إن تاريخ مؤسس دولة باكستان، درساً مشرّفاً لكل من يعتقد أن كل من يعمل بالسياسة لا يمكن أن ينهض ببلاده ويضعها كقوة محورية إن لم يكن على مستوى العالم، فعلى صعيد الإقليم، محمد علي جناح مؤسس دولة باكستان واحداً من أعظم القادة في التاريخ المعاصر، بالنسبة لملايين المسلمين وحتى غير المسلمين، لقد حقّق حلماً جميلاً كان الكثير يظن أنه مستحيل.
شخصية محمد علي جناح هي من أبرز شخصيات شبه القارة الهندية في النصف الأول من القرن العشرين، أول حاكم عام لباكستان منذ استقلالها وحتى وفاته، أي من عام (1913 – 1947)، لا عجب أن اتُخذ عيد ميلاده عيداً وطنياً، لكن من تكون هذه الشخصية القيادية التي وضعت بلادها أولاً، ووضعت أبناء بلدها هدفاً محورياً لنقلهم إلى دفّة الأمان، قلة من ينظر اليوم لأبناء شعبه هكذا، محمد علي جناح استطاع الجمع بين أكثر من صفة، إلى جانب أنه مؤسس دولة باكستان، هو محامٍ وسياسي من الطراز العريق، تزعم عصبة مسلمي عموم الهند، منذ العام 1913، وحتى الاستقلال في 14 أغسطس/ آب 1947، هو القائد العظيم وأبو الأمة كما يصفه عموم الباكستانيين ومن قرأ تاريخه بفهم وإدراك.
ولد محمد علي جناح يوم 25 ديسمبر/ كانون الأول 1876 في مدينة كراتشي لعائلة مشهورة تعمل في التجارة، وتلقى تعليمه الأولي في مدرسة الإسلام ثم في مدرسة البعثة المسيحية. وفي عام 1893 التحق بكلية “لينكولن إن” لدراسة القانون ليصبح أصغر هندي يتخرج في هذه الكلية، وكما أشرت أنه إلى اليوم يعتبرون عيد مولده عيداً وطنياً، تخليداً لاسمه، بعد أن قاد مسلمو شبه القارة الهندية في جهادهم وحقق لهم حريتهم، عندما تحتفل باكستان بذكرى مولد محمد علي جناح فإنها في الواقع تحتفل بالتراث المجيد الذي خلفه لها الرجل، ممثلاً في تلك الدولة القوية الفتية التي أصبحت أكبر الدول الإسلامية في العالم، وفي ذلك الشعار الذي رسمه لِبَني وطنه ولخَّصه لهم في ثلاث كلمات هي: الاتحاد والإيمان والنظام، رجل علم ماذا يريد، على الرغم من أن عائلته تعمل في التجارة ومن المفترض أن يعمل هو كذلك، ولكنه ما لبث أن تحول إلى دراسة القانون وسافر إلى بريطانيا ليتم دراسته القانونية هناك، وكان عمره آنذاك فقط ستة عشر عاماً، وبعد تخرجه عمل محامياً، وبعد ثلاث سنوات أصبح واحداً من أكثر محامي كراتشي شهرة.
ارتفعت مكانة جناح في حزب المؤتمر الوطني الهندي في العقدين الأولين من القرن العشرين، ليحتل مكانة بارزة، وفي هذه السنوات المبكرة من حياته السياسية، كان أول ما قام به محمد علي جناح، هو الدعوة للوحدة بين الهندوس والمسلمين، مما ساعد على تشكيل “حلف لكناو” الذي يحدد (حصص للمسلمين وللهندوس في التمثيل بمختلف المحافظات)، عام 1916، بين حزبي المؤتمر وعصبة مسلمي عموم الهند، حيث برز اسمه وأصبح من أبرز أعضائها الرئيسيين، وكان من أهم مقترحاته، اقتراح خطة للإصلاح الدستوري من أربعة عشر نقطة، للحفاظ على الحقوق السياسية للمسلمين عند الاستقلال من تحت الاحتلال الانكليزي، هنا لا بد من إسقاط هذا الأمر على واقع اليوم، من المعلوم أن نسبة الهندوس من حيث العدد هم الأكثرية، مقارنةً بالمسلمين، ورغم ذلك كفل محمد علي جناح حقوقهم السياسية آنذاك، اليوم ماذا عن الأقليات المهمشة ولن أقول خارج المنطقة، بل في منطقتنا العربية على وجه التحديد، لماذا لا يوجد تمثيل حقيقي للآيزيديين على سبيل المثال، لضمان حقوقهم؟، على الأقل للنظر بمسألة المختطفين والمفقودين منهم، لماذا لا يتم النظر بالأقليات الأخرى ومراعاة تركيبتها وطبيعة ديانتها وغير ذلك، جناح كان يحمل مشروعاً وطنياً، أما زعماء الأمة العربية اليوم يحملون مشروعاً تقسيمياً للأمة عبر التغيير الديموغرافي خدمةً لأجندات دولية وإقليمية.
وللتعمق أكثر في تاريخ المنطقة آنذاك وقبيل استقلال الهند، باختصار، تعرضت الهند لأحداث جسام كان أبرزها الاستعمار البريطاني وما تلاه من نضال من أجل الاستقلال، في حين كان أعظمها أثراً انفصال باكستان عنها، حيث سيطرت الحكومة البريطانية على الهند ووضعتها تحت الاحتلال المباشر، إلا أن أبرز ما حدث تلك الفترة، أن شكل محمد علي جناح “مؤتمر الرابطة الإسلامية” في العام 1916، وفي العام 1948بعد وفاة جناح بعام، حدثت الحرب الأولى بين الهند وباكستان بسبب النزاع حول إقليم كشمير، تلاها حرب أخرى في العام 1965، بيت الهند وباكستان أيضاً حول كشمير، ثم حرب العام 1971 وهي الحرب الهندية الباكستانية الثالثة حول بنغلاديش التي كانت تعرف بباكستان الشرقية، وبالتالي، وبين تلك السنوات وتحديداً ما يعنينا حتى رحيل جناح في العام 1947، في العام 1920 استقال من حزب المؤتمر، عندما وافق الحزب على اتباع سياسة “ساتيا غراها” أو ما تسمى المقاومة اللاعنفية، وبحلول العام 1940، ترسخ عند جناح الاعتقاد بأنه ينبغي أن يكون للمسلمين الهنود دولة خاصة بهم، وحدث في ذات العام أن مررت العصبة وبقيادة جناح، قرار لاهور للمطالبة بدولة مستقلة، لكن القوة الحقيقية للعصبة كانت خلال الحرب العالمية الثانية عندما سجن أغلب مسؤولي الحزب آنذاك.
وما صقل تجربة محمد علي جناح هو دراسته في بريطانيا حيث تأثر بالإيجابيات وابتعد عن السلبيات على عكس من ينبهر من عالمنا اليوم ببلاد الغرب متناسياً البيئة التي خرج منها، فلقد عاش جناح أربع سنوات في انكلترا كانت كفيلة بصقل شخصيته العلمية، من خلال الدراسة والتواصل المباشر مع الناس، وتأثره بأساليب السياسة الإنكليزية، وهي سياسة عملية في صميمها، فلما عاد إلى الهند، وعمل بالقانون بحكم دراسته وسلك سبيل الحياة التشريعية بعد أن انتُخب في المجلس التشريعي الهندي، زاده ذلك كله اتجاهاً للحياة العامة التي أخذ يعالجها بروح عملية لا تنسى المثل العليا ولكنه لا يقف جامداً أمامها، ولعل هذا الأمر هو الأساس الذي ننادي به، أن لا نجمد أمام واقع واحد نتأثر نعم، لكن إن كنا نمتلك أدوات التطوير من شأن ذلك أن يزيدنا رقي، وينعكس على واقعنا، في كل المجالات، فالأسلوب الخشبي أكل عليه الدهر وشرب، فإذا كانت فترة جناح قبل عقود طويلة، لو كان حيّاً اليوم لصنع المعجزات وبكل صدق نفتقر لمثل هؤلاء الشخصيات.
وكما أشرنا بإيجاز أعلاه أن جناح كان متصلاً بحزب المؤتمر في الهند وأغلبيته من الهندوس، إذ اعتقد في بداية الأمر أنه يستطيع أن يجد الوسيلة العملية التي تمهد للهند كلها سبيل الحكم الذاتي، وتمهد للمسلمين الوسيلة لحريتهم وإقامة شعائرهم والعيش حسب عقائدهم، فلما نشأ حزب الرابطة الإسلامية جعل القائد الأعظم همه أن يوفق بين هذا الحزب وحزب المؤتمر، ولتعذر تحقيق ذلك، لم يكن هناك وسيلة إلا بالاستقلال عن الهند، وهنا لا بد من ذكر نقطة مهمة، وهي أنه على الرغم من إنشاء قوة إسلامية كبيرة قامت على الدين، لكنه لم يكن من أولئك الذين استغلوا هذه الغاية أو ادّعوا أمراً لا يعملوا به، لم يكن يتظاهر أبداً بالنسك والتصوف أو الإغراق في التقوى، ورغم ذلك لم يظهر عليه أي ملاحظة أنه عكس مواصفات القائد المسلم الناجح، وهنا تبرز حنكته في القيادة وكأنه خلق لأجلها، وكان مثالًا للسماحة التي يتصف بها كل من يفهم الإسلام على حقيقته، وكان يزوره في منزله المسلمون وغير المسلمين من أبناء الطوائف الأخرى.
وكما يُقال، “آخر علاج هو الكي”، لم يبدأ جناح حياته السياسية بالدعوة إلى الفصل بين الهند وباكستان، بل لقد بذل كل جهده في بادئ الأمر للتوفيق بين البلدين والإبقاء على وحدة شبه القارة الهندية، ولكنه اضطر في النهاية إلى المناداة بالفصل بعد أن استنفذ كل وسيلة للتوفيق، وأكبر دليل على هذا أن جناح لم ينضم فوراً إلى حزب الرابطة الإسلامية بعد تأسيس هذا الحزب وآثر أن يعمل للتوفيق، فلم يصبح عضواً فيه إلا بعد انقضاء سبع سنوات على تأسيس الحزب، وحاول بعد أن انضم لحزب الرابطة أن يقف من حزب المؤتمر الهندي موقف الصديق وقال إنه (ليس هناك ما يمنع من أن يصبح حزب الرابطة الإسلامية جناحًا وحزب المؤتمر جناحاً آخر، وبهذا يمكن لشبه القارة كله أن يطير وأن يحلق في الجو حتى تتحقق له الحرية، وليس هناك طائر يمكن أن يطير بجناح واحد)، وهكذا ظل جناح رسول مودة وإخاء بين المسلمين والهندوس حتى استحق من هؤلاء وأولئك كل تقدير.
ورغم المصاعب التي تعرض لها، أثبت أنه سياسي صادق، بعيد النظر، واسع الأفق، راجح الفكر، فما كاد يقتنع بأن الخير في قسمة شبه القارة الهندية واستقلال مسلميها في دولة قائمة بذاتها؛ حتى سار بكل عزم في تحقيق فكرته هذه ولم يتراجع قط، حيث استطاع بإخلاصه وصبره وكفاحه وتضحياته أن يقود السفينة إلى بر الأمان وأن يحقق الأماني القومية لمسلمي الهند حتى أصبح مثلاً يُحتذى لغيره، وبذلك استطاع أن يجمع حوله تأييد ١٠٠ مليون مسلم كانت تضمهم شبه القارة الهندية واستطاع بهذا التأييد أن يحقق حلم قيام دولة باكستان، ودعوة جناح لم تكن بداعي تحقيق الشهرة والمجد، أو هدم الوحدة القائمة بين سكان شبه قارة الهند، بل من إيمانه أنها الطريقة الوحيدة لعيش السلام، ليتمكن عشرات الملايين من المسلمين من أن ينهضوا من سباتهم وأن يلقوا عن كواهلهم عبء الجمود والتأخر الذي لا يمكن التخلص منه إلا إذا تحققت لهم حريتهم في عقيدتهم الإسلامية وفي شعائرهم وتقاليدهم ونوع حياتهم.
رحل محمد علي جناح، مطمئناً على دولته وشعبه، في 11 سبتمبر/أيلول 1948 عن عمر يناهز 72 عاماً، ومنذ عام ١٩٤٧ بدأت باكستان تلعب دورها مع الدول العربية بوصفها دولة إسلامية، بل أكبر دولة إسلامية، ولم ينسَ أحد ممن تتبعوا أخبار الأمم المتحدة في ذلك العام ما قام به ظفر الله خان، وهو وزير خارجية باكستان، في قضية فلسطين، وكيف قاوم بكل قوة إقامة دولة ما تسمّى “إسرائيل”، وكان في هذا متفقاً مع مبادئ محمد علي جناح، القائد الأعظم، تمام الاتفاق. وهما في هذا كانا يعبران بإخلاص عن اتجاه العالم الإسلامي في الدول العربية وفي غير الدول العربية.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان