقة الكاملة، وحتماً سيُبدع.
لن أدعي أني خبير فذ، ولا نابغة مبهراً في حل مشاكل التشغيل، ولكن أطرح فكرة من أفكار العصف الذهني، ومن الممكن طرح التساؤل عن الحلول من طالبي العمل أنفسهم، فالدول المُتقدمة لا تترك القرار للمدير والوزير في حل الإشكالات، وإنما هناك مراكز بحوث تقوم بالدراسات المعمقة، وتطرحها كمشاريع مدروسة، وممحصة من كل الجوانب، وذلك بمُقابل مادي وفي هذا أيضاً تشغيل للعقل الوطني، والأمر الطبيعي أن المؤسسات المعنية، لن تأخذ أية أفكار لا تتناسب وحاجتها، أما أن يقال لكاتب مقالة ما إنك طرحت المشكلة.. فأين الحل؟ فهذا تعجيز وهروب إلى الأمام عن تبني الحلول الناجعة.
إنَّ الوطن يعيش مشاكل مزدوجة مع التشغيل، فهناك مليارات الريالات تُغادر البلد سنوياً، وهناك في المقابل عشرات الآلاف من البشر يبحثون عن العمل، والحلول التي تتبناها الحكومة عادية وتقليدية، ولا تخرج عن المألوف، فأكبر فكرة تفتق عنها ذهن الحكومة، إخراج بعض الموظفين إلى التقاعد، وإبدالهم ببعض ممن ينتظرون الوظيفة، كمن ينقل المشكلة من يده اليمين إلى يده الشمال، بل قد تكون تجنَّتْ على العمل، عندما تخرج أصحاب الخبرة بصورة فجائية، واستبدالهم بمن لاخبرة لهم، فالتقاعد المخطط يكون أفضل للعمل من الأسلوب المُفاجئ الذي حدث مؤخراً، وخاتمة القول، علينا أن نتبع نهجا ذكيا ومرنا في وضع الحلول، وأن تكون القرارات مدروسة وممحصة وناجعة، وأن نتجاوز مراحل التجريب في الوقت الضائع، والتقاعد يجب أن يكون مثل “سِفّة الجراب” كلما انتهت خوصة تتبع بأخرى، وعلى ذلك يكبر البناء ولا يتوقف العمل، “وعاد شوفولكم بيدار يشرح لكم فقرة السِفِّة والجراب”.
حمد بن سالم العلوي