وانا اطوي الصفحات من مساءات خريفـي خَجِلاً أحاولُ التجردَ منك، مجبرا أتدحرجُ لم تعد المساحاتُ، الأزقةُ، الأعشابُ، العابرونَ، الغادرونَ، السماءُ، الهواءُ، تتسعُ حماقاتي، لم تعد كما كانت، فكل الرؤى لا تسع الصمت لينضج المجهول برائحة العشب، كل خطى الشواطئ لا تحمل جواز سفر الذكريات، ولأنّ خطاي كَتَبتْ بذاكرة الشواطئ احلامها، طفحت ملايين الحروف على موانئ السراب، تنقب عن بعض ذكريات عالقة، ولأني امضي اليك دائما بذاكرة الشواطئ منذ خمسين عام تتجددين كل لقاء.
وانا اطوي الصفحات أعدّ الخطايا، البقايا، وأجهشُ عصارةَ أفكارٍ تتناثرُ على أرصفةِ الأحاسيسٍ، وأفكارٌ تتوضأ بصباحاتٍ الحروف، معلّقةٌ خرائطُها وموحشةٌ تجادلُني، تُضيّقُ الآفاق… تخنُقُني، أنتزعُ أنفاسي اوقظها لتصارعُ اختناقَ النبضِ، أتشظى وأبحثُ عن خلاص، فانا وطنٌ تلسعُ جراحُهُ مدُنَ الملحِ ويشهق ضاحكا، يحتضنُ ضبابَ الرؤى، أوّاه كم يثقلني حضورُك الدائمُ في تفاصيل أوجاعي، أوهامي، أيامي، كم يستنزفُني هذا الموتُ الجميلُ بحضرتِك، أنسجُكِ حروفاً وأبحثُ عن مساحات، سماوات، تسعُك قصيدةً وأشتَهي أن تُصلَبَ كلماتي على أبوابِك لتُولَدَ من جديد.
وانا اطوي الصفحات أستنطِقُ حكاية قافلة اكتسحتْ صحاري بلا واحاتٍ، بحارا بلا موانئ، غيماً يحملُ سنينا عِجاف، أستنطِقُ تجاعيدَ وجَعٍ على خرائطِ خرابٍ تمتدُ من نَفَس إلى نقطةٍ موغلةٍ بالوجعِ الراقد في أعماقي لينطلقَ بنَفَس آخرَ أنفثُهُ، استنطق مرايا انكسارات وموجاً تخلل مسامات اعترافات، فحصحصت حقيقة ريح وخيانة اضلاع حينما مرت خصلات امرأة وانفاس دغدغت تراتيل حلم فاستيقظ كالغول يستنشق الجهات يبحث عن عشب برائحة النبيذ، استنطق اسراراً لم يعد قلبي يجدها لحظة تفتق الحنين، أصرخُ باحثا عن جدوى أن تُعاني حنينا، اشتهاءا لامرأةٍ تقرأها، تلامسُ أنفاسَها، توقدُك لحظةَ غنجِها، تغادرُك مشتعِلا لتنثُركَ الريح حروفا على الورق! تلملمُ حماقاتِك وتثمُل برائحة الحبر.
في الصفحة الخمسين من مساءات خريف تبدو منكسرا تقرأُ تاريخَ فتوحاتِك، تعدّ نياشين انتصاراتِك وتنفثُ حسرة، تتساءل عن سر هزيمتِك، تراقبُ أخطاء معركتِك، تُحصيها، تبحثُ عن ثغرةٍ داهمتْك خلالها فراشةٌ لتُنزِلَ سحرَ ألوانِها خلفَ دفاعاتِك؛ فتهاويتَ كطفلٍ تستكينُ وديعاً، تغادرُ بطولاتَك حيث موتِك بلا عناوينَ تحملُها، تغازلُ دهشةَ اللحظات، تستأنسُ بصمتٍ يُولِدُ بذاتِك وميضُ امرأةٍ تتوضأُ بحروف.. وتشتهي كل حين خمرَ رضابِها، امرأةٌ تُغيّرُ تفاصيلَك وتُغمضُ عينيكَ لتحتضنَ دفء خيالاتِها، امرأةٌ تمنحُكَ فصولَ الكتابةِ لحظةَ تهجدَك، امرأة تُحكمُ ابجديتها بداية تساقط الشهب على السطور ونهاية الفواصل ومرور الحروف على جسد من بقايا النبيذ، امرأةٌ تنضجُ تفاحاً، امرأةٌ برائحةِ المسكِ، امرأةٌ كنسيمِ فجرٍ، امرأةٌ كحباتِ مطرٍ، امرأةٌ من عالمٍ آخر.
في الصفحة السابعة والخمسين أعلنُ اعتزالَ حروبي، أمزّقُ نياشينَ انتصاراتي، صورَ فتوحاتي، ابتساماتَ غروري، كؤوسَ أفكاري، اختناقَ الرؤى، خرائطَ استنزافي، قوافلَ موتي، اشتهاءَ أوجاعي، توقّدَ أنفاسي وأتدحرجُ كحبةِ رملٍ برياحِ يديكِ لأكتبَ تاريخَ انهزامي وأعلنُ لا شيءَ اطلاقاً يُعادلُ لحظةَ عشقٍ بحضرتَك.
أ. وفي العامري