تعدَّت الساعة الثانية عشرة بعد منتصف الليل، والصمت يلف المكان بهدوء مخيف لا تكاد تسمع إلا أصوات نباح الكلاب الضالة في أزقة الشوارع، وصوت أبواق السيارات القليلة التي تمر بالقرب من شقة سعاد، التي وقفت على شرفتها تتأمل المكان وتفتقد ازدحام السيارات وإزعاج الباعة والمارة في زقاق حارتهم القديمة، بينما الصوت الوحيد الذي لفت انتباهها هو صوت العم عبدالله وهو يحمد الله ويشكره وهو يشرع في إغلاق متجره الصغير معلناً انتهاء ذلك اليوم والعودة لأهل بيته، وهو يأخذ معه القليل من الأكياس المحملة بالفواكه المختلفة ليفرح بها أبناءه الصغار.
أحست ببرودة الجو النازل على جسدها الهزيل، ففضلت الدخول لشقتها وأغلقت خلفها باب الشرفة بإحكام، بدأت يداها ترتجفان بشدة وارتعشت أوصالها من شدة البرد، وسرت حمى باردة لتنهش جسدها الضعيف، رمت بنفسها على السرير، وهي تشد على لحافها المخملي الزهري ولفته على كامل جسدها لتدفئه، وهي تبكي بحضن وسادتها بحرقة وألم، للحظات تذكرت فقدها لزوجها وحبيبها، ورفيق دربها، كم تحن إليه وتشتاق لسماع صوته وهو يواسيها عندما تحزن، ويربت على كتفها ويمسح دمعتها، فبعد موته استغرقت وقت طويلاً لتفهم أن حياتها لم تعد كما كانت، لم يعد هناك من يوقظها لقيام الليل وصلاة الفجر، ولن يكون هناك من يشاركها الإفطار والغداء والعشاء على طاولة الطعام، ولن تجد من يخرج معها ويشاركها زيارة الأهل والأصحاب، والتقاط أجمل الصور في التجمعات العائلية والرحلات الجماعية والفردية، الجميع يحسدهما على ذلك الحب الذي جمع بينهما، ولم يكلله الله بالذرية رغم مرور الأيام والسنين وشوق الانتظار، ما أشد وحدتها في هذه اللحظات!!. بدأت بالبكاء وهي تتساءل بينها وبين نفسها، من سيكون لها آذان صاغية، وقلباً رؤوفاً، وزوجاً رحوماً، حنوناً، من؟؟.
تلمست مخدة زوجها سعيد الناعمة التي كان يتوسدها أثناء قراءته لمصحفه ولكتاب أذكاره اليومي قبل نومه وعند استيقاظه، فلا زالا موضوعان على طاولتهِ الجانبية يعلوهما بعض الغبار.
– سامحني
أسرعت لمسحهما بخرقة نظيفة وأرجعتهما لوضعهما السابق،
أطالت الحديث مع وسادته الموضوعة على كتف السرير كأنه يستند عليها بالفعل، وهي تتخيله أمامها يستمع لها وتحدثه ولكن ما من مجيب، وعادت لتأملاتها وأحلامها مَن جديد تنتظر أن يرد عليها وأن تسمع همسه أو صوته، ولكن للأسف ما مَن مجيب ليأخذها مِن هذا العالم الخالي من كل معاني الحب، تريد أن تبقى في عالمها الخاص بعيداً عن واقعها المتعب، أغمضت عينيها بعد إرهاق كبير واستغرقت في نوم عميق، فعملها هو الشيء الوحيد الذي يستطيع أن يخرجها من لحظات التأمل لتعيش واقعها الملموس.
مع بزوغ الفجر وصباح جديد، توجهت سعاد لعملها كمنسقة للزهور والهدايا، لا يأخذ مكان عملها مسافة طويلة من شقتها، فتذهب مشياً متنفسة أفكاراً جديدة لتضعها في خططها للورود التي تنتظرها، لم تنتبه للمركبة المتسارعة القادمة في طريقها وكأنها تسابق الريح، ففوجئت سعاد عند رؤيتها ولكن ما مِن مفر من الهروب، بينما تسمرت قدماها خوفاً وشهقت معلنة الشهادة لتلقى ربها بالقول الثابت.
وكأن صاحب السيارة كان يحاول أن يبعد سيارته عن طريقها ولكنه في نهاية الأمر اصطدم بها وبعمود الكهرباء القريب من الشارع وتنقسم السيارة لنصفين وتتوقف أخيراً.
أسرع الناس لإنقاذ سعاد من تحت براثن الحديد والبعض الآخر حاولوا إخراج صاحب السيارة واستطاعوا ذلك بعد جهد جهيد، ووصلت سيارة الإسعاف لتنقل المصابين لأقرب مستشفى.
فتحت سعاد عينيها بجهد كبير وبثقل شديد ولكنها في نهاية الأمر نجحت في فتحهما ببطئ، وأخذت تنظر للوجوه التي حول سريرها، وصاحت باكية:
أين أنا؟؟
تفحصها رجلاً ببالطو أبيض ونظارته السوداء وقال لها: لنرى!؟
وسلط على عينيها ضوءاً ساطعاً وهو يسألها: ما اسمكِ؟ وأين تسكنين؟؟
لم تجبه فهي لم تعرف الإجابة من الأساس.
-أريدكِ أن تنظري لكل من حولكِ في هذه الغرفة، ألا تعرفين أحداً منهم؟؟؟
ردت عليه سعاد بصوت خائف: وهل علي ذلك؟!؟؟؟؟؟
وقف رجل وامرأة كبيران في السن وقفا مقابلها وكلاً منهم يمسك بيد الآخر، وشاباً يافعاً يجلس طرف سريرها، فصاحت قائلة : من أنتم؟؟!
تأملها الطبيب جيداً وقال بصوت حزين : يبدو أنها فقدت الذاكرة.
سعاد: ماذا؟ ما الذي تقوله؟
وأخذت المرأة التي أمامها تبكي بحرقة وهي تقول:
ماذا فعلتم بابنتي؟؟
قال الطبيب بصوت هادئ:
اسمكِ سعاد وتعرضتِ لحادث سير وأنتِ معنا هنا ما يقارب الثلاثة أشهر كنتِ بين الحياة والموت وكتب الله لكِ حياة جديدة.
سأضطر لعمل بعض الفحوصات والأشعة لرؤية تأثير العملية الأخيرة، هذه أمكِ وهذا أباكِ، وهذه المعلومات استقيناها من حقيبتكِ التي كانت بحوزتكِ والتي تثبت هويتكِ.
سعاد: ما الذي سيحدث لي الآن؟
الطبيب: سنراقبكِ فترة من الزمن لعله فقدان ذاكرة مؤقت.
ولكن عليكِ أن تحمدي الله أنكِ بكامل صحتكِ، أما الذاكرة قد تعود، وقد تكتبين سطوراً جديدة تخطين فيها حياة جديدة.
لقد انكتب لكِ عمراً جديداً.
خرج الطبيب وبقيت سعاد مع والديها اللذان عرَّفاها على الرجل الغريب قائلين: هذا السيد بدر. صاحب السيارة التي صدمتك.
كان يتكئ على عكازه وهو يقف قائلاً: سأبذل كل جهدي لتكوني بخير لقد كنتُ سبباً رئيساً في الحادث ولكن لولا لطف الله لكنا في عداد الأموات. لقد حاولت السيطرة على مركبتي ولكن الفرامل لم تعمل، لحظات ولم أعِ بنفسي إلا وأنا في المستشفى.
ذهب بدر للطبيب لمراجعة الفحوصات الأخيرة لسعاد ولكن الطبيب لم يخبره بشيء جديد، فقدان الذاكرة قد يعود لها في أي وقت وقد يطول الأمر، ماذا عليه أن يفعل؟!، إحساسه بالمسؤولية تجاه سعاد يكبر، عليه أن يعرضها على أطباء آخرين، ابتسمت سعاد قائلة: شكراً لك ولكني كلي ثقة أن هذا الأمر ما حدث إلا لسبب قد كتبه الله لي. وقد كفيت ووفيت والحمدلله وأنا بخير.
لم يستطع أن يخفي إعجابه بكلماتها البسيطة التي ضربته في الصميم، لم تتأفف أو تغضب أو تصرخ بل حمدت الله على كل شيء، ماذا عليه أن يفعل ليستطيع أن يخلي مسؤوليته وعدم الشعور بالذنب، لا يستطيع أن يتركها هكذا لقد تسبب فيما آلت إليه حالها. تحدث لوالديها ورغبتهِ في أخذها للعلاج خارج البلاد لكنهما شكراه على حسن خلقه وأن حالتهما الصحية وكبر سنهما لا تسمح لهما بالسفر معها ولن يسمحا لابنتهما أن تسافر مع شخص غريب عنها.
ولكن بدر كان يخالجه شعور غريب يدغدغ قلبه، ويزداد شعوره كلما نظر لسعاد فيعجبه تفاؤلها وصبرها ورغبتها في الحياة مهما كانت الظروف الصعبة التي تنتظرها فهي تعلم أن الله يقدِّر لها الأفضل.
تقدم بدر منها بهدوء وهو يجلس بجانبها ويحاول جمع أفكاره وكيفية البدء في الحديث مع سعاد:
أريدكِ ان توافقي على الزواج مني أرجوكِ.
ابتسمت وهي تقول له:
لست مضطراً لهذا يا بدر. لقد قدَّره الله لي ذلك الحادث.
صاح بدر:
ربما أيضاً قدَّر الله لي أن ألقاك وأحبكِ.
لا تفعل ذلك أرجوك.
سعاد لن أكذب عليكِ لقد أحببتكِ منذ أن رأيتكِ، سلبتِ قلبي وعقلي بهدوئكِ ورزانتكِ، أحببت الحياة لوجودكِ فيها، لقد كتب الله لنا أن نلتقي ونرسم حياة جديدة معا، أرجوكِ!…
لقد كانت من أجمل الشهور قضيتها بجانبكِ، أحببتُ ابتسامتكِ وحديثكِ، فلا تحرميني من وجودكِ في حياتي.
سعاد: ليكن في علمكَ بأنني أبداً لم أفكر أن أحملكَ مسؤولية ما حدث لي أبداً، أبداً، ولا أريدكَ أن تشعر بذلك. فالحمد لله على نعمة الصحة والعافية. وأحب أن أبشركَ لقد بدأت أسترجع قليلاً من ذاكرتي، والأمر بحاجة للتدرج.
الحمدلله هذا خبر رائع بالفعل، أعرف كل شيء عنكِ يا سعاد، أريدكِ أن تعطيني فرصة فأنا أحبكِ.
ماذا تفعل؟؟ هل تسلم قلبها له؟هل يحبها فعلاً أم هو شعور بتأنيب الضمير فقط وبعد فترة يتلاشى، لم تعد لها ذاكرتها بالكامل ولكن قلبها ليس ملكاً لها ماذا عليها أن تفعل، أن تعيش مع ذكريات الماضي وأشباح الحب، أم تعيش من جديد قصة حب قد يكون مصيرها الفشل لأنها بنيت على الشفقة والاستعطاف. وربما الحب، ولكن حب قد ينتهي حين يتجدد قلبه بحب جديد بعيداً عن أي ضغط أو إكراه، ماذا عليها أن تفعل، كل شيء حولها بدأ غامضا ومبهما، لا تريد أن تجبر قلبها لنسيان الماضي الذي بدأت بتذكره من جديد، ماذا عليها أن تفعل؟؟
إلهام السيابية