إن مما يشعر منسوبي قطاع التواصل والإعلام من متخصصين وممارسين وأكاديميين ومسؤولين بالغبطة تجاه نظرائهم في قطاعات وعلوم أخرى هو أن الأخيرة قد لا تكون بالضرورة مثارا للنقاش بل وحتى الإفتاء فيها كما هو الحال في قطاعهم؛ فبينما تتوسع مجالات الحوار وتتعمق مستويات التنظير وتتشعب التفسيرات ووجهات النظر تجاه جوانب مختلفة في التواصل والإعلام، قد لا تتعرض مجالات أخرى لذلك القدر من تدافعات التدخل والتداخل ومحاولات التعرف والتعريف وجهود التفسير والاستفسار وتشابكات الاختلاف والخلاف.
وربما يؤدي النقاش في هذا الاتجاه إلى مزيد من التداخلات والتعقيدات التي يتعرض إليها الكثير من منسوبي قطاع التواصل والإعلام. إلا أنه – ومحاولة لتفسير ذلك – فإن من الممكن إرجاع ذلك إلى أن قطاع التواصل والإعلام بحد ذاته هو أحد أهم الوسائط التي يتعرف من خلالها عامة الجمهور على بقية القطاعات؛ حيث يكوّن غير الاقتصاديين معارفهم العامة حول الاقتصاد من خلال ما يتعرضون إليه من معلومات وأخبار وتحليلات عبر مختلف وسائل التواصل والإعلام، ويتناقل الجمهور فيما بينه المعلومات الصحية التي تتيح الوصول إليها بشكل أساسي منصات وقنوات التواصل والإعلام، ويمكن أن ينطبق ذلك على علوم أخرى كثيرة مثل الهندسة والفلك والمالية والأديان وتقنية المعلومات وإدارة الأعمال وغيرها. وربما يكون سبب آخر لذلك مدى تعرض الجمهور بشكل عام لمختلف ممارسات وأدوات التواصل والإعلام في حياتهم اليومية مقارنة بمدى تعرضهم لمجالات أخرى؛ وخصوصا أننا أصبحنا في زمن نلامس فيه مختلف أوجه التواصل والإعلام منذ الاستيقاظ من النوم وحتى الخلود إليه. وقد يميل بعض المهتمين إلى السير لأبعد من ذلك في سبيل التفسير، وذلك عبر إسقاط مفهوم أن الناس يميلون للنقاش حول الأداة الناقلة للفكرة – وسائل التواصل والإعلام في سياقنا هذا – أكثر من النقاش حول الفكرة المنقولة عبرها وأبعادها ومسبباتها ونتائجها.
في المقابل فإن تلك العلاقة الجدلية بين التواصل والإعلام – كعلم – وسائر العلوم الأخرى يمكن أن تكون ممكّنا للتطوير والتقدم في ممارساته، مع الأخذ في الحسبان أحد أبرز المآخذ التي قد تثار تجاه علم التواصل والإعلام فيما يتعلق بهلاميته ومطاطيته وديناميكيته نتيجة تسارع التطور التقني من جهة، وتفاوت مستويات فهم أسسه وأدواره، وتعدد المهتمين به بشكل عام. ويمكن تحقيق التطوير والتقدم في مجال التواصل والإعلام عبر محاولة إسقاط بعض مبادئ العلوم الأخرى عليه، وخصوصا حين يكون ذلك في سياق الحديث عن هذا القطاع كمجال للأعمال تكوّنه مؤسسات تعمل ككيانات تسعى للاستدامة المالية عبر التوظيف الأمثل لمواردها البشرية والمالية والتقنية وتبني العمليات والإجراءات التي تؤدي لرفع الكفاءة والإنتاجية والخروج بـ “منتج” يرضي الجمهور المستهدف ويحقق مصلحة مختلف الأطراف.
وإذا كانت هذه المساحة قد تطرقت في أكثر من مرة إلى مدى ارتباط الممارسات المتعلقة بقطاع التواصل والإعلام بعالم الاقتصاد والأعمال مثل الإسهام في الناتج المحلي الإجمالي وتنويع الاقتصاد وتوفير فرص للعمل وريادة الأعمال ونماذج العمل التجاري من أجل ضمان الاستدامة المالية للمؤسسات العاملة فيه، فإنه قد يكون من المفيد كذلك التطرق إلى سلسلة القيمة Value Chain في هذا القطاع، وما إذا كانت هذه السلسلة قد لامسها التغيير الذي أحدثه التطور التقني المتسارع على ممارسات التواصل والإعلام من حيث السرعة وطريقة العمل وتعدد القنوات وأساليب استهلاك “المنتج النهائي” الناتج عن تلك السلسلة.
تُعرَف – وتُعَرَّف – سلسلة القيمة في مجال الأعمال بأنها مجموعة من الأنشطة التي تمارس ضمن قطاع معين تشكل دورة حياة المنتج أو الخدمة من الفكرة مرورا بالتخطيط وتأمين المواد الأولية ومعالجة تلك المواد والتغليف والتوزيع والتسويق وصولا إلى الاستهلاك الفعلي من قبل الزبون المستهدف. وتعمل المؤسسات التجارية عادة على القيام بمراجعات مستمرة لسلسلة القيمة من أجل التأكد من كفاءتها وكنتيجة نهائية ضمان تحقيق أعلى قيمة ممكنة كعائد من تلك السلسلة ككل.
وإذا ما حاولنا إسقاط هذا المفهوم على المنتجات التي يقدمها قطاع التواصل والإعلام والتي يمكن أن تكون المحتوى الإعلامي، فإن تتبع دورة حياة ذلك المنتج ستكون بدءا من توفر البيانات – كمادة خام – إلى صياغة المعلومات – كمنتج أولي – ثم معالجتها كمادة خبرية وإخراجها في قوالب إعلامية قد تأخذ أشكالا أو صيغا عديدة ثم إرسالها عبر “شبكة التوزيع” المتمثلة في منصات وقنوات التواصل والإعلام ثم استهلاكها كمنتج نهائي من قبل الجمهور. ورغم التطورات التي يمكن أن تكون قد أحدثتها تطورات تقنيات الاتصالات والمعلومات في مختلف تلك المراحل بدءا من توفير وتخزين البيانات وطريقة استخلاصها والوصول إليها وأساليب المعالجة وقنوات التوزيع والسرعة المستغرقة في مختلف تلك المراحل، إلا أن من المهم التنبه إلى ظهور الحلقة الجديدة في سلسلة القيمة الإعلامية قبل استهلاك المنتج النهائي من قبل الجمهور.
لقد أدى التطور التقني المتسارع وسهولة الوصول والحصول على تلك التقنيات ونشأة منصات التواصل المختلفة إلى وجود منافذ جديدة تكرس نفسها لتجميع وإعادة معالجة وتجزئة وإعادة إخراج وتوزيع المحتوى الإعلامي الذي كان حتى وقت قريب قابلا للاستهلاك بشكل مباشر مثل الأخبار والمقابلات والتغطيات والاستطلاعات والتصريحات والوثائقيات والمقالات التي تتخذ بطبيعتها الأصلية صيغا طويلة من حيث النص المقروء أو مدة المشاهدة، وهو العنصر الذي قد لا يجده المستهلك سهل المضغ والبلع والهضم في عصر التغريدات السريعة والمقاطع القصيرة والرسوم البيانية. لقد حدا تفاوت قابلية وسرعة ومدى تمدد المؤسسات الإعلامية لشغل حيز من تلك الحلقة الجديدة في سلسلة القيمة الإعلامية إلى ظهور حسابات على منصات التواصل الاجتماعي تتولى تلك المهمة وتمارسها بطريقة قد تصيب أحيانا وتخطئ أحيانا أخرى؛ ويمكن أن يعزى ذلك إلى حاجة تلك الحسابات للحصول على المعرفة الكافية حول دور التواصل والإعلام وتأثيراته والأبعاد التقنية والقانونية والأخلاقية المحيطة بهذا القطاع. ومع عدم إغفال أهمية هذه الفئة في مشهد التواصل والإعلام محليا وبصورته الحالية، فإنه من المهم استكمال البناء على مسيرة التنظيم التي انتهجتها الجهات المعنية من أجل ضمان أداء تلك الحسابات دورها بما يخدم المنظومة ككل والمصلحة العامة بشكل أعلى، إضافة إلى السعي لإكسابها المعرفة والوعي والتمكين بالقدر الكافي الذي يؤدي إلى تنمية وازدهار قطاع قادر على الإسهام بشكل أكبر في تحقيق الأولويات الوطنية.
• بدر الهنائي مهتم بالاتصالات الاستراتيجية والهوية المؤسسية