ما حدث في معرض مسقط الدولي للكتاب الذي لملم أوراقه أمس السبت، أمر يستحق التوقف عنده، والحديث هنا ليس عن مُعاناة الزوار في الدخول والخروج من المعرض، وليس عن أسعار الكتب المبالغ فيها، وليس عن تذمُّر الناشرين ودور العرض من أسعار الإيجارات، وانخفاض القوة الشرائية للقارئ، ليس عن ذلك كله، بل الحديث عن “كويلي” ذلك الشاب العشريني الذي حطًّم “تابوات” المعرض، وأثار سخط الكثيرين، واستياء المُنظمين، وغيظ وحقد الناشرين والكتّاب الذين أفنوا أعمارهم في التأليف، والتوليف، ولم يلاقوا تكريمًا أو احتفاءً ولم يجدوا قارئًا يُنصف جهدهم الذهني والمعرفي والفكري؛ حيث تغلّب على جماهيرتهم وبنات أفكارهم “يوتيوبر” شاب، ليست الكتابة مهنته، ولا التأليف وظيفته!
تلك الحشود التي تابعت هذا الشاب- وتابعها الملايين حول العالم- فاقت التوقعات، ولم يعتد عليها رواد معارض الكتاب معنا على مختلف دوراتها، مراهقين ومراهقات، وبنين وبنات، يكادون يمزّقون أستار المعرض ليحظوا بصورة “سيلفي” مع “كويلي”، أو بتوقيعه على كتابه الأنيق، أو بحديث عابر معه، فهذا “اليوتيوبر” يتابعه أكثر من 5 ملايين متابع على الكرة الأرضية، وهو ما تعجز عن إنجازه أو حصده منصات حكومية بكامل عدتها، وعتادها، وموظفيها، وإعلاناتها البائسة؛ بل وتعجز عن حصده- كرقم- محطات إعلامية رسمية وغير رسمية، وهو تعبير واضح وفاضح عن اكتساح وسيادة “الإعلام الجديد”، إعلام الشباب، وتوجهات الجيل المُراهق، والذي يسيطر على منصات التواصل الاجتماعي العالمي، ويتسيّد المشهد دون منازع، بينما يظل الإعلام الرسمي في الدول النامية مجرد سلحفاة بطيئة وتقليدية، لا يمكنها اللحاق بكل تلك الأرانب السريعة، والمثابرة، التي تصل هدفها بدقة وعناد، عكس القصة التقليدية التي قرأناها منذ سنين.
كما كان لـ”ظاهرة كويلي” التي حدثت في معرض الكتاب دلالات أخرى، وهي تتعلق بجيل الشباب، واهتماماته، وبوصلة تفكيره؛ فالكثيرون شاهدوا تلك الجماهير الغفيرة والتي تفوق جماهير مباراة كرة قدم تتزاحم بشكل جنوني، وتسارع لأخذ “مباركة كويلي”، وراقبوا- بحسرة- سقوط ورقة توت كبيرة عن غلالة المُجتمع، وانحسار دور الرقابة الأسرية على الشباب؛ بل وسقوطٍ مريع للمثلث الأخلاقي “الحياء- الحشمة- الأدب”، والذي تمَّ دهسه تحت أقدام “يوتيوبر” مُراهق، استطاع التأثير من خلال وسائل التواصل على عقول ملايين المراهقين والشباب، بمحتوى بسيط، وفكرة غير مُعقدة، وتقديم غير متكلف، يخاطب من خلالها الفئة العمرية التي تقارب عمره، وهو خطاب حداثي قد يحتاج له الإعلام الحكومي الرسمي، للخروج من دائرة الصرامة، والتزمّت، والمحتوى الباهت الذي لم يعد مغرياً للشباب، ولم يعد كافياً لجذب انتباههم، ولفت أنظارهم.
وما زالت مبادرة “يوتيوبر” عشريني آخر قبل فترة لجمع 10 ملايين دولار ماثلة للعيان؛ حيث استطاع الشاب “أبو فلّة” جمع أكثر من 11 مليون دولار خصصها لمُساعدة اللاجئين السوريين، وهو ما تعجز عن حصده حملات حكومية، وهيئات دولية، وجمعيات خيرية عديدة. ولعل البعض يعتبر “كويلي” وأمثاله “مُخلِّصين” للشباب من حالات الفراغ، والتشتت، واللاهدف، واللاعمل التي يعيشونها في معظم البلدان العربية، ورغم أن ما حدث قبل أيام في معرض الكتاب كان سيئًا من وجهة نظر الكثيرين، إلّا أن ذلك يدق ناقوس الانتباه لرغبات الشباب، وتطلعاتهم، وأنه يجب توجيه هذه الطاقات الجبارة للمراهقين نحو هدف أسمى، وقيم مجتمعية ووطنية وثقافية أعظم، بدلاً من لعن الظلام، وهو جرس إنذار مزعج لمنظومة الأسرة التربوية كي لا تصبح مجرد “منزل إيواء” لأفرادها دون ترابط أو رابط بينهم، ولكي لا تصبح وسائل الإعلام الرسمية بعيدة عن أفكار وتوجهات الشباب، وبالتالي يصبح الخطاب الإعلامي “خارج التغطية” نهائيًا.
مسعود الحمداني