مثل كل الليالي المقمرة الجميلة في فصل الصيف عندما يتغدر الهواء عذوق النخيل فيهزها وكأنه خاب يقضم الشماريخ ليقيض عليها قبل أوانها ، يتمدد سليمان على فراشة في فناء المنزل ، ملتصقة مخدته بدهريز البيت الطيني ، لم ينم سليمان مثل كل ليلة ، فقد مر عليه أسبوع يرى في منامه إنه يسحب ويُجر جراً حتى قرب باب الفناء الخارجي ويترك عند اول رفصة بالباب ، علما إن الأشخاص الذين يراهم في المنام يعرفهم جيدا وخاصة المرأة التي معهم ، سليمان مدرك إنه لم يكن حلما ولا هي رؤية بل حقيقة يعيشها كل ليلة من ليالي القيض ، كل صباح عند الإستفتاح بفردة سح وفنجان القهوة يحكي لأبيه وأمه وأخوته ما يحصل له في كل ليلة ، لكنهم كانوا يسخرون منه كثيرا حتى أطلق عليه أحدى أخوته بالفزعان .
كثيرا ما يفكر سليمان في أمر ما يحدث له بالليل وهو يجلس تحت يوس اللمباه ،
فتتساقط اللمباه هنا وهناك ، لكن سليمان لا يسمع كل ما يحدث حوله إطلاقا ، التفكير أخذ منه مأخذه وبلغ ذروته ، فقد كان قدوم الليل بالنسبة له جحيم يساق إليه وهو مكبل على غير إرادته ، غط سليمان في سبات عميق وهو ما يزال متكأً على جذع اللمباه ، مر البيدار وهو يتبعُ الفلج على سليمان وألقى عليه السلام ، فتضح له بأن سليمان يغط في نوم عميق حتى الزرار يسيل من فمه من شدة الإرهاق ، مسكين سليمان لم يصدقه أحدا إطلاقا ولا يستطيع أن يبرهن لهم صدق ما يراه بأنه حقيقة وليس حلم ، قضى نائما حتى بعد الظهر ثم أستيقظ على صوت أبيه وهو يوبخه ويعنفه عن سبب تأخره وعدم حضوره على صينية الغداء ، نهض المسكين متثاقل وكأن جبل نُسفَ على رأسه ، غمس يديه في الفلج وأنضح غرفة ماء بيده على وجهه الشاحب وخده المتصدع ذا الخطوط المتعرجة بسبب ملامسته جذع اللمباه ، مشى خلف أبيه على ساقية الفلج وما زال أبيه رافعا صوته يُقرع به سليمان ، رغم كل شيء إلا إن سليمان في عالما أخر .
بدأ الليل ينشر ظلامه يحارب نور القمر بقوته ليسيطر بظلامه الدامس على كل شيء ، كما بدأت الحشرات في الخروج وإزعاج القائضين ، حلت الطيور ترفرف بأجنحتها وتصدح بأصواتها العذبة على أغصان الأشجار والنخيل ، سنفونية جميلة تعزفها الكائنات في القيض تتلقفها أذان القائضين في متعه جميلة تجعل النفس تخلد إلى الراحة وتسترسل في خيال جميل ، إلا سليمان المسكين وكأنه ينتظر الموت يأتي مع الظلام ، لم يكن مثل غيره يستمع إلى شيء مطلقا ، بل كانت عيناه تُرف في كل زاوية من زوايا الفناء في إنتظار زواره كل ليلة ، أحضرت أم سليمان العشاء وقدمته على السمه فوق الحصير المقلود من الخشت والمزركش بصبغة النيلة وبعض الميمجا ، كان العشاء عبارة عن خبز رخال مدهون بسمن بقر ومله من اللبن الرائب ، أخذ الجميع يغمص قضمة الخبز في وعاء المله إلا سليمان ، فكان يمد يديه إلى المله ولا يرفعها وتظل قضمة خبزته بالمله ، لمح أبيه ذلك وحدثه بصوت هادئ وطلب منه أن ينام هذه الليلة بالقرب منه كما كان من قبل عندما كان سنة تسع سنوات ، ضحك أخوته وأمه لكن أبيه زجرهم جميعا وربت على كتفه ، هدئ سليمان وراح يأكل لكن ببطئ شديد .
نادى الأب على سليمان وفرش فراشه بينه وبين أمه على أن ينام وسطهم هما الأثنين ، سليمان استحى من فعل أبيه كثيرا ، وأصابه الخزي وصغر في نظر نفسه ، قرر سليمان الإنسحاب وأن يبات مثل العادة بعيدا عن أبيه وأمه في الفناء مع أخوته ، وما إن راح الجميع في سبات عميق حتى حضروا الرجال والمرأة يتشاورون في أمره ، فقالت المرأة لأحد الرجال نذبحه ، لكن الجميع خالفوها وقالوا لها نفضل أن نكده ونشتغل عليه حتى يموت .. نجعله بناءاً أو حطاب أو زراع ، لكن المرأة أصرت على ذبحة ، وأفق الجميع على طلبها وأشترطوا عليها أن تقوم بالمهمة ، سليمان المسكين يراهم أمامه وهم يقفون فوق رأسه ويسمع كل حديثهم لكنه عاجز عن الحراك أو النطق ، أخذو يجروه وفراشة حتى أخرجوه من البيت وساروا به بالقرب من احد الجبال .
طرقات متسارعة على باب أبا سليمان تُقض الحارة بأسرها ، وحين أستيقظ الجميع على سرعة الطرقات وصوت الطارق الذي كان ينادي بأعلى صوته أبو سليمان .. ياأبو سليمان ، أسيقظ كل من بالبيت وهب الجميع نحو الباب فكان الطارق يلهث من شدة التعب ، أخذ يتجرع رمقه وهو يقول لقد شاهدت جماعة معهم امرأة يجرون أبنك سليمان على فراشة نحو الجبل ، وما إن إلتفت أبا سليمان وعائلته إلى مكان نوم سليمان لم يروا أحد ولا حتى الفراش ، تلك اللحظة علم الجميع بأن سليمان كان محق فيما كان يراه ، لكن بعد ماذا بعد فوات الأوان .
كان وما زال في أحدى الولايات صديق حميم لأبا سليمان يدعى بخيت بن جعبوب يلقب بالمدفع ، أخذ أبو سليمان يصرخ بأعلى صوته في البيت والجميع مستغرب وهو يقول .. غيثني يالمدفع غيثني يالمدفع .. ولدي سليمان شلوه السحرة ، بينما كانت المرأة تمسك بالسكين وتضعها على رقبة سليمان وتذبح بدأ الدم يسيل ، سليمان لا يستطيع أن يتحرك بسبب السحر الملقى عليه ، إذا بالسكين تختلف في وجهتها الحادة إلى غير ذلك ، دون أن تنتبه لها الساحرة ومن معها ، ثم ظهر المدفع أمامهم ورما بهم في الوادي القريب من الجبل وأخذ سليمان في لمحة بصر إلى البيت وألقى به في حجر أبيه ، ثم أختفى ليرجع للسحرة ويتصارع معهم ، كان المدفع قويا لكنه لوحده ، فطال وقت الصراع وأخذ الغبار يتطاير في تلك الليل المقمرة بالوادي حتى غطى الجميع فلم يعد أحدا يرى الأخر ، لكن المدفع كان يصارع اربعة سحرة ، هنا ضربت العجوز بمخلبها الطويل عين المدفع ففقعتها ، ثم أختفوا من المكان ، رجع المدفع إلى بيته وهو مفقوع العين ، لم يكن أبا سليمان بعد يعلم ما حل بصاحبة المدفع ، أخذ أبنه سليمان على حمار وتحرك به مسرعاً وهو ينزف قد يموت بأي لحظة إلى الدكتور توماس في مستشفى الرحمة بمطرح ، وتمت خياطة ومعالجة رقبة سليمان ، وهكذا عاش سليمان في البلد يلقب بالمذبوح ، والتصقت تلك الكنية به بسبب الجرح العميق برقبته من اثر ذبح الساحرة له ، كما تأثرت حباله الصوتية اثناء النطق ، فأصبح صوته متحشرج ، لكنه عاش وكبر وتزوج وأنجب دون أن يتعرض له أحدا بعد ذلك ، وعندما أرسل أبا سليمان للمدفع خط قبل عرس سليمان بأربعة أشهر
وحضر المدفع ، عرف حينها أبا سليمان بأن المدفع ضحى بعينه من أجل أبنه سليمان .
قصة قصيرة للكاتب / يعقوب بن راشد بن سالم السعدي