مسقط في 10 مايو / العمانية / على غلاف مجموعته الشعرية الجديدة
الصادرة ضمن منشورات الجمعية العمانية للكتّاب والأدباء لهذا العام
2021م، كتب الدكتور علي جعفر العلّاق “تكاد قصيدةُ الشاعر عبدالرزاق
الربيعي أن تكون صورةً عنه. نقيةً، وجارحةً، ومنطلقة الأسارير. لكنها
تخفي، وراء ابتسامتها العريضة، وضحكتها الطفولية قدرا عاليا من الألم
والمحبة، وتضمر، رغم إقبالها على الحياة ومخالطة الناس، إحساسا باليتم
والعزلة قلّ نظيره بين مجايليه من الشعراء.
وكثيرا ما نراه يفرُّ الى ذاته الوحيدة، هربا من وحدته تارةً، ومن ضجة
الخارج وتواطؤاته تارةً أخرى، وهكذا فإن شياطين عبدالرزاق الربيعيّ، في
طفولته الستينية، تختلف عن شياطين البشر الآخرين. إنها شياطين شعرية
بامتياز، لا تؤذي ولا تشيخ ولا تكدّر الخاطر. وأجملُ ما فيها أنها لا توزّع
على القرّاء إلا الجميل والمبتكر”.
وتضمّ المجموعة التي جاءت بعنوان “شياطين طفل الستين”، حوالي خمسين
نصّا، تدور موضوعاتها حول الذات، والفقد، والإحساس العميق بدورة
الزمن، وتراوحت بين نصوص طويلة كنصّه “دروب التبانة” إشارة إلى (
درب التبّانة): وهي مجموعة كبيرة من النجوم سمّيت بهذا الاسم بسبب
شكلها الذي يُشبه خطّا من الحليب مُشكّلاً من الضوء عندما يتم رؤيتها من
منطقة مظلمة، ويورد في الهامش ملاحظة بأن في النص إحالة، وتناص مع
أغنية المطربة مائدة نزهت “همّه ثلاثة للمدارس” التي غنتها في ١٩٧٠،
وهي من كلمات ذياب كزار (أبو سرحان) ألحان كوكب حمزة، ولكنه وظّف
الأغنية توظيفا فنيا، وشحنه بطاقة شعرية، وإسقاطات على الواقع :
ولأنّ الأول
فيهم
غنّى
في الليلِ الأليل:
“همّه ثلاثة للمذابح يروحون”
قطعوا…
تحت ستارِ الليل الدامي
صوتَ عذوبتهِ
بالمنجلْ
“ياداده مثل الماي
بروحي نبع
خضر ورد وافياي
سنبل طلع”
الثاني أخذته الحرب
إلى عرش الرب
“هم ثلاثة للمعارك يروحون
شوفي داده شحلاته”
وبلا كفن أبيض
عانق ضوءُ الجنة نعشه
ذبلت أجنحةُ طيور الماء
وجفّ الماء
وظلّ الطين وحيدا
فتهاوى
من زهرة عرشه
إلى جانب نصوص قصيرة كـ” صعود”:
صاعدا للشمس
كي يحضن
قلب الملكوت
زارعا عينيه في الغيب
تجلى..
ناثرا أحلامه البيض على هام البيوت”
وحول دلالة عنوانه الجديد يقول الربيعي الذي جمع أعماله في ثلاثة مجلدات
صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت بالتعاون مع دار
“سطور” ببغداد “العنوان بالنسبة لي خريطة خفية، فقبل أن أبدأ العمل على
ديواني الجديد أردت أن أحتفي ببلوغي الستين لذا، فمخطّط الديوان ينتقل
بين ثلاثة محاور شكّلت وجودي، وكياني على مدى ستة عقود، هذه المحاور
هي: الشعر، الزمن، الطفولة، ومن عناصر هذه الخلطة، بعد مزج مكوّناتها
الثلاثة، خرج عنوان الديوان “شياطين طفل الستّين”، فالشياطين مرتبطة
بالشعر، وشياطين عبقر بموروثنا الشعري العربي، فقد كان أجدادنا يؤمنون
بوجود شيطان لكل شاعر، يستمد منه القصائد، “مسحل بن أثاثة” كان
شيطان الأعشى، و”السنقناق” شيطان بشار بن برد، وحتى حسان بن ثابت
كان له شيطان، أما شعراء اليوم، فقد تعدّد شياطينهم، بتعدّد مصادرهم
الشعرية”.
الركيزة الثالثة للديوان هي، الزمن فقد رمزت له برقم (ستين)، لتثبيته، وهذا
ما أكدت عليه العتبات ومنها عتبة شمس التبريزي “يجب عليك أن تفهم أنّ
هذا السن مجرد رقم لا يشكّل حقيقتك أبدًا، ربّما تكون طفلاً بسنّ الستّين، أو
شيخًا بسنِّ العشرين”، أما روفائل البرتي فيقول “إنّه وجهي الحقيقيّ، لي
ستّون عاما، وأريد أن أحملها، كمن يحمل رايةً”، وبين هذا وذاك يمرح طفل
الستين، ويعبث بالحروف، وحرصت أن يتحلّى العنوان بإيقاع آسر، من
خلال الاستفادة من السجع بين شياطين، الستين”، وقد لفت هذا الأمر، في
قراءات سابقة نظر الدكتور الناقد حاتم الصكر، ففي كلمة له على غلاف
مجموعتي “جنائز معلّقة” يشير لاستثمار” طاقة المطابقة الدلالية على الدوام
وملاحقة الانزياحات التركيبية بشكل ساخر، وحزين معا “مستدلّا بعنوان
المجموعة” الذي يشير في ذاكرة القارئ إلى جنائن بابل المعلّقة ولعبة
التناص الهائلة في التركيب المنزاح بألم، وعلى هذه الشاكلة وجد القارئ “
موجز الأخطاء” بدلا من “موجز الأنباء”.
وفيما يتعلق باهتمامه بعناوين مجاميعه قال “العنوان هو العتبة الأولى، وهو
جزء من النص، وجسر يربط القارئ به، وكان يوازيه في القصيدة العربية
القديمة المطلع، وأطلق النقاد العرب القدامى على البراعة في المطلع تسمية
“حسن الابتداء”، ومن خلال العنوان تظهر قدرة الشاعر على جذب
الأسماع، فالعنوان مفتاح إجرائي، لا بد من حمله لولوج عوالم النص
الداخلية، وفي بدايات مطالعاتي لفتت نظري عناوين روايات إحسان
عبدالقدوس، فهو بارع في صياغة عناوين رواياته التي معظمها تحوّلت إلى
أفلام سينمائية، وكانت الإعلانات عنها تملأ مسامعنا: “الرصاصة لا تزال
في جيبي”، “أبي فوق الشجرة”، ” أين عقلي” “شيء في صدري”، “الطريق
المسدود”، “بئر الحرمان”، “أنف وثلاث عيون”، “في بيتنا رجل”،” العذاب
فوق شفاه تبتسم”، أما في الشعر فأول عنوان لفت نظري كان عنوان ديوان
الشاعر محمود درويش “العصافير لا تموت في الجليل”، فاستفزني العنوان،
وكنت قد عثرت عليه في مكتبة عامة بحينا الشعبي ببغداد اسمها (مكتبة
العباس بن الأحنف)، فاخترته، فسألني أمين المكتبة: لماذا اخترت هذا
الكتاب؟ أجبته: أريد أن أعرف كيف العصافير لا تموت في الجليل؟ وعندما
قرأته لم أجد الجواب، بل قادني إلى قراءة أعمال درويش الكاملة.”
وفسّر الربيعي حرصه على إصدار كتاب في كل عام على الأقل وهنا يقول
الربيعي الذي أصدر حوالي أربعين إصدارا في الشعر والمسرح والنقد
والإعلام وأدب الرحلات “لأنّني أضع نصيحة لتشيخوف نصب عيني، تلك
النصيحة هي “اكتب اكتب اكتب حتى تتكسر أصابعك” ونصيحة هنري ميلر
“لا تمكث في مكانك، مارس الكتابة”؛ فالكتابة بالنسبة لي فعل وجود،
وديمومة وتواصل، وحياة، ومقاومة للزمن، والعادي، والرتابة، وعندما يتقدّم
الإنسان بالسن يميل إلى تدوين ما يكتب، ونشره في كتب لأنها الأكثر بقاء،
بينما عمر النشر في المجلات والصحف قصير المكتبة أرشيف”.
وحين سألناه إن كان تراجع مبيعات كتب الشعر تشكّل قلقا له أجاب “الأمر
لا يقتصر على كتب الشعر، فالقراءة عموما في تراجع، بسبب ما أحدثه
التطور التكنولوجي من تطوّر في معظم مجالات الحياة، لقد كنا في رحلاتنا
لأوروبا نشاهد معظم ركاب القطارات يحملون كتبهم ويقرؤون، حاليا نراهم
منشغلين بالمسح على هواتفهم الذكية، ومشاهدة مقاطع الفيديو، واليوتيوب،
والسماعات في آذانهم، لتتفاقم عزلة الفرد، ومع ذلك لست قلقا على مستقبل
الشعر، فهو سيبقى ما بقي الإنسان على وجه الأرض، وفي ذلك يقول
أوكتافيو باث “لا خوف على الشّعر من الزّوال، إنّه سيظلّ موجودا ما دام
للإنسان وجود على هذه الأرض.”
وحول كيفية تعاطيه مع الإغلاق، والحدّ من السفر، والتقييد الحركي الذي
سببته الجائحة قال “نحن الشعراء والكتّاب، أبناء العزلة، التي خرجنا من
أرحامها، ورضعنا حليبها، وكبرنا في أحضانها، واليوم لدينا الكثير من
الأشياء التي نصنعها خلال عزلتنا، نكتب، ونقرأ، ونحلم، ونتحاور مع “
شياطيننا”، ونلهو معهم، لذا تعاطيت مع التقييد الحركي بروح إيجابية،
وأنتجت الكثير من النصوص الشعرية والمسرحية، والمقالات.”
وحول وضع المسرح اليوم كون أن بعضا من نصوصه الأدبية تم تحويلها
إلى مسرحيات معروفة قال “حال المسرح لا يسرّ صديقا، فالكثير من
المسارح في أوروبا أغلقت أبوابها، والكثير من العاملين فيها فقدوا وظائفهم،
وتوقف الأنشطة المسرحية سيضرّ كثيرا بالعملية المسرحية؛ فالمعروف أن
المسرح خطاب تواصلي، يبدأ من التواصل بين النص والمخرج، والمخرج
والممثل ومن على الخشبة، وعناصر العرض، والخشبة والجمهور،
والعرض والناقد، فهو، كما نرى، سلسلة من العلاقات التواصلية، رغم أن
العروض المسرحية الافتراضية حاولت أن تخرج المسرحيين من عزلتهم،
ولكن هذه لا تكفي، فالمسرح حالة طقوسية متكاملة، ظلام، وهمهمات،
وكلمات إعجاب، وتصفيق، وتفاعل مباشر بين الحاضرين في القاعة،
والخشبة، وكلّ هذا فقدناه بعد تفشّي الجائحة” .
وعن مشاركاته الثقافية المتعدّدة بالجلسات الافتراضية، وبرنامجه الحواري
“كتاب مفتوح” الذي يعدّه ويقدّمه برفقة الشاعر وسام العاني، لمركز حدائق
الفكر للثقافة، وقد استضاف شخصيات ثقافية عربية بارزة كإبراهيم الكوني،
وواسيني الأعرج، وعبدالله الغذامي، وسيف الرحبي، وإبراهيم نصر الله،
وعبده خال، ومحمد علي شمس الدين، ويوسف زيدان وصلاح فضل،
وآخرين، قال “في هذه الأزمة الكونية، والطوفان الجارف، لم نجد ملاذا
سوى التمترس بحصون الثقافة كونها السدّ الذي يحمينا من الغرق، لذا
تواصلت الأنشطة التي فتحت نوافذ جديدة لتطل من خلالها على الجانب
الآخر، وتمدّ جسور التواصل مع القابعين في بيوتهم، بعد أن حاصرتهم
الجائحة، وشلّت حركتهم، ويوما بعد يوم وجدنا أن هذه اللقاءات الافتراضية
أذابت الكثير من الحدود الفاصلة، وجعلتنا نركّز على المشترك الإنساني “.
/العمانية /