لا يفتأ الجدل قائما في القبيلة، بين من يراها بابا للتقهقر والتخلف، وعدوا طبيعيا للمدنية والتحضر، لا يمكن اجتماعهما مطلقا، وبين من يراها على خلاف ذلك، ويعدها ركيزة اجتماعية أساسية، لا سيما في المجتمع العربي والخليجي والعماني خاصة، لا يمكن للدولة القيام بعيدا عنها.
تعد القبيلة كما غيرها من أمور اجتماعية وجمعية أخرى كالدين والمذهب والمنطقة تعد مرتعا خصبا للعصبية، ومركبا عظيما من مراكب الشيطان في مواجهة الانسان وإضلاله، إن لم يتحلَ أهلها بالوعي المستمد من قوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)/ الحجرات)، وكان ذلك هو الإطارَ الذي تَبني عليه الدولةُ تشريعاتها وقوانينها، وتبني عليه القبيلةُ والأفرادُ علائقَهم وبعضهم، وعلائقهم والقبائل الأخرى حولهم.
لسنا مع إلغاء القبيلة ما دامت تتحاكم الى التعارف ولا تزيد عليه أي لا تنتقل إلى الكفران من خلال التعصب الحرام والذي قام المصطفى بتوصيفه بالجاهلية والنتانة توصيفا دقيقا باقيا (إنك امرؤ فيك جاهلية – لأبي ذر وموقفه مع بلال) و (دعوها فإنها منتنة لدعوى التعصب الذي وقع بين الأوس والخزرج).
إن أول ما يجب معالجته في القبيلة هو تعريفها، فكلما كان تعريفها ضيقا وارتبط بالدم مقتصرا عليه، وتجاوز الأحلاف وغيره من معاني الانتماء تمكن منه التعصب وأصبح عالة على المدنية وعقبة ضد التطور الانساني، إذ حينها لا يمكن التغلب على شعور “الأنا” القبلية بسهولة وسيتعاظم التفاخر والتحاقر والتنافر، وكلها أعداء للمدنية والتحضر والاستقرار!
إن مما يجعل القبيلةَ أبعدَ عن التعصب وأقربَ للتعارف واللحمة هو إدراكُها الإدراكَ الأوفى أن القبيلة رابط تحالف وتصاهر وتمازج أكثر من كونها رابطة دم (والذي يتعذر في الأغلب إثباته عمليا للأفراد)، وأنها بذلك تتوسع بتوسع أفرادها، وتكون يداها مبسوطتين لاحتواء كل نازل بها، تُعِزه وتكرمه كفرد من أفرادها، لا تفرق بينه وبين السابقين، لا في الحقوق، ولا في المقام، ولا في النسبة إليها، ويستنار لذلك ببعض السيرة والروايات عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، مثل اعتبار من تكلم العربية عربيا رواية وإن ضعفها بعضهم، إلا أن السياق والطبيعة يؤكدانها، فما بالنا بما هو أكبر من ذلك من مجاورة ومصاهرة وأحلاف؟ ولقد عَمَّق هذا المعنى المدني والحضاري والإنساني للقبيلة الإسلام في رسوله، والذي في بعض مواقفه، وجه منتسبي قبيلة للاعتزاز بها، ولو كان انتسابهم ولاء عن عتق، كما عقبة مولى جبر بن عتيك الأنصاري في معركة أحد، وقد انتخى بأصله الفارسي، وهو يضرب بسيفه العدو ويقول: خذها مني وأنا الرجل الفارسي، فبلغت النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: “هلا قلتَ خذها وأنا الرجل الأنصاري، فإن مولى القوم من أنفسهم” وهو يبين مساواة المنتمين للقبيلة ولاءً وحلفا ونسبا، واشتراكهم عنده صلى الله عليه وسلم في النِّسْبة للقبيلة دون سوابقَ ولا لواحقَ فارقة!
إن وشيجةَ النسب والمصاهرة بين القبائل وضمن القبيلة الواحدة بتنوع أفرادها وخلفياتهم دليلٌ على خلو علائق القبائل من التعصب (وينسحب ضمن ذلك المذهبية، والمناطقية وغيرها)، وهما ضمان لبقاءها لُحمة واحدة، وهما الثنائية التي جعل الله سبحانه مدار الحياة عليها، وطلب من الناس اعتبارها، ليحق التعارف وما وراءه من تآلف وتعاضد في المجتمعات، في قوله: ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا ۗ وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)/ الفرقان)، وكما أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم المساواة في نِسْبة الناس (انتسابهم) لقبائلهم مهما كانت سبلُ انتمائاتهم دما أو حلفا أو ولاء أو سكنا أو غيرها، فأمر الفارسي بالانتخاء بكونه أنصاريا كما الأنصار وليس بكونه مولاهم، فقد أدرك هذا التوجيهَ الحضاريَّ والمدني لثنائية النسب والمصاهرة المصطفى عليه السلام وصحابتُه، وهم خرجوا من قبلية جاهلية عمياء، فتمكن التزاوج والتداخل بين القبائل، وارتفعت حد الأخوة كما كان بين المهاجرين والأنصار، بل ومع أهل الكتاب، بل وضمن حالات القبيلة المختلفة، حتى وصل لعتقائهم المباشرين كما بلال وأسامة وزيد بن حارثة وسالم مولى أبي حذيفة وسلمان الفارسي وغيرهم، فمجرد التحرر واكتسابهم حريتهم جعلهم متساوين مع الآخرين ضمن القبيلة وخارجها، حتى زاوجوا أنساب الرسول عليه السلام وأصحابه وصاهروهم؛ ابنة عمته زينب بنت جحش، وأخت عثمان من أمه فاطمة بنت قيس، ومن قريش والأنصار لبلال وأخيه وغير ذلك… فإن كان بلغ أمر القبيلة ووحدتها وتساوي أفرادها انتماءً ذلك المستوى من الاندماج في عتقائهم، فما بالها بغير ذلك من مكونات قبائلهم من حلفاءَ وأُجَراءَ ومن قبائل العرب وبطونهم.
أحسب أن السلطان قابوس طيب الله ثراه نجح إلى حد بعيد بالتأسي بسيرة النبي عليه السلام وسياسته في التعاطي والقبيلة ضمناً وعلاقةً مع الآخرين، واستطاع تحقيق المساواة بين المواطنين في قبائلهم بتساوي نسبتهم إليها، وفي مرجعيتهم لدولتهم ومؤسساتها مرجعية كبرى، وجعل الانتماء والولاء للوطن (في حال الصحابة؛ الرسول والرسالة والاسلام) وليس لأي اعتبار آخر، إلا أن دعوات الانتماء القبلي القائمة والتي بدأت تطفو على السطح في أشكال مختلفة؛ من تجمعات قبلية تصل لما وراء الحدود، ومجموعات تواصل قبلية، والبحوث والاهتمام بها وبتاريخها، إلى جانب بعض الأحكام القضائية التي تعزز من الطبقية والعصبية القبلية، وبعض الآراء ذات الصبغة الدينية، والتي يغذي بعضها القبلية والعصبية ويمكنها، ولا تعترف بطرق الانتماء الأخرى والطبيعية حلفا ومصاهرة ومساكنة، مما يعطل عملية النمو والتطور الطبيعي للقبيلة، جميعها إشاراتٌ غير صحية، تهدد الدولة المركزية على المدى البعيد، مما يحتم مراقبتها وتشريع القوانين لمكافحتها.
يستطيع المرء معرفة انتمائه القبلي هل تجاوز الحد إلى العصبية والقبلية عبر درجة تقبله للآخر ضمن قبيلته (الحليف أو الدخيل)، وقبوله لقبائل أخرى بعينها، ومكانة دولته لديه مقابل قبيلته، فمتى ما وجد المرء في نفسه الأنفة من ذلك وأن القبيلة أعز إليه من الله وأعز إليه من وطنه فهو دليل جلي له على أن الشيطان يستزلقه، وأنه مستجيب لخطواته واقع ضمن نطاقه، ولا ينفعه في هذا المضمار الأدلة (الشرعية) التي يتعلق بها، كما لم ينفع بعضَهم زعمُهم وقولُهم: (والله أمرنا بها) في (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ۗ قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ۖ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)/ الأعراف ) في تعليلهم للفواحش التي يأتون بها، فكل الفواحش ومنها التعدي على الآخر باستحقاره والنظر له شزرا وما يقود إليها من أسباب كأمراض القلوب من كبر وتعالٍ وغيره، وما يؤديه من استهانة للدولة ومكتسبها في تساوي أفرادها وأخوَّتهم وغيرها من مظاهر المدنية، كل ذلك لا يمكن أن يكتسب صبغة شرعية، سواءً أقره رجل دين أم رجل دولة وتشريع، إذ لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر قولا واحدا، كما في الرواية الصحيحة عن النبي عليه السلام.
ما زالت القبيلة ومعانيها ومقارباتها في عمان -لتصل إلى معنى التعارف الزاكي بالأمم والشعوب بعيدا عن العصبية -رغم القفزة والنجاح الذي تحقق حتى الآن- ما زالت تحتاج إلى عمل عليها دؤوب عبر إعادة تعريفها الحقيقي عمليا، وسنِّ التشريعات بموازاة ذلكم التوجيه الرباني، والنهج النبوي الشريف، وهو أبلغُ الإنسانية والعدالة، وصمامُ أمان للمدنية، وضامنٌ للتقدم والرقي، وإلى إخضاع جميع القوانين والأحكام القائمة لذلك التعريف الجامع المانع، فالقبيلة مجمع أبناء القبيلة جميعهم جديدهم وقديمهم، أبيضهم وأسودهم، وأن التمايز بينهم، وبينهم والقبائل الأخرى هو في التقوى، وأن الوطن هو المظلة الأولى والتي تنضوي تحتها باقي المظلات الاجتماعية وتحتمي بها وتحميها، وتتضاءل أمامها، فلا ترتفع رايتها على رايته، من ذلك فعلى الحكومة مراجعة بعض الإجراءات التي تتناقض وهذا المعنى المقدس، والقائمة اليوم، منها كثرة الشيوخ والرشداء وحتى وجودهم -مع حفظ مكانتهم الاجتماعية وتقديرهم- في ظل عدم الحاجة الفعلية والتقنية لهم، مع وجود الدولة المدنية بمجالسها التشريعية والبلدية، ومكاتب المحافظين والولاة ولجانها المنبثقة عنها، ولجان الوفق والمصالحة والمحاكم، وتطور وسائل التواصل والاتصال والمعرفة، ودقة الأنظمة وقواعد البيانات عن المواطنين والمقيمين في الأحوال المدنية وغيرها من نظم مؤسسات الدولة، ومنها “جِلْجِل” “توقيع الشيخ” في كل شاردة وواردة، مع وجود مؤسسات الدولة، في طلب الوظيفة، والزواج، وتحديث إقامة السكن في البطاقة المدنية، مع وجود ملكية السكن بتوقيع الإسكان، واسم الفواتير بمؤسسات الماء والكهرباء، والأحوال المدنية والشرطة بقاعدة بياناتها الجبارة، والكاتب بالعدل، ومراجعة القوانين والأحكام القضائية والفتاوى الشرعية التي تعزز الطبقية والتمايز بين أبناء القبيلة وتجعلها طبقات، وتفرق في النسبة بين أفرادها، وتزعم بذلك “الغرر” وتعتمده في التفريق بين الأزواج، على خلاف دستور الدولة ونظامها، وعلى خلاف النهج النبوي والإلهي لدين الدولة الاسلام، وغير ذلك مما ينشر أمراض القلوب ويشغل الأنفس فيما ضره عليها أكبر من نفعه، ويهدد الدولة ولحمتها، ويستخف بها وبمركزيتها عند الناس، ويقلل من هيبتها، ويعزز في العقل الباطن الجمعي معنى القبيلة السالب والانتماء لها مقابل الوطن والدولة، مما يخل بكينونتها ويشوه مستقبلها، ويفرط في مكتسبها.
حفظ الله عمان بوعي قادتها ومشرعيها ومؤسساتها، وقبل ذلك بوعي أفرادها، وأدام الله عليها الأمن والاستقرار حتى يرث الله الأرض ومن عليها، إنه سميع عليم.
عبدالحميد بن حميد الجامعي
السبت
٢٢ رجب ١٤٤٢ هـ
٦ مارس ٢٠٢١ م