الإمام الباقر، وشيخ بني هاشم، سيد وإمام وفقيه، علمٌ من أعلام أهل البيت عليهم السلام، ومن أبرز رجال الفكر والعلم في الإسلام، بإجماع الجميع، كان له دوراً بارزاً في تكوين الثقافة الإسلامية وتأسيس الحركة العلمية في الإسلام، المتفرغ للعلم ومنفعة المسلمين، في وقت غلب على الأمة الإسلامية الجمود الفكري وثورات كثيرة، وانتفاضات شعبية، اختار العلم وابتعد عن السياسة، فرفع مقامه وأسس قواعده وأرسى أصوله، فكان الرائد والمعلم للأمة في مسيرتها الثقافية، وقد سار بها خطوات واسعة في ميادين البحوث العلمية مما يعتبر عاملاً جوهرياً في ازدهار الحياة الإسلامية وتكوين حضارتها المشرقة في الأجيال التي جاءت بعده، هو الإمام محمد الباقر عليه السلام.
اهتم الإمام أبو جعفر الصادق عليه السلام، بنشر روح الإسلام فقهياً ولم يقتصر الإمام في محاضراته وبحوثه على الفقه الاسلامي وإنما خاض جميع ألوان العلوم من الفلسفة وعلم الكلام والطب، أما تفسير القرآن الكريم فكان غاية واهتمام، ليكون المفسر إلى جانب الفقيه، وللإمام إسهامات كبيرة في تدوين الحديث النبوي الشريف، ونشره بين الخاصة والعامة، وذلك لما للحديث من أهمية قصوى في بيان معالم الدين وأحكامه، فهو المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن الكريم، كما أن المخصص لعمومات القرآن الحكيم، أو مقيد لمطلقاته، ومبين لناسخه من منسوخه. كما أن الحديث الشريف مصدر مهم لبيان أكثر الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات والعقود وغيرها.
كتب الذهبي في وصف الإمام الباقر: (كان الباقر أحد من جمع بين العلم والعمل والسؤود والشرف والثقة والرزانة، وكان أهلاً للخلافة)، أبو جعفر محمد الباقر، هو محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب المعروف بمحمد الباقر(57 هـ – 114 هـ)، وهو ابن علي بن الحسين زين العابدين عليهم السلام، أمه فاطمة بنت الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، ويكنى بأبي جعفر من فحول علماء الإسلام، حدث عن أبيه، وله عدة أحاديث في الصحيحين وهما من كتب الحديث عند مدرسة الأثر والحديث، وكان من الآخذين عنه أبو حنيفة وابن جريج والأوزاعي والزهري وغيرهم، قال محمد بن مسلم: سألته عن ثلاثين ألف حديث، وقد روى عنه معالم الدين بقايا الصحابة، ووجوه التابعين، ورؤساء فقهاء المسلمين.
وقد ترجم الإمام ابن كثير (ت 774هـ) في “البداية والنهاية”، قائلاً: “تابعي جليل القدر، كثير العلم، أحد أعلام هذه الأمة علماً وعملاً وعبادة ونسباً وشرفاً…، وقد روى عن غير واحد من الصحابة، وحدّث عنه جماعة من كبار التابعين وغيرهم، وروى الإمام سفيان بن عيينة (ت 198هـ) عن شيخه جعفر الصادق قوله في والده الباقر: “حدثني أبي وكان خير محمديٍّ على وجه الأرض”!
الإمام الباقر عليه السلام، سمي بذلك من بقر الأرض أي شقّها، وأثار مخبآتها ومكامنها، فلذلك هو أظهر من مخبآت كنوز المعارف، وحقائق الأحكام والحكم، أقبل الناس عليه ليتفقهوا في دينهم ويسألوا عما يشغل بالهم، بعد أن كثر الفساد واشتعلت نار الفتنة فقاد الإمام الباقر عليه السلام في تلك الحقبة الملتهبة حركة علمية كبيرة حيث اغتنم الفرصة واستفاد من الأزمة والخلاف حول الحكم بين الخلفاء وبدأ بتربية التلاميذ مع مراعاة الأجواء.
وكما أشرت أعلاه، فلقد ساعدت الظروف السياسية التي عاصرها الإمام الباقر عليه السلام في إتاحة الفرصة له لنشر الحديث النبوي على نطاق واسع، حتى لا يكاد يخلو أي كتاب من الكتب الحديثية عند الفرق الإسلامية من روايات للإمام، فقد روي عنه في صحيح البخاري وصحيح مسلم، وسنن الترمذي وسنن النسائي وسنن أبو داوود، وسنن ابن ماجة، ومسند أحمد بن حنبل، وموطأ مالك، وسنن الدرامي، وأما روايات الإمام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكانت عن طريق آبائه عليهم السلام، أكد على ذلك الإمام الصادق عليه السلام بقوله: “حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله وحديث رسول الله قول الله عز وجل”، وعن الصحابة من أمثال جابر بن عبدالله الأنصاري، وابن عباس، وأبو ذر، وزيد بن أرقم، وأم سلمة وغيرهم، وبالتالي إن ما ورد عن آل البيت عليهم السلام، من أحاديث صحيحة فهي ضمن “السنة الشريفة”، المتصلة بالسند الشريف إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
لذلك أخذت عنه كل الفرق الإسلامية، لأنه وهب نفسه لنصرة الإسلام ونفع المسلمين ككل، فلقد أجمع كثير من الرواة والمحدثين على ذلك، وانتشرت أحاديثه ورواياته بين الجميع، فمن روى عنه معالم الدين بقايا الصحابة ووجوه التابعين ورؤساء فقهاء المسلمين، فمن الصحابة: جابر بن عبد الله الأنصاري، ومن التابعين: جابر بن يزيد الجعفي وكيسان السختاني صاحب الصوفية، ومن الفقهاء: ابن المبارك، والزهري، والأوزاعي، وأبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وزياد بن المنذر النهدي، ومن المصنفين: الطبري، والبلاذي، والسلامي، والخطيب في تواريخهم. وفي: الموطأ، وشرف المصطفى، والإبانة، وحلية الأولياء، وسنن أبي داود، والألكاني، ومسندي أبي حنيفة والمروزي، وترغيب الأصفهاني، وبسيط الواحدي وتفسير النقاش، والزمخشري، ومعرفة أصول الحديث، ورسالة السمعاني فيقولون: قال محمد بن علي، وربما قالوا: قال محمد الباقر.
وبذلك، استطاع الإمام محمد الباقر عليه السلام من خلال هؤلاء الرواة أن ينشر أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على نطاق واسع، وأن يساهم بشكل كبير في حفظ الحديث الشريف وتدوينه، والشيء المهم أن الإمام قد اهتم بفهم الحديث، والوقوف على معطياته، وقد جعل المقياس في فضل الراوي هو فهمه للحديث ومعرفة مضامينه، فكانت أحاديثه مرسلة ومسندة، وأما المرسلة فهي: التي لم يذكر فيها رجال السند، وينسب الإمام الحديث رأساً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، وقد سئل عليه السلام عن سنده في ذلك فقال: “إذا حدثت بالحديث فلم أسنده فسندي فيه أبي زين العابدين عن أبيه الحسين الشهيد عن أبيه علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن جبرائيل عن الله عز وجل.. “، والمسندة وهي التي يذكر فيها سنده عن آبائه الطاهرين عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
كما ويعتبر الإمام المؤسس لعلم الأصول، له مجموعة من القواعد الأصولية نقلاً عن آبائه، والتي يرجع إليها الفقهاء عند عدم توافر النص على الحكم الشرعي. وبعض هذه القواعد قواعد فقهية أو مشتركة بين الفقه والأصول؛ إلا أن علماء الأصول أدرجوها في علم الأصول، حيث استفاد الأصوليون مما ورد في مروياته الكثير من القواعد الفقهية والأصولية.
أخيراً، في تلك الظروف العصيبة التي شرحناها آنفاً الإمام الباقر عليه السلام بثّ المعارف والعلوم الإلهية وحلّ المعضلات العلمية وأحدث حركة علمية عظيمة مهدت لتأسيس جامعة إسلامية ضخمة بلغت ذروتها في عصر ابنه الإمام الصادق عليه السلام، الذي سنبدأ سلسلة مقالات تتحدث عن مسيرته الطاهرة في خدمة الإسلام، سندخل عليه من أبواب متعددة، من باب العترة، فهو من الوسط المنتقَى من السلالة النبوية المباركة؛ ومن باب العلم، فهو إحدى ركائز الاندفاعة العلمية الكبرى في تاريخ المسلمين؛ وباب الإصلاح، فهو من مؤسسي تيار الرشد في التعامل بين السلطة والمجتمع؛ ومن باب التزكية النفسية، فهو من رموز التربية والتعبد والتبتل.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان