يُمثل الحادي عشر من يناير 2021 يوماً فارقاً في التاريخ العُماني الحديث والمُعاصر؛ لسببين يتمثل الأول في كونه الذكرى الأولى لتولي حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- مقاليد الحكم في البلاد، والسبب الثاني يتمثل في كونه شهد إصدار النظام الأساسي الجديد للدولة في عهد السلطان هيثم بن طارق في المرسوم السلطاني السامي رقم 6/ 2021.
وتكمن الأهمية التاريخية في المادتين الخامسة والسابعة من النظام الأساسي الجديد للدولة التي من خلالها أُقرّ منصب ولاية العهد للمرة الأولى بشكل رسمي في التاريخ العُماني؛ إذ جاء في المادة الخامسة: “تنتقل ولاية الحكم من السُّلطان إلى أكبر أبنائه سناً، ثم أكبر أبناء هذا الابن، وهكذا طبقة بعد طبقة، فإذا تُوفي الابن الأكبر قبل أن تنتقل إليه ولاية الحكم انتقلت إلى أكبر أبنائه، ولو كان للمتوفى إخوة”، وبهذا فإنَّ انتقال الحكم سيكون في المقام الأول بشكل رأسي من الأب إلى الابن. ثم بشكل أفقي من الأخ إلى الأخ “إذا لم يكن لمن له ولاية الحكم أبناء فتنتقل الولاية إلى أكبر إخوته”. وجاء في المادة السابعة: “يصدر أمر سلطاني بتعيين من تكون له ولاية الحكم وفقاً لنص المادة (5) من هذا النظام ولياً للعهد، ويحدد الأمر السلطاني اختصاصاته، والمهام التي تسند إليه”.
ومما يُقرأ في هذا المرسوم في بابه الأوَّل الخاص بالدولة ونظام الحكم بمواده الاثني عشر عموماً:
– وضوح آلية انتقال الحكم مع الأخذ في الاعتبار كل الاحتمالات فلا مجال للتأويل ولا للخِلاف.
– ضمان ديمومة الاستقرار السياسي والاقتصادي والمجتمعي لانتقال ولاية الحكم في الدولة.
– استحداث منصب ولي العهد للمرة الأولى في التاريخ العُماني بشكل رسمي مُحدد المهام والصلاحيات.
– استحداث مجلس وصاية يُمارس صلاحيات السُّلطان في حال انتقلت ولاية الحكم إلى من هو دون سن الحادية والعشرين، ويُعيّن مجلس الوصاية من قبل السُّلطان، وفي حالة لم يتم تعينه فمجلس العائلة المالكة يتولى تعيين مجلس وصاية يتكون من إخوة السُّلطان واثنين من أبناء عمومته.
ويُعد هذا المرسوم السُّلطاني خطوة مُهمة في تنظيم تداول السلطة وضمان انتقال سلس في نظام الحكم في عُمان، وهو خطوة تاريخية استثنائية بما تضمنته من تعيين ولي للعهد -منصب سياسي يُعد صاحبه المسؤول الثاني بعد السُّلطان وهو الذي سيتولى الحكم من بعده- كسابقة تاريخية في التاريخ العُماني لها جذورها ومرجعياتها في التاريخ الإسلامي، وبالعودة للجذور التاريخية لولاية العهد في التاريخ الإسلامي، فالرسول -صلى الله عليه وسلّم- انتقل إلى الرفيق الأعلى يوم الإثنين من شهر ربيع الأول سنة 11هـ/ 632م، دون أن يُحدد طريقة الحكم وآليته في الدولة الإسلامية من بعده؛ حيث ترك الأمر للصحابة -رضوان الله عليهم- مصداقاً لقوله تعالى: “وأمرهم شورى بينهم” (سورة الشورى، الآية 38)، فكان انتقال الحكم في فترة الخلافة الراشدة (11- 40هـ) بطريقة انتخابية إلا أنها لم تعتمد طريقة واحدة؛ فحيناً كان انتخاباً مُباشراً مثلما حدث في اختيار الخليفة أبي بكر الصديق، وحيناً بالتسمية بعد معرفة آراء الناخبين، وأخذ البيعة منهم كما في خلافة عُمر بن الخطاب، وتارة أخرى كان انتخاباً يقوم به الزعماء بين عدة أسماء كما في خلافة عثمان بن عفان.
وظهر منصب ولي العهد للمرة الأولى في عهد الخلافة الأموية؛ فأول من عيّن ولياً للعهد كان الخليفة الأموي مُعاوية بن أبي سفيان؛ حيث أخذ البيعة بولاية العهد لابنه يزيد، وبعدها توالى أولياء العهود في فترة الخلافة الأموية (40- 132هـ). وقد اتسمت ولاية العهد الأموية بمجموعة من السمات، أهمها:
– أن يكون ولي العهد من أبوين عربيين حُرين.
– نضج ولي العهد وبلوغه سن الرشد.
كما شهدت ولاية العهد في الخلافة العباسية (132- 656هـ) تطوراً اتسق مع المُتغيرات والظروف التي شهدتها مؤسسة الخلافة عموماً، فخلفاء العصر العباسي الأول (132- 247هـ) لم يكتفوا بتعيين ولي واحد للعهد، وإنما تعدوا إلى اختيار اثنين وثلاثة؛ حيث اختار أبو العباس السفاح أخاه أبا جعفر المنصور ولياً للعهد، ومن بعده عيسى بن موسى. واختار الخليفة محمد المهدي ابنه موسى الهادي ولياً للعهد ومن بعده الابن الآخر هارون الرشيد. أما الخليفة الرشيد فعيّن ثلاثة من أبنائه في ولاية العهد، وهم: الأمين والمأمون والمُؤتمن. وكذلك فعل الخليفة جعفر المتوكل بتعيين ثلاثة من أبنائه في ولاية العهد: المنتصر فالمعتز فالمؤيد.
وكان لوصايا الخلفاء العباسيين لولاة عهدهم قيمة سياسية ودينية تضمنت خلاصة خبرتهم في سياسة الدولة وإدارة مؤسساتها، ونذكر على سبيل المثال وصية الخليفة أبي جعفر المنصور لولي عهده ابنه مُحمد المهدي: “… فاتَّقِ الله فيما أعهد إليك من أمور المُسلمين بعدي يجعل لك فيما كربك وحزنك مخرجاً… واحكم بالعدل ولا تشطط، فإنَّ ذلك أقطع للشغب وأحسم للعدو وأنجع في الدواء… وأعد رجالاً بالليل لمعرفة ما يكون بالنهار، ورجالاً بالنهار لمعرفة ما يكون بالليل، وباشر الأمور بنفسك ولا تضجر ولا تكسل ولا تفشل… وتفقّد من يبيت على بابك وسهّل أذنك للناس وانظر في أمر النُزَّاع إليك، ووكل بهم عيناً غير نائمة ونفساً غير لاهية…”.
أما في التاريخ العُماني؛ فإنَّ “ولي العهد” يظهر للمرة الأولى كمنصب ولقب سياسي رسمي؛ فعبْر تاريخها الطويل والممتد عرفت عُمان الكثير من الألقاب في منظومة الحكم والإدارة، لكن لم يكن “ولي العهد” إحداها. ومن الألقاب التي عرفتها عُمان للحاكم الذي يتولى السلطة السياسية بتسلسل زمني وفق ما أوردته المصادر التاريخية: لقب الملك والوالي والعامل والإمام والسلطان والسيد. وهذا التعدد والتنوع في الألقاب السياسية يعكس شكل الحكم السائد وطبيعته، كما أنه يكشف عن السلطة السياسية الحاكمة وتوجهاتها.
ولم يكن لمنصب ولقب ولي العهد صفة رسمية حتى تاريخ 11 يناير 2021م، وهو ما يُشكّل تطوراً تاريخياً في نظام الحكم في عُمان يتماشى مع التقاليد السياسية والخصوصية التاريخية لعُمان آخذة في الاعتبار ظروف ومُتغيرات المرحلة التاريخية الآنية، ومطالبات المجتمع الدولي بوضوح عملية انتقال السلطة في عُمان، وهو ما تضمنه المرسوم السلطاني (6/ 2021) بوضوح تام انطلاقاً من تراث الحكم العُماني.
وينبغي في ختام هذا المقال أن نُشير إلى أنَّ ما يتم تداوله من وثائق أشارت إلى “ولي العهد” لا تحمل الصبغة الرسمية، كون أن “ولي العهد” في المقام الأول منصب سياسي لا يتم تداوله إلا بقرار من رأس السلطة السياسية الحاكمة؛ وهو ما لم يكن موجوداً قبل تاريخ 11 يناير 2021م.
د. أحلام بنت حمود الجمهورية – باحثة وكاتبة في التاريخ