مسقط في 20 يونيو /العمانية/ يذهب الباحث الدكتور جمال بن علي الحراصي أستاذ اللغة
العربية المساعد بجامعة الشرقية، من خلال كتابه الجديد الاستعارات المعرفية “دراسة في
قصيدة التفعيلة العمانية”، ضمن المشروع الثقافي لطباعة الإصدارات العمانية بالجمعية
العمانية للكتاب والأدباء لعام 2021م، والصادر عن دار نثر للنشر، لينطلق من بدايات
هذا الكتاب حيث صورة الغلاف المعبّرة عن مضمونه، فهو يبيّن كيف يعمل تفكير
الإنسان وكيف يعالج التجارب والتصوُّرات الجديدة، باختصار كيف نفكر، فمن خلال
دراسة الاستعارات المعرفية يستطيع المرء الوصول إلى الطريقة التي يقبض ويكيّف بها
الإنسان العالم من حواليه، فوفق العلوم المعرفية فإن الإنسان لا يباشر العالم من حواليه
بطريقة عشوائية وإنما بطريقة واعية وعمليات ذهنية وإدراكية تكون الاستعارة جزءا
أصيلا منها.
يقترب هذا الكتاب من شعر التفعيلة مع عدد من الشعراء العمانيين ومن بينهم الدكتورة
سعيدة بنت خاطر الفارسية، حيث إصداراتها “إليها تحج الحروف”، و”وحدك تبقى صلاة
يقيني” و”ما زلت أمشي على الماء”، والدكتور هلال الحجري من خلال إصدارته “هذا
الليل لي” و”كطائر جبلي يرقب العالم”، وحسن المطروشي وإصداراته “على السفح إياه”
و”لدي ما أنسى”، و”مكتفيا بالليل” و”ليس في غرفتي شبح”، وخالد المعمري من خلال
إصدارته “هذا الذئب يعرفني” و”مخطوطة عشق” وسعيد الصقلاوي وإصداره “وصايا
قيد الأرض” وطلال النوتكي مع إصداره “تعال ننزع وجهك” وشميسة النعمانية
وإصدارها “سأزرع في الريح قمحي”.
عند قراءة هذا الكتاب سيرى القارئ أن التعاطي مع الكلام، أو التعاطي مع النص الأدبي
عامة، لا يكون عشوائيا؛ فالمستمع أو القارئ لا يباشر ما يصل إليه من كلام عادي أو
أدبي إلا وفق استراتيجيات معيّنة واعٍ بها أو غير واعٍ؛ فيجب الانطلاق من هنا في النظر
إلى ما قبل النص، وفي النظر إلى النص نفسه، وإلى ما بعد النص من خطاب. وهذا
التعاطي مع النص بنوعيه – الكلامي والأدبي – يختلف أولا باختلاف العصور، من حيث
الوضع الفكري والثقافي والنقدي، فللكل نظرته الخاصة، ومنطلقاته التي تميّزه عمّا قبله،
وعمّا بعده، والتي بالتأكيد ستنعكس وتتجلى فعليا في كل شيء ومن ضمنها المعالجة
النصية. فالتيارات النقدية انقسمت في النظر إلى المعنى إلى ثلاثة تيارات كبرى؛ تيار
ذهب إلى أن المعنى كامن خارج النص وسابق عليه، فنظر إلى السياقات المختلفة التي
أنتجته، من مثل، التاريخي والجغرافي والاجتماعي والثقافي وغيرها من السياقات التي
هي سابقة وخارجة عنه. وهناك من ذهب إلى النص نفسه ورأى أن المعنى كامن فيه، ولا
يجب الخروج عنه، وتولّدت لدينا ما عُرف بنظريات موت المؤلف، التي لا تحفل أبدا
بالسياقات المنتجة للنص وبكل ما هو خارج عنه، والتيار الأخير ذهب إلى ما بعد النص
باعتبار أن النص خطاب موجه فلا بد من فرض المخاطب نفسه على هذا النص، وعلى
اعتبار أن اللغة نفعية، وبالتالي فالمعنى موجه بهذين الاعتبارين.
ومع التغيّرات المتلاحقة التي شهدها العالم، والتطوُّرات العلمية والتكنولوجية التي
تسارعت وتيرتها في القرن الأخير، أصبحت توجد نظرات جديدة للنص، وللأدوات التي
يعالج بها هذا النص، مدفوعا هذا بتطوُّر مجموعة من العلوم الجديدة المعاصرة التي
أصبحت تفرض واقعا جديدا، وتتكاتف معا لتنتج مخرجات أكثر قدرة على المساهمة
الفاعلة في عصر تغلب عليه التكنولوجيات المتقدمة.
في حديث مع المؤلف الدكتور جمال الحراصي يرى أن الاستعارة اليوم في الدراسات
الحديثة وخاصة المعرفية، هي ليست الاستعارة كما طرحها أرسطو ونظر إليها، وتبعه
من جاء بعده من علماء البلاغة العربية، فقد تغيّر النظر إليها جذريا، وأصبحت دلالاتها
قبلية وبعدية وكذلك في بنية النص نفسه، ومعها أصبح الاستقراء أكثر اتساعا، ليس
للكاتب أو الأديب فقط، وإنما للفكر الذي تتحرّك من خلاله وفيه، بل هي نفسها أصبحت
صانعة لهذا الفكر. ويقول الحراصي في مقدمة الكتاب إن اهتمامه بهذا الموضوع رأى
فيه طرحا يعطي رؤية جديدة قادرة على سبر الفكر والثقافة التي يشتغل فيها النص، وليس
فقط سبر النص؛ وكذا وجد فيها ما يمكن من خلاله استقراء مدونة دراستنا المعروضة
على مختبره؛ فالاستعارة كما تُطرح الآن من أنها آتية من الذهن والفكر، ثم تنعكس في
الكلام بشقيه المكتوب والشفهي، وبشقي الأدب؛ النثر والشعر، أصبحت قادرة على تقديم
صورة أكثر مشهديّة عن النص نفسه، وعمّا قبل النص، وما بعد النص.
وحول خصوصية هذا الكتاب والتي كانت بمثابة دراسة استقصائية حيث قصيدة النثر
العمانية، فإن الحراصي يراها تندرج في إطار العلوم المعرفية، فتتخذ نظرية الاستعارة
المعرفية أو كما ترجمها الكثير من الباحثين “بالاستعارة التصورية” وهي من أحدث
النظريات في التعاطي مع اللغة؛ حيث توظف هذه النظرية ما توصلت إليه العلوم الحديثة
في دراسة كيفية بناء الإنسان لتصوُّراته وطريقة بنائه لأفكاره، فتستفيد من عدة علوم من
مثل علم الحاسوب، وعلم النفس، والفلسفة، والإعلام، وعلوم اللغة، وغيرها من العلوم؛
ومع هذا التعاطي الجديد أصبح النظر للكثير من المفاهيم القديمة متغيرا.
ويقول الحراصي إن خلاصة الطرح الجديد للاستعارة أنها ليست أسلوبا بيانيا كما كان في
النظرية القديمة وليست زخرفا أو زينة خاصة بالنص الأدبي، وإنما هي من كنه اللغة
الجوهري ومن صلبها، وإنها لا تختص بالنص الأدبي والشعر فقط وإنما موجودة في كل
الكلام، ولا يمكن الاستغناء عنها، بل إنها تكون صانعة لطريقة تفكيرنا وطريقة معالجتنا
للواقع، فمن خلال النظر لتصوُّرات الإنسان الاستعارية يمكن تفسير طريقة تفكيره،
وكذلك تحليل الكثير من سلوكياته وتصرفاته؛ ومن هذا المنطلق تأتي أهمية هذه الدراسة
حيث تستهدف شعر التفعيلة في عُمان مما سيعطي تصوُّرًا للبنى الحاكمة لتفكير الإنسان
العماني عامة وليس شاعر التفعيلة فقط.
جاء هذا الكتاب في أربعة فصول: الفصل الأول بعنوان المداخل النظرية للدراسة وتناول
فيه الباحث ثلاثة مباحث وهي: العلوم المعرفية والاستعارة المعرفية وشعر التفعيلة
العماني؛ وفي المبحث الأول بيَّن الباحث المقصود بالعلوم المعرفية وتأريخ نشأتها وأهم
روادها والحقول التي تطرقها وأهم النظريات الداخلة فيها، وغيرها من الأمور.
أما في مبحث الاستعارة المعرفية، فتطرَّق إلى تأريخ الاستعارة بدءا من أرسطو مرورًا
بعلماء البلاغة العربية وانتهاءً بالمعرفيين المعاصرين من أمثال لايكوف وجونسون،
وبيَّن كيف تغيّرت النظرة إلى الاستعارة والأهمية التي أصبحت تحظى بها في العلوم
الحديثة.
أما في مبحث شعر التفعيلة العماني فتناول إرهاصات ظهور هذا الجنس الشعري في
عُمان، وأهم ملامحه وأهم روّاده. وقد وجد الباحث أن قصيدة التفعيلة لم تتأخر في
الظهور هنا في عُمان وإنما كانت مواكبة لحركة هذا الشعر في الوطن العربي، فكم وجد
أن لشعر التفعيلة في مجموعة من الملامح والصفات التي يتسم بها ومن أهمها اتسامه
بالتطوُّر وأن له مرجعيات متعددة، ومن أهم السمات التي تميّز بها توظيفه للتأريخ
وخاصة التأريخ العماني، كما أنه غني بالصور الفنية، وذو لغة وأسلوب خاص متجدد
فلغته لغة شعرية غير عادية.
وفي الفصل الثاني بدأ الباحث في التعاطي التطبيقي مع شعر التفعيلة العماني وفق نظرية
الاستعارة المعرفية، وكان في هذا الفصل متتبعا لما أطلق عليه المعرفيون الاستعارات
البنيوية وهي إحدى ثلاثة أنواع من الاستعارات المعرفية، هي: البنيوية والاتجاهية
والوجودية. فوجد في شعر التفعيلة العماني مجموعة من الاستعارات البنيوية من مثل
استعارات الحياة واستعارات الإنسان واستعارات الحب؛ وهذه الاستعارات بيّنت كيف
يبني الشاعر العماني والإنسان العماني تصوُّراته لهذه المجالات وبالتالي نستطيع فهم
الكثير من طرق تفكيره تجاهها وكذلك التصرفات والأفعال التي تصدر منه في تجاربه.
أما الفصل الثالث فجاء عن الاستعارات الاتجاهية؛ وجاءت أهمية الاتجاه والفضاء في
الدراسات المعرفية من منطلق أن للإنسان جسدا مركزيا وهذا الجسد له اتجاهات كالشمال
واليمين والأسفل والأعلى، وبالتالي هذه التجربة الحسية للإنسان مع جسده من شأنها أن
تؤثر على الكثير من تجاربه وأن يبني الكثير من تصوُّراته المستجدة بناءً عليها. وبدراسة
وجود هذه التصوُّرات الاتجاهية في شعر التفعيلة العماني وجد الباحث الكثير من
التصوُّرات التي تحكم سلوكياتنا وأفعالنا.
وفي الفصل الرابع والأخير ذهب الباحث إلى الاستعارات الأنطولوجية (الوجودية) من
مثل استعارات الكيان والمادة واستعارات الوعاء، فوجد الكثير من الاستعارات التي من
شأنها أن تؤثر في سلوك الإنسان من مثل: “الوطن لباس” فهذه الاستعارة تبيِّن أهمية
الوطن بالنسبة للإنسان العماني، وكيف أنه لا يمكن أن يستغني عن وطنه مثلما لا يمكنه
أن يستغني عن لباسه.
ثمة أسئلة يطرحها هذا الكتاب ضمن دراسته الاستقصائية ومن أهم تلك الأسئلة التي حاول
المؤلف الإجابة عليها في حيثيات الكتاب أيضا “هل شعر التفعيلة في السلطنة عاكس للبنى
الفكرية والثقافية لدى المجتمع العماني، أم أن هناك هوة بينهما؟ وهل من الممكن أن
العلوم المعرفية تنزل إلى واقع التطبيق، وخاصة على النص الشعري؟ إذا ما تم وضع في
الاعتبار أن أساس تعاطيها هو مع الكلام، وهل البنى الاستعارية في شعر التفعيلة العماني
تتسم بالتماسك والتعاضد أو يمكن أن نجد هناك اختلالات، تكشفها لنا التصوُّرات
الاستعارية المختلفة؟ وما هي أبرز التصوُّرات الاستعارية التي يباشر بها هؤلاء الشعراء
الوجودَ من حولهم؟ وما التجارب الفيزيائية والمجرّدة التي شكّلت هذه التصوُّرات؟ وما
هي تجليات التصوُّرات الاستعارية القاعدية سلوكيا وفعليا؟ وكيف يمكن فهم الكثير من
تصرفاتنا وأفعالنا في ضوء الفكر التصوُّري لدينا؟ وكيف يؤثر تصوُّر معيَّن على صاحبه
وينعكس في حياته اليومية سلوكا وتصرُّفا؟ أسئلة كثيرة سيجد القارئ حضورها بشكل
تفصيلي بين دفتي هذا الكتاب.
في نهاية التواصل مع حيثيات هذا السفر مع هذا الكتاب، ثمّة أهداف أرادت أن تحققها هذه
الدراسة وتتمثل في اتجاهين، أولهما خدمة شعر التفعيلة العماني، والشعر عامة في
السلطنة، وثانيهما باتجاه المنهج، الذي يحقق مجموعة من الأهداف بما في ذلك استكشاف
البنى المعرفية التي تحكم طريقة التفكير لدى الشاعر العماني الذي هو انعكاس لمجتمعه
والمنظومة الفكرية العامة، وإلقاء الضوء على أهم الاستعارات المعرفية، التي تتجلى منها
التعابير الاستعارية اللغوية، مع الأخذ في الاعتبار الفرق بين الاثنين كما تطرح ذلك
العلوم المعرفية، مع تلمس الشعرية المعرفية في شعر التفعيلة العماني، وكيفية توظيف
شاعر التفعيلة البنى المعرفية أسلوبيا من أجل تحقيق ما يتطلبه النص، مع اختبار
الاستعارة المعرفية، والانطلاق بها من الكلام -كما كان قد طرحها المعرفيون- إلى النص
الأدبي، وخاصة الشعري الذي له خصوصيته؛، أضف إلى ذلك رؤية الانسجام في
المنظومة الفكرية العمانية التي ينطلق منها هؤلاء الشعراء، وكذلك انسجام هؤلاء
الشعراء مع المنظومة الفكرية.
/العمانية/