وكما كنا سنستمر، في ظل فوضى اللادين، والابتعاد عن القيم الإنسانية، وإصدار فتاوى أو لنقل قرارات عكس التيار، وعكس ما شرّعه الله تبارك وتعالى، وذكرته الكتب الأصيلة “الكتب الستّة”، يبقى التدبر هو المعيار لرحلتنا وانتقالنا من هذه الحياة المادية إلى الحياة الأخرى، لكن اليوم العولمة باتت مقياس لحضارات الإسلام ليس كله، لكن من يُفترض أنه القدوة، لكن الأمل في الأخيار من الناس والعلماء القة الباقية من الأتقياء والصالحين الذين لا يزالون يحملون راية الإسلام ويرفعونها عالياً.
في الجزء السابق كنا قد فنّدنا معنى التدبر لغةً واصطلاحاً، وأوردنا تعريفات لأبرز العلماء المسلمين والتي جمبعها تصب في سياقٍ واحد، ألا وهو أن التدبر، أمر إلهي وفهم معاني القرآن الكريم وألفاظه والتفكر فيها، بما تضم من أسرار لا تعدّ ولا تُحصى، وأورنا أهمية التأني وعدم الاستعجال في راءة القرآن الكريم في سياق تدبره وتفكره وتلعمه بالشكل الصحيح واستخراج الحكم والعبر والمقاصد والقصص التي بين طياته، في هذا الجزء سنعرّج على تنوع الأسلوب القرآني في معنى التدبر.
الجدير بالذكر هنا، أن القرآن الكريم حثنا على تدبر آيات الذكر الحكيم، ودعانا إلى ذلك في مواضع كثيرة من آياته المباركة، هذا وقد تعددت وتنوعت أساليب القرآن في ذلك وهذا من بلاغة القرآن واستمالته للقلوب وإعجازه، وحين نتأمل ذلك نلحظ أن القرآن الكريم تارة يحثنا على التدبر والتأمل في آيات القرآن الكريم بأسلوب صريح ومباشر، وتارة يوجه الخطاب لأصحاب العقول السليمة بأن يتدبروا آيات الذكر الحكيم التي ذكر الله فيها دلالات بينات لأولي النهى، وتارة يسرد الله القصص القرآني للتدبر والتأمل وأخذ العظة والعبرة من أحوال السابقين، وتارة أخرى يضرب الله الأمثال في القرآن للتدبر والتعقل والتذكر، وتارة أخرى يذيل الآيات ويختمها بما يدعو إلى التدبر مع بيان العلة من ذكر هذه الآيات، ففي دعوته إلى التأمل والتدبر بأسلوب صريح مباشر، وحين نمعن النظر ونمتعه بالبحث في جل آيات الذكر الحكيم نلحظ دعوته المباشرة للتدبر، ومن هذه الآيات، قوله تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن)، وقوله أيضاً: (أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين)، ففي هذه الآيات دعوة صريحة ومباشرة ليصل نور القرآن إلى قلوبنا، فمما لا شك فيه أن القرآن الكريم هو النور الذي يهدي البشرية إلى الطريق المستقيم.
في توجيه الخطاب لأولي الألباب، نجد أن القرآن الكريم، حث أصحاب العقول السليمة الراجحة على الانتفاع بها في استعمالها في تدبر آيات الذكر الحكيم للاهتداء إلى نور الهدى والإيمان، كما في قوله تبارك وتعالى: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب)، وكما ورد في تفسير الإمام الطبري: (خص الله تعالى أصحاب العقول السليمة بالذكر وبين أن أولي النهى هم المنتفعون من تلك الآيات لأنهم أهل التفكر والاعتبار وأهل التدبر والاتعاظ)، أما في ذكر القصص القرآني للتدبر والعظة، فقد سرد تبارك وتعالى، القصص في القرآن للعبرة والتفكر والتدبر وأخذ العظة من أحوال السابقين فيزداد الذين اهتدوا هدى وثباتاً على الحق حين يرون الفلاح والنجاة للطائعين والموحدين، ويزداد المكذبون حسرة وندامة حين يعلمون عاقبة ومآل المكذبين من الأمم الماضية وما حلّ بهم.
الإمام الطبري: (إمام المفسرين، محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الشهير بالإمام أبو جعفر الطَبري، مفسّر ومؤرّخ وفقيه، 224 هـ – 310 هـ).
وقال الشيخ الشنقيطي في تفسيره لقوله تعالى: (ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثلٍ وكان الإنسان أكثر شيء جدلا)، حول ضرب الأمثال في القرآن بقصد التدبر والتفكر والتذكر، وفي هذه الأمثال وأشباهها في القرآن عبر ومواعظ وزواجر عظيمة جداً، لا لبس في الحق معها إلا أنها لا يعقل معانيها إلا أهل العلم، ولا شك أن الذين استجابوا لربهم هم العقلاء الذين عقلوا معنى الأمثال، وانتفعوا بما تضمنت من بيان الحق، وأن الذين لم يستجيبوا له هم الذين لم يعقلوها ولم يعرفوا ما أوضحه من الحقائق، أما في تعليل الآيات وختمها بما يدعو إلى التدبر والتفكر، فقد ختم الله عز وجل كثيرًا من آياته بما يدعو إلى التأمل والتعقل والتدبر، ولا شك أن المؤمن يسعى لتحقيق تلك الغايات التي نزلت من أجلها الآيات ولا يتحقق ذلك إلا من خلال تدبر آيات الذكر الحكيم والتعايش معها والعمل بما تضمنته تلك الآيات من توجيهات وإرشادات بها صلاح البشرية وسعادتهم في الدنيا والآخرة.
الشيخ الشنقيطي: (محمد بن محمد المختار بن محمد بن مزيد الجكني الشنقيطي، عالم و فقيه أصولي و مفسّر لغوي موريتاني الأصل، أستاذ التفسير، 1919 – 1985 م).
بالتالي، على كل مؤمن واجب تجاه القرآن الكريم، القرآن الكريم، لم ينزل لمجرد أن تصدح الأصوات به، وتطرب الآذان لحسن تلاوته، ولا أن نكتفي بحفظه في الصدور فحسب بل لا بد من العمل به والدعوة إليه، وذلك يستلزم التدبر في معانيه، وفهم مراميه، ومعرفة تفسيره، والعلم بأحكامه، وكل ذلك من واجبات الأمة المسلمة تجاه القرآن العظيم، فإن الله تعالى أنزل القرآن الكريم على خاتم المرسلين صلى الله عليه وآله سلم لإرشاد الناس إلى الحق ولإخراجهم من الظلمات إلى النور وقد أمر الحق تعالى بتلاوة القرآن وتدبره والعمل به والاستمساك بهديه، ولو تأملنا حال السلف الصالح بدءاً من نبينا محمد صلى الله عليه وآله سلم، وانتهاءً بالمعاصرين من الصالحين في زماننا لوجدنا أن القاسم المشترك بينهم هو القيام بالقرآن تعظيماً لقدره، والتزاماً بأمره ونهيه، إنه القيام بالقرآن تلاوة وتدبراً، وعلماً وعملاً، وتمجيداً وتوقيراً ودعوة وتعليماً، قال تعالى: (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا)، إن المصارحة التامة في صلتنا بالقرآن الكريم ستكشف لنا عن وجود خلل كبير وتقصير عظيم، سنجد أن هناك دلالة قوية على أن كثيرين منا أعرضوا عن القرآن، ولم يجعلوا القرآن في المنزلة اللائقة به من الرعاية والعناية ولم يجعلوا له الصدارة في كل أمور حياتهم، فلنعد إلى كتاب ربنا حتى تتحقق السعادة في الدنيا والآخرة ولندرك ولنوقن أن حالنا لا يصلح إلا برجوعنا إلى كتاب ربنا والعمل به، وسنبين فيما يأتي بعض واجباتنا نحو القرآن الكريم.
من هنا، إن ما يحدث اليوم يؤكد مرة جديدة أن هناك بُعد وبون شاسع عن القرآن الكريم وكما بدأت هذا الموضوع، سأنهيه بنصيحة إلى هذا الشباب الواعي بألا تغرنه الحياة الدنيا الزائلة، إنها ماديات ولن نأخذ معنا إلا عملنا الصالح والأجر والثواب من أعمالنا التي أمر بها الله سبحانه وتعالى، فتغيير ثوابت الدين ليست من الدين، بل هي إلحاد شيطاني وصورة حق يُراد منها تمكن الشيطان منا، وهذا لا يؤثر إلا بأصحاب النفوس الضعيفة، ومع الأسف من يساعد في ذلك هم كهنوت السلطة الذين يدّعون أنهم رجال دين وعلم، لكنهم ليسوا أكثر من أبواق تصدح بما يملى عليهم من هذا الحاكم وذاك السلطان، لنعد إلى قرآننا الكريم طالما الفرصة متاحة، لأن من يسعى إلى تدمير أمتنا والتمسك بالحداثة هو كالمرتد عن دين الإسلام، الدين السمح الذي ما ترك إنساناً خائباً فكما أنصفنا يجب أن نقف في الصف الأول في الدفاع عنه، وهذا أضعف الإيمان.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.