من أهم السمات التي يتميز بها الشرع الإسلامي الحنيف عن القوانين الوضعية القصاص كعقوبة للجرائم، والقصاص في الشريعة الإسلامية ثابت وأصيل وله سنده في القرآن والسنة والإجماع، وهو جوهر نظرية العقوبة في الشريعة الإسلامية.
تعددت التعريفات في الفقه الإسلامي للقصاص فلا يوجد فقيه أو مذهب في الفقه الإسلامي إلا وتعرض للقصاص بالبحث والدراسة والتفصيل من بدايته إلي نهايته، ورغم ذلك فإنها متفقة في المضمون وإن اختلفت في المبني من الألفاظ، ليكون القصاص لغة: المساواة علي الإطلاق ومعناه أيضاً التتبع ومنه قصص السابقين بمعني أخبارهم، والقصاص مأخوذ من قص الأثر، وهو إتباعه، ومنه القاص لأنه يتبع الآثار، والأخبار، والقصاص اصطلاحاً: أن يعاقب المجرم بمثل فعله فيقتل كما قتل ويجرح كما جرح، وهو عقوبة مقدرة ثبت أصلها بالكتاب، وثبت تفصيلها بالسنة، وهو المساواة بين المساواة بين الجريمة والعقوبة.
وهناك تناسب بين المعنى اللغوي والشرعي، لأن القصاص يتتبع فيه الجاني، فلا يترك بدون عقاب، ولا يترك المجني عليه من دون أن يشفي غليله والقصاص هو عقوبة الدماء بشكل عام سواء أكانت دماء موضوع الاعتداء فيها النفس أم كان اعتداء موضوعه طرف من الأطراف، أم كان اعتداء موضوعه جرح من الجروح، وضمان المتلفات، أي التعويض بالمثل في الأموال والأسواق، والقصاص موجود في كل العقوبات الإسلامية غير الحدود، وهناك قصاصاً قدره الشارع بالنص، وقصاصا آخر لم يحدده الشارع، وترك تحديده لولي الأمر.
وفيما يتعلق بسقوط القصاص، فإنه يسقط فيما دون النفس لثلاثة أسباب هي: فوات محل القصاص – العفو – الصلح.
أولاً، فوات محل القصاص: محل القصاص فيما دون النفس هو العضو المماثل لمحل الجناية، فإذا فات محل القصاص لأي سبب كمرض أو آفة أو باعتداء أو نتيجة استيفاء حق أو عقوبة سقط القصاص؛ لأن محله انعدام ولا يتصور وجود الشيء مع انعدام محله. وإذا سقط القصاص لم يجب للمجني عليه شيء عند مالك أياً كان سبب السقوط؛ لأن حق المجني عليه في القصاص عيناً فإذا سقط القصاص فقد سقط حق المجني عليه. وهذا تطبيق دقيق لنظرية مالك من أن موجب العمد هو القصاص عيناً وللمجني عليه عند مالك إذا ذهبت الجارحة ظلماً أن يقتص من قاطعها ظلماً لأن حقه في القصاص ينتقل من المقطوع ظلماً إلى قاطعه، وأما أبو حنيفة – وهو من القائلين بأن موجب العمد هو القصاص عيناً – فيفرق بين ما إذا فات محل القصاص بآفة أو مرض أو ظلماً، وبين فواته بحق تنفيذ عقوبة أو استيفاء قصاص، في حين يرى الإمام الشافعي وأحمد بأن للمجني عليه إذا ذهب محل القصاص أن يأخذ الدية أياً كان سبب ذهاب محل القصاص؛ لأن موجب العمد أحد شيئين غير عين القصاص فإذا ذهب محل القصاص تعينت الدية موجباً.
ثانياً، العفو: العفو عن القصاص عند الشافعي وأحمد هو التنازل عن القصاص مجاناً أو على الدية، وهو في الحالين إسقاط من جانب المجني عليه لا يحتاج إلى رضى الجاني، ويعتبر المتنازل عن القصاص مجاناً عافياً والمتنازل عن القصاص على الدية عافياً أيضاً؛ لأن لكليهما يسقط حقاً دون مقابل ممن أسقط له الحق، وهذا تطبيق لنظرية الشافعي وأحمد في أن موجب العمد هو أحد شيئين: القصاص أو الدية، فمن تنازل عن القصاص مجاناً فقد تنازل عن حق له، ومن تنازل عن القصاص دون الدية فقد تنازل عن حق وتمسك بحق، أما العفو عند الإمام مالك، وأبي حنيفة، هو إسقاط القصاص مجاناً، أما التنازل على الدية فليس عفواً عندهما، وإنما هو صلح لأنه يتوقف بحسب نظريتهما على رضى الجاني بدفع الدية؛ لأنهما يريان أن الواجب هو القصاص عيناً.
من يملك العفو؟
يملك حق العفو المجني عليه البالغ العاقل، فإذا لم يكن بالغاً أو عاقلاً ملكه وليه عند الشافعي وأحمد، أما عند مالك وأبي حنيفة فلا يملكه الولي ولا الوصي، وإنما يملكان حق الصلح فقط، وسلطة الولي عند الشافعي مقيدة بأن يعفو على الدية بشروط، أما المجني عليه البالغ العاقل فله أن يعفو مجاناً أو يعفو على الدية.
ثالثاً، الصلح: يجوز للمجني عليه ولوليه ووصيه – إن كان غير بالغ أو غير عاقل – الصلح على القصاص بمقابل قد يساوي الدية وقد يزيد عليها، وليس للولي أو الوصي أن يصالح على أقل من الدية فإن صالح على أقل منها صح الصلح وسقط القصاص، ولكن للمجني عليه أن يرجع على الجاني بما نقص عن الدية، ويشترط الإمام مالك للرجوع أن يكون الجاني معسراً وقت الصلح، وقد تكلمنا في المقالات السابقةعن الصلح والفرق بينه وبين العفو ومن يملكه وشروطه وفصلنا الكلام في هذا كله بمناسبة الكلام على الصلح على القصاص في القتل العمد.
من التعريفات السابقة للقصاص يتبين لنا أن القصاص جزاء وفاق للجريمة فالجريمة اعتداء على النفس الإنسانية، فمن العدالة أن يؤخذ المجرم بجريمته بمثل فعله، وليس من المعقول أن نفكر بالرحمة بالجاني ولا نفكر في ألم المجني عليه وشفاء غيظه، فالقصاص يحمي حياة الناس لأن القاتل إذا حرم أحد من الحياة فأنه يحرم منها، وبالتالي يحافظ علي حياته، لذلك فالقصاص حياة لأنه يحافظ على الحياة، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ممن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان)، وقد فرض الإسلام القصاص حتى لا تنتشر الفوضى والاضطرابات في المجتمع، ولإبطال ما كان عليه الجاهليون قبل الإسلام من حروب بين القبائل يموت فيها الأبرياء الذين لا ذنب لهم ولا جرم، فجاء الإسلام وبيَّن أن كل إنسان مسؤول عما ارتكبه من جرائم، وأن عليه العقوبة وحده، لا يتحملها عنه أحد.
يأخذ القصاص في الشريعة الإسلامية حكم الفرض الثابت فقد جاء في القرآن الكريم (كتب عليكم القصاص) فهو في منزلة الصيام والجهاد من حيث الحكم، فقد جعلت فائدة القصاص عامة تشمل المجتمع كله ولم تقصره على ولي الدم وحده ( المجني عليه) بدليل قوله تعالي في بداية الآية (ولكم) فالقصاص ليس انتقاماً لفرد ولكن للمحافظة على حياة المجتمع المسلم كله، كما أن إطلاق لفظ (القصاص)على العقوبة فيه حكمة أبلغ من العدالة لأن القصاص يتضمن المساواة بين الجريمة والعقوبة، مما يعد معه القصاص مانع قوي وسداً منيعاً للجريمة، وبذلك يحيا المجتمع حياة هادئة هانئة مستقرة وتنعدم الجريمة في المجتمع، وهذه غاية لم تصل إليها النظم القانونية الوضعية حتى الآن، فالسياسة العقابية في أي نظام قانوني تهدف للمساواة بين الجريمة والعقوبة.
الجدير بالذكر أن هذه المقالات هي سلسلة ممتدة في دراسة التشريه الجنائي الإسلامي للمفكر الإسلامي عبد القادر عودة، نتناولها في سياق الأجزاء الموضوعة والمؤلفة من قبله، حيث اعتمد السواد الأعظم من المذاهب، وإلا كنا توسعنا فيما يخص المذاهب الأخرى.
أخيراً، لا مجال لإلغاء القصاص فهو ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة والأئمة بلا خلاف، لا يتغير بتغير الزمان والمكان فكتاب الله تعالى صالح لكل زمان ومكان، وشريعة الإسلام إلهية المصدر لا يعتريها النقص ولا النسيان، على عكس القوانين الوضعية التي يضعها البشر لأنفسهم، والبشر من طبيعته النقص والنسيان.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.