الذين يؤمنون باللّه تبارك وتعالى، رب العالمين، يؤمنون بأنه ” ليس كمثله شيء” في ذاته وصفاته وأفعاله. ولأن “القرآن” هو كلام الله المنزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فإنهم يؤمنون بإعجازه الذي يجدونه بالتدبر في كل آية من آياته فيزدادون إيماناً واطمئناناً، وأما الذين ينكرون وجود الخالق عز وجل، فشأنهم أن يكذّبوا “القرآن” نفسه ويستخفوا به وبكل مؤمن من حيث هو كذلك لاعتقادهم بأن اللغة نتاجاً بشرياً محضاً.
بعد البدء في توضيح معاني الفاتحة لغوياً، من خلال شرح الأساس الأول الثاني، الإلهية في الحمد لله، والربوبية في قوله تعالى (رب العالمين)، نصل إلى الأساس الثالث وهو الرحمة، “الرحمن الرحيم”، قالوا الرحمن هو الملم بجلائل النعم، والرحمن صفة لا يوصف بها إلا الله تبارك وتعالى، ولا يجوز أن نصف بها مخلوقاً، لأن رحمة الله تعالى وسعت كل شيء، المؤمنين وحتى غير المؤمنين، ولذلك الله تبارك وتعالى رحمن السماوات والأرض، رحمته شكلت كل العباد، وكل الخلق، الرحمن كلمة خاصة بالله سبحانه وتعالى، أما الرحيم فهي الإلمام بدقائق النعم، كما من الممكن أن يوصف بها المخلوقون، ولذلك الله تبارك وتعالى وصف بها النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، كما في قوله تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم)، وكما أشرنا في الجزء السابق أن الحمد تتعلق بالأسس الثلاثة، فالله تبارك وتعالى يُحمد لإلهيته لأنه الخالق، ويُحمد لربوبيته، لأنه المتكفل بكل حاجات الخلق، ويُحمد في رحمته.
(مالك يوم الدين): الله سبحانه وتعالى، مالك يوم الدين، الله تبارك وتعالى صاحب المُلك وصاحب القرار في كل شيء، الدين هنا يعني الجزاء، والدين في اللغة العربية له معانٍ عدّة، الدين يكون بمعنى الملّة، كدين الإسلام على سبيل المثال، وكذلك يكون الدين بمعنى الجزاء، كقوله تعالى: (مالك يوم الدين)، أي في يوم الجزاء والحساب في يوم القيامة، كما يكون الدين أيضاً بمعنى العادة، وفي الحديث (كم تُدين تُدان) أي كما تفعل تُجازى.
(إياك نعبد)، تأملوا هنا لم يقل الله عز وجل (نعبدك) وهنا إعجاز لأن هناك فرق كبير بين (إياك نعبد) وبين (نعبدك)، فإذا قلنا (نعبدك) هنا قد تكون العبادة لله وغير الله، لكن (إياك نعبد) هي بمعنى لا نعبد إلا إياك، وهذه الضمائر هنا اسمها ضمائر النصب المنفصلة وهي 12 ضميراً لا تُستخدم إلا مقدمةً على الجملة وهي تفيد الحصر والقصر، كأن نقول (إياك قابلت) أي لم أقابل سواك، فـ “إياك نعبد” أتت للتأكيد على أن ما من عبادة إلا لله تعالى، ولذلك قال العلماء: (إياك نعبد) متعلقة بالإلهية، و(إياك نستعين) أي لا نستعين بأحد غير الله تبارك وتعالى، و(إياك نستعين) متعلقة بالربوبية لأن الرب هو القيّم على كل حاجات المخلوقين، ونحن نطلب العون من الرب لأنه المعين.
الخطاب في أول الفاتحة كان (الحمد لله رب العالمين) هذه العبارة في صيغة غير الحاضر، ثم (إياك نعبد) تحولت الصيغة هنا نحو الخطاب، وهذا البيان يسمى عن العرب (الالتفات) الذ هو ضرب من ضروب البيان، وضرب من تنشيط السامع، يحوله من الغيب إلى الخطاب وبالعكس، القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين.
(اهدنا الصراط المستقيم) هذه الآية متعلقة بالأساس الثالث وهو الرحمة لأننا كبشر نطلب من الله تبارك وتعالى الهداية برحمته، والهداية نوعان، هداية دلالة وبيان، وهداية توفيق، إذ أن مهمة الرسل هي هداية الدلالة، يدلون الناس على طريق الحق وطريق الباطل، وطريق الخير وطريق الشر، يدلونهم عليه ويبينوه لهم، فالذي سار في طريق الشر أراد ذلك، والذي سار في طريق الخير هداه الله تعالى، أما هداية التوفيق هذه مختص بها الله تبارك وتعالى، هو الذي يوفق، أي وفق من اختار السير في طريق الحق والخير، قال تعالى: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين)، أما مفردة (الهدى) في اللغة العربية ضوء النهار، وكذلك الصخرة التي توضع فوق ماء ضحل أو موحل للعبور من فوقها، أما الصراط فهو بالأصل بالسين (السراط) لكن جعلت السين صاداً لتوافق حروف الإطباق، أي ليكون هناك توافق بين الحرفين، أبدلت السين صاداً، بالعودة إلى الصراط فهذه الكلمة لا تطلق إلا على الطريق السهل الذي يسهل السير عليه، وقيل أيضاً إن الطريق لا يسمى صراطاً حتى يتصف بصفاتٍ خمس، الأولى، الإيصال إلى المقصود، الصفة الثانية، الاستقامة، والصفة الثالثة القرب، وأما الصفة الرابعة هي السعة، فالصراط طريق وضع لكل الناس فلا بد أن يكون واسعاً، والصفة الخامسة تعيينه طريقاً إلى المقصود، لأن الله تبارك وتعالى قال (صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين).
قالوا، الناس أمام الحق ثلاث فرق، الفرقة الأولى تلك التي عرفت الحق واتبعته، هؤلاء هم المنعم عليهم، هم المؤمنون، (غير المغضوب عليهم) وفرقة عرفت الحق ولم تتبعه وهؤلاء هم المغضوب عليهم، وفرقة لم تعرف الحق أصلاً، وهؤلاء هم الضالون.
من هنا، تتميز فاتحة الكتاب العزيز بسمو بلاغتها النابع من دقة كلماتها وغزارة معانيها، والقرآن الكريم هو أعلى أسلوب وأسمى كلام تحققت فيه غاية البلاغة وذروة البيان، وهو أجلّ ما يمكن أن يبحث فيه عن أسرار الجمال اللغوي، وقد كثر في كتاب الله تعالى تعدد الأساليب وتنوعها مراعاة لما تقتضيه أحوال المخاطبين، ومن جوانب الخطاب الإلهي ما اشتمل عليه من تفنن في أساليب البيان، وفخامة التعبير، وكثيرة هي الكتب التي تتحدث عن جزالة لفظه ودقة معناه وبراعة أسلوبه، فالبلاغة وثيقة الصلة بإعجاز الكتاب الكريم، بل هي أظهر وجوه إعجازه، وإنما يشرف العلم بشرف ما يبحث فيه، فكان لعلم البلاغة فضيلة وشرف ومزية، حازها لعنايته بأسرار الكلام الكريم وخصائص التعبير في الذكر الحكيم، وعلم بلاغة القرآن علم عظيم النفع جليل القدر، اعتنى به علماء العربية على مختلف مقاصدهم، وحفلت به كتب التفسير وأغنت به كتب علوم القرآن، وللحديث بقية.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.