إنّ مواقع التواصل الاجتماعي في انخفاضٍ ملحوظ، خصوصًا من ناحية الجودة، بسبب هجرة صنّاع المحتوى والمستخدمين إلى المجتمعات الرقمية المتخصصة. صار الكثير من الناس يهجرون هذه المواقع ويبحثون عن منصات بديلة لقضاء وقت فراغهم بدلًا من صرف الساعات فيها على اللاشيء، وهو بدوره ما يشكّل موجة جديدة من الاهتمام بالمجتمعات الرقمية.
سنتحدث في هذا المقال عن أهمية المجتمعات الرقمية، وكيف أنها تصبح تدريجيًا بديلًا لمنصات التواصل الاجتماعي خصوصًا للفئة الأكثر تخصصًا واحترافية في المجتمع، وسنتحدث عن فائدة هذه المجتمعات الرقمية وكيف تنعكس بالإيجاب على المواضيع والمجالات التي تدور حولها.
ما هي المجتمعات الرقمية ؟
المجتمعات الرقمية هي أي منصة رقمية تسمح للمستخدمين بتبادل المعلومات والتعليقات فيما بينهم عن أي موضوع أو مجال معيّن يهتم به هذا المجتمع، وقد تكون هذه المواضيع عن هواية معيّنة أو تجمّعًا لسكّان منطقة معيّنة أو تخصص معيّن في مجالٍ من المجالات.
كانت المنتديات في بداية الألفية الجديدة هي أبرز مثالٍ على فكرة المجتمعات الرقمية، حيث كانت هناك منتديات متخصصة بمجالات التقنية أو ريادة الأعمال أو الاهتمامات النسائية وغير ذلك الكثير، ثم اندثر معظمها وتوقف عن العمل مع ازدياد قوّة مواقع التواصل الاجتماعي، لينتقل معظم المستخدمين إلى هذه المنصات. من منّا لا تذكر منتديات سوالف سوفت أو ترايدنت أو مجتمع لينكس العربي؟
مجموعات فيسبوك وقنوات يوتيوب ومن قبلها مجموعات +جوجل قبل أن تندثر هي أمثلة على مجتمعات رقمية مصغّرة مُستضافة على منصات التواصل أيضًا، فالمجتمعات الرقمية لا تنحصر بتلك التي تمتلك موقعها الخاص مثلًا، بل أي مكان يجمع فيه عدد من الناس حول موضوعٍ معين للنقاش عنه هو مجتمع رقمي.
ومن الأمثلة على بعض المجتمعات الرقمية المتخصصة الشهيرة والرائدة، نذكر:
- Indie Hackers: وهو مجتمع رقمي متخصص بإنشاء الشركات الناشئة والمشاريع الجديدة، حيث يسمح للمستخدمين بالتعاون والنقاش حول أمور ريادة الأعمال المصغّرة وأي مواضيع متعلقة بتأسيس المشاريع.
- Hacker News: وهو مجتمع رقمي متخصص في النقاشات المرتبطة بعلوم الحاسوب وما ينبثق عنها، وهو واحد من أشهر المجتمعات الرقمية المتخصصة في العالم.
- Wall Street Oasis: مجتمع رقمي متخصص بأمور الاستثمار والتداول والاقتصاد، مناسب لمن يفكّر بدخول مجال الأموال.
- Stack Over Flow: مجتمع متخصص في الأسئلة والأجوبة البرمجية، ويزوره عدد هائل جدًا من مطوري البرمجيات والمهندسين على مستوى العالم. استُحوذ عليه سنة 2021م بمبلغ 1.8 مليار دولار.
وغيرها الكثير جدًا مما يمكنك العثور عليه عبر البحث في الشبكة على المجال الذي تهتم به.
هل مواقع التواصل هي مجتمعات رقمية بنّاءة؟
وفقًا للإحصائيات فإن مواقع التواصل الاجتماعي التقليدية مثل فيسبوك وتويتر وواتساب وأشباهها تخسر الملايين من المستخدمين سنويًا، وهؤلاء بدورهم إما ينتقلون إلى شبكات اجتماعية أخرى أو يبحثون عن بدائل مختلفة بالمرة لقضاء أوقاتهم، منها المجتمعات الرقمية.
هناك سمات معيّنة من الملاحظ وجودها في المجتمعات المُستضافة على مواقع التواصل:
- سريعة الانتشار والشهرة، فهي جزء من منصات التواصل نفسها.
- ضعيفة الانتماء، فمجتمعك ما هو إلا مجموعة أخرى من بين ملايين المجموعات المتوفرة والتي يمكن دخولها والخروج منها في أي وقت، وبالتالي المستخدم لا يشعر باستقلالية هذا المجتمع أو أنه فريد من نوعه أو أنه ينتمي إليه.
- قليلة التنظيم، ففي النهاية هي ليست سوى مجموعات وبالتالي من النادر أن تجد مبادرات تغيير حقيقية صادرة عنها، بل هي للنقاش اليومي أو العام، وغالبًا ما تكون الرقابة فيها ضعيفة.
وعلى النقيض من ذلك تكون المجتمعات الرقمية المستقلة:
- بطيئة الانتشار والتوسّع، فهي ليست جزءًا من منصات التواصل.
- قويّة الانتماء، فهي مجتمعات مستقلة متخصصة في موضوعها وبالتالي من الأدعى أن يعود لها المستخدم ليتفقدّها ويرى ما الجديد، فهي لها هوية وكيان خاص.
- قوية التنظيم، فغالبًا ما يكون فيها مشرفون متخصصون في إدارتها ومتابعتها، وبالتالي هناك نمط معيّن من النقاشات والمبادرات المتوقع صدورها عن هذه المجتمعات.
- بها محتوى أكثر جودة من مجموعات وسائل التواصل نظرًا للأسباب أعلاه.
ولهذا فإن كنت تفكر في الانضمام إلى أحد هذه المجتمعات أو إنشاء واحدٍ بنفسك، فمن الأفضل أن تختار المجتمعات الرقمية المستقلة إن أمكن ذلك.
كيف يمكن بناء المجتمعات الرقمية وحشد المهتمين لها؟
الناحية التقنية لإنشاء المجتمع الرقمي سهلة للغاية؛ فقط ثبّت أحد برمجيات إدارة المجتمعات على خادوم (Server) واربطه باسم نطاق. وهذه البرمجيات إما أن تكون:
- برمجيات منتديات تقليدية مثل MyBB وphpBB وvBulletin وغيرها، وهي تعتمد على فكرة “الأقسام” أو التصنيفات بشكل أساسي لنشر المواضيع. وهي منتديات لم تعد مناسبة لروح العصر الجديد فلا يمكنها منافسة وسائل التواصل من ناحية الشكل والمميزات المتوفرة.
- برمجيات مجتمعات مُعاصرة مثل Discourse وFlarum، وهي تعتمد على مفهوم النقاشات بشكل أساسي بغض النظر عن تصنيفها (قد تستعمل الوسوم للتصنيف لا أكثر)، وهي أكثر حداثة ومبنية بوسائل متطورة.
كل هذا سهل ويمكنك إنجازه في أقل من يوم عمل، لكن الصعوبة الحقيقية في إنشاء المجتمعات الرقمية ليست هنا، بل في حشد المهتمين لها وإدارتها وضبط تصرّفات أعضائها على المدى البعيد.
ستكتشف مع مرور الوقت أنه من المُكلف الوصول إلى الفئة المُستهدفة في مجتمعك الرقمي عبر وسائل الإعلانات (إعلانات فيسبوك، جوجل… إلخ)، وبالتالي ستحتاج استخدام مزيجٍ من هذه الإعلانات بالإضافة إلى وسائل إبداعية أخرى لتدعو المهتمين بمجالك (تقنية، كتابة، تصميم، برمجة، زراعة، هندسة… إلخ) إلى الانضمام لمجتمعك.
وكلما كبر مجتمعك، كلما صار من الأصعب إدارته، فالمجتمعات بحاجة إلى متابعة مستمرة للتأكد من أن جميع المساهمات تخضع لقوانين ذلك المجتمع ولا تخرج عنه، وإلا قد تحصل مشاكل ومشاحنات بين أعضاء المجتمع، وهو ما قد يؤدي تدريجيًا إلى فقدان عددٍ من الأعضاء وضعف التفاعل. وقد تحتاج بالتالي إلى توظيف عددٍ من المشرفين معك للقيام بالمهمّة.
المجتمعات الرقمية في النهاية هي أماكن تجمّع بشري، وبالتالي إدارة هذه التجمعات هو ما سيكون أصعب مهمة على المدى البعيد.
لاحظ أن المجتمعات الرقمية مفيدة بالنسبة للشركات والمؤسسات أيضًا، وليس الأفراد فقط. يمكن للشركات أن تستفيد من أماكن تواجد المتخصصين هؤلاء في أي مجال للتسويق لنفسها ومنتجاتها، أو كنقاط توظيف محتملة لأي أماكن شاغرة في الشركة، فهذه المجتمعات تحوي بالفعل الفئة المستهدفة التي تبحث عنها الشركات، وبالتالي هي أثمن لها من مواقع التواصل التقليدية أو الوسائل الأخرى.
المصدر المفتوح كمثال على مجتمعات رقمية متخصصة بنّاءة
المصدر المفتوح (Open Source) هو نمط تطوير برمجيات بديل للبرمجيات التقليدية الاحتكارية، حيث يُسمح للمستخدمين بالحصول على كامل الشفرة المصدرية للبرنامج، بالإضافة إلى حقّ تعديله أو مشاركته أو نسخه كيفما يشاء المستخدم.
لقد نمى المصدر المفتوح بقوّة في السنوات الأخيرة، وصار هناك الكثير من البرمجيات التي تخدم المستخدمين في مختلف القطاعات. تمتلك هذه البرمجيات بدورها مجتمعات رقمية تدور حولها لتوفير الدعم الفني لها أو تطويرها أو الحديث عن أي شيء متعلق بها. يمتلك ووردبريس مثلًا كنظام إدارة محتوى مفتوح المصدر مجتمعًا كبيرًا من المستخدمين والمطورين، وهناك أيضًا منتديات عرب ووردبريس كأكبر مجتمع عربي متخصص في ووردبريس.
تكون البرمجيات مفتوحة المصدر منشورةً غالبًا على مواقع مثل GitHub وGitLab، وهي منصات اجتماعية متخصصة بتطوير البرمجيات ونشرها والنقاش حولها. بالطبع لن يهتم أحد بتطوير برنامج احتكاري تجني الشركات من ورائه الملايين مجانًا، ولهذا لن تجد الكثير من المجتمعات المتخصصة حول هذه البرمجيات اللهم إلا للدعم الفني، لكن البرمجيات مفتوحة المصدر نجحت في هذا لأنها غالبًا ما تكون بالمجان وخالية من الاحتكار، وتقدم فائدة للمستخدم وتحترم حرّيته، ولهذا تجد أنه هناك المئات من المجتمعات التي تدور حول مختلف البرمجيات مفتوحة المصدر بهدف المساهمة فيها وتطويرها والتسويق لها.
يسمح GitHub مثلًا برعاية هذه البرمجيات ماديًا من داخل المنصة نفسها، بالإضافة إلى فتح صفحات نقاش وتبليغ عن العلل والمشاكل التي قد تكون موجودة، والكثير من المميزات التشاركية لتطوير البرمجيات وتنقيحها وإدارتها، وهو ما يفيد البرمجيات مفتوحة المصدر بطبيعتها، لأن الكل يمكنه المساهمة فيها، على عكس البرمجيات الاحتكارية.
أهمية بناء المجتمعات الرقمية العربية ودعمها
إن السوق العربي متعطّش للمجتمعات العربية البنّاءة.
ذلك أنه وبسبب إغلاق الكثير من المنتديات الكلاسيكية القديمة، صار المستخدم العربي محدودًا جدًا في الأماكن التي يمكنه التواجد فيها للحديث عن المواضيع المتخصصة التي تهمّه، وليس أمامه سوى مواقع التواصل الاجتماعي. أجنبيًا هناك مجتمعات ومنتديات كثيرة جدًا لكل شيء، حتى أنك قد تجد أكثر من 10 مجتمعات رقمية لنفس الموضوع أو التخصص، ولكلٍ مستخدموها المختفلون عن الأخرى.
حسوب I/O مثلًا هو بديل عربي مشهور لمجتمع ريديت الأجنبي، حيث يوظّف نفس فكرة المجتمعات الفرعية (أو Subreddits) لجمع المهتمين حول أي مجال يريدونه. يزور حسوب I/O اليوم عشرات الآلاف من الزوّار شهريًا، وهناك الكثير من النقاشات ومشاركات التجارب الشخصية والمواضيع في مختلف المجالات التي تُنشر كل يوم.
لكن ما يزال هناك المتسع للكثير من الأفكار الأخرى، فالمجتمعات المتخصصة بمجالات معينة (وليست العامّة) قليلة جدًا بل وتكاد تنعدم عربيا، وبالتالي السوق مفتوح جدًا لأي شخص أو شركة أو مؤسسة للدخول إلى المجال وإنشاء مجتمع رقمي بنّاء يجمع هؤلاء المهتمين.
إننا نكرر استخدام كلمة “بنّاء” وهذا لأنه لا يكفي إنشاء المجتمع الرقمي، بل لا بد من عملية سبر ومتابعة وإشراف لجعله مجتمعًا يرغب المستخدمون المهتمون بالانضمام إليه عبر:
- سياسة قوانين واضحة وصارمة تضمن عدم تعدّي الأعضاء على بعضهم البعض، وأن يبقى المكان للنقاش الراقي والمحترم والموضوعي.
- عملية إشراف روتينية تحذف المساهمات منخفضة الجودة وتدعم تلك المرتفعة الجودة، بالإضافة إلى منع السبام.
- العمل على جلب المزيد من المستخدمين المتخصصين أصحاب الفكر البنّاء للإفادة والاستفادة في الموضوعات التي تهم مرتادي المجتمع.
كل هذا قد يكون أمرًا صعبًا في البداية، لكن النتائج ستكون مذهلة على المدى البعيد. فبناء المجتمعات الرقمية قد يستغرق سنوات ليؤتي أُكله، لكن حجم هذا الأُكُل سيكون كبيرًا إن نضج كما شرحنا في مقالنا هذا.
خاتمة
إن المجتمعات الرقمية في نموٍ كبير. نمو كبير جدًا يمكنك أن تعرف حجمه والخطر الذي يشكّله على وسائل التواصل الاجتماعي التقليدية من حجم الخطوات التي تحاول هذه المنصات عملها لجلب صنّاع المحتوى إليها بدلًا من تركهم يعملون مجتمعاتهم الرقمية الخاصّة.
ولا بد أن يبدأ اهتمام المستخدم العربي بهذه المجتمعات وبنائها والبحث عنها والانضمام إليها وإشهارها، فهي أفضل للجميع من وسائل التواصل التقليدية التي لا هم لها سوى عرض الإعلانات وجعل المستخدمين يبقون لأطول فترة ممكنة في المنصة لجني الأرباح.
التدوينة المجتمعات الرقمية المتخصصة في مواجهة جديدة مع مواقع التواصل الاجتماعي ظهرت أولاً على عالم التقنية.