مسقط ـ العمانية: تطواف ثقافي معرفي تطل به الكاتبة سلامة العوفية من خلال إصدارها الأخير “مذكرات سال: عمانية في أرض الهنود الحُمْر”، الذي يتشكل في صور تتقاطع أفكارها وخصوصية ملامحها، فهي -وعبر سماوات السفر- تُخبر القارئ عمّا يدور في الركن البعيد من الحياة، حيث اختلاف اللغات والعادات وسيرورة التقاليد، هناك وبالتحديد في “كندا”، تأتي المذكرات مؤثثة بالاختلاف والتنوع، فتنقلها لنا المؤلِّفة بروح المبتكر في النقل … لتفاصيل إصدار “مذكرات سال: عمانية في أرض الهنود الحُمْر”، سمة خاصة، وقد تكون ذات دلالات معرفية اجتماعية بحتة، والتقرب من تلك التفاصيل، جعل من الكاتبة سلامة العوفية أن تقدم رؤية تلك العمانية في أرض الهنود الحمر “حسب ما تم الانطلاق من عنوان الكتاب”، وهنا تطلعنا على ذلك عندما تبيّن بقولها إنها تؤمن كثيرًا بأهمية توثيق التجارب الشخصية التي قد لا تتكرر كثيرًا في حياة المرء، ومن ثم تأتي أهمية مشاركتها مع الآخرين، إنِ اعتقد صاحب التجربة أنّ تفاصيل تجربته قد تلامس واقعًا لديهم أو تُلهم أحدهم أو حتى تؤنِّسهم بالاطلاع على تفاصيل تجمع بين روح المغامرة والطرافة وسبر أغوار الذات وحتى الوقوع في المشاكل والنجاة منها.. وتفسر العوفية حديثها هنا عندما تقول: في هذا الإصدار تقديم رؤية امرأة عمانية معتزة جدًا بهويتها الأصيلة، لتجربة العيش عامين بين دفتي أرضٍ تفخر حكومتُها بثقافة قاطنيها من القبائل الأصلية، التي سكنتها لمئات السنين بينما تحاول وضع ضمادات سياسية على جراح الماضي القريب التي عانى منها نفس هذه القبائل وما ترتب على ذلك من خصوصية فريدة لهذا البلد؛ وباعتقادي هذا أمر يستحق أن يُروى.
وتنتقل سلامة العوفية لتوضح ترسيخ مفهوم وقع السيرة الذاتية هنا في هذا الإصدار وتفسر إلى ألا شيء أصدق وأسرع للوصول للقارئ من التجارب المعاشة. وتقول في الشأن ذاته: عندما بدأت الكتابة لم أستطع تخيل فكرة تقديم نظرة حقيقية لتجربة الابتعاث أو حتى لبلد الابتعاث (كندا) بطريقة نظرية -وربما مُتكلَّفة- من برج عالٍ بمنأى عن سلامة الإنسانة ويومياتها ومشاعرها وهواجسها وهي ترقب تكشُّفَ خيوط التجربة المتشابكة بتفاصيلها الرائعة وتحدياتها الجمة يوما بعد يوم. نعم، هذا الإصدار مغرق بقصص ذاتية عايشتها وهو ما اختصر عليّ الطريق في توصيف ما اختبرته وتحليله وتنظيره بطريقة أكثر واقعية وصدق وسلاسة.
المتتبع لماهية الكتاب يجد ذلك الوصف السردي الدقيق الذي جاء بصورة أكثر واقعية لتفاصيله، من خلال تتبع الأحداث، وتقترب العوفية لتبلور تقنية الكتابة التي اعتُمدت لنقل تلك التفاصيل، والمحفزات التي أخذتها لذلك، وتشير إلى أن الكتاب مقسم إلى ستة فصول، كل فصل منها يتحدث عن مرحلة من مراحل هذه التجربة والتفاصيل المتفردة التي رافقتها؛ فهناك فصل يتحدث عن مرحلة ما قبل الابتعاث، وهناك آخر يتحدث عن خطوات الاستقرار في البلد الجديد، وآخر يتحدث عن تفاصيل التجربة الدراسية في الجامعة التي درسَتْ بها، ثم هناك فصلان لسرد الأحداث والمواقف والمشاعر وجميع الخوالج الإنسانية التي عبّرتْ بها في رحلة استثنائية لا تخلو من الدراما والتشويق والطرافة. أما عن تقنية الكتابة فقد تنوعتْ بتنوع الفصول وموضوعاتها.
السرد كان حاضرًا وبكثافة في فصلي المواقف والطرائف ومراحل الاستقرار الأولى وبعض الأجزاء من الفصول الأخرى. بينما طغت اللغة التقريرية الصحفية على الفصول التي تناولت فيها تفاصيل الدراسة والتقديم للابتعاث من منطلق تجربتي الشخصية. وفيما يتعلق بالمحفز الرئيس لاختياراتي اللغوية هذه – وهي بالمناسبة كانت عفوية- هو أنني أختار السرد عندما أريد للقارئ أن يعيش المواقف التي مررت بها لحظة بلحظة؛ ينسجم معها، ويلتحم بمشاعرها، فنلتقي كلانا في عالم إنساني مُؤطَّر بعواطف واحتياجات وهواجس مشتركة، وهذا مما يمد جسورًا من التواصل والمعرفة بيننا وإن لم نلتقِ في أرض الواقع.
لأن الإنسان دائمًا ما يكون مسكونًا بالأمكنة وخصائصها، فإن العوفية تسرد تلك المشاهدات اليومية وما ترسخ في الذهن عن “كندا”، بما في ذلك خصائص نظام التعليم والعيش والتنقل والترحال والتفاعل مع البشر وما حولهم، وتسافر مع الكلمة بحديثها وهي تروي قولها: كندا أو لنقل مدينة فانكوفر بالتحديد سكنَتْ أعماقي بتفاصيلها التي تباينت كتباين فصولها الأربعة، وتنوعت بتنوع أجناس البشر التي يسكنوها. وأنا سمحت لها بالتمكن مني – ربما بطريقة لا شعورية- من خلال تجوالي الكثيف مشيًا على الأقدام في كل شبر منها تقريبًا، بمحاذاة شواطئها تارة، وتحت ظلال أشجار غاباتها الكثيفة تارة أخرى، تظللني بحنوِّ سمائها المنهمرة بالمطر أغلب شهور السنة. هذا الالتحام الشغوف بالمكان وأهله وتفاصيله المتفرعة عرضتني للكثير من المواقف وساقت إليّ زمرة من الصدف والأفكار والأصدقاء، وقد حرصت في الكتاب أن أسرد كل تلك الحكايات بنهم عاشقٍ للمكان وسجاياه.
ثمة قراءات تتبَّعت ردود الأفعال التي أوجدها إصدار “مذكرات سال: عُمانية في أرض الهنود الحُمْر”، والانسجام بين القارئ وما جاء من سفر كتابي معرفي فيه، وهنا تشير إلى النقطتين معًا عندما تؤكد أن ردود الفعل كانت مفاجئة وتُثلج الصدر في مجملها. وتقول: سمعت كثيرًا عبارة “ما إن تبدأ الكتاب لا تستطيع تركه” وهذا أمر بلا شك أعطاني دفعة معنوية هائلة، الذي أسعدني فعلا هو أن انسجام القارئ مع سطور الكتاب جاء بأشكال متنوعة بتنوع فصول الكتاب. فهناك من وجده مرشدًا وموجهًا للمبتعثين، وهناك من وجده ملهمًا لخوض مغامرة فردية أو عائلية، وهناك من أستأنس بطرافة المواقف التي سردتها وتسامر مع غرابة الحكايات التي رويتها. الغريب المبهج أيضا هو تنوع شريحة القراء فهناك من أرسل لي صورة والده المسن وهو يقرأ الكتاب، وهناك من أهدى الكتاب لأخته اليافعة وهناك المثقف الذي أثنى على تفرد الكتاب.
بعد السفر مع سال، يبقى التوقف حاضرًا مع الكتابة ومفاهيم توحدها مع الكاتب، وهنا توضح سلامة العوفية علاقتها بالكتابة تلك، والبدايات التي أسست هي الأخرى نحو السير إلى التأليف، وتقول في السياق ذاته: رحلة الكتابة معي كانت دائمًا وما زالت مقرونة بالتخفف من حمل الذاكرة. لي شغف قديم بتدوين المذكرات وهذا لأن الذكريات هي عبء عقلي ونفسي مثقل بالمشاعر والتفاصيل والأفكار التي لابد -في اعتقادي- أن تجد طريقها للتفريغ بالكتابة أو غيرها من الأساليب. بدايتي الحقيقية مع التدوين كانت في رحلتي الأولى لأمريكا الشمالية وبالتحديد لولاية تكساس بالولايات المتحدة في عام ٢٠١٢؛ فقد كنت أدوّن بعضًا من يومياتي بأسلوب سردي بسيط أقرب للفكاهة منه للجد وأرسلها إلى الأهل والأحبة في عُمان عن طريق مجموعات الواتساب وأجد تفاعلًا شيقًا معها، وتطور الأمر قليلا في رحلتي الابتعاثية إلى كندا (بين عامي ٢٠١٥- ٢٠١٧) فقد أنشأت صفحة انستجرامية متاحة للعامة بعد عودتي إلى عُمان وصرت أنشر بعضًا من مذكراتي بطريقة أقرب إلى العشوائية وحسبما تجود به الذاكرة ويسمح به مزاجي العام. وهنا وجدتُ صدى رائعًا من المتابعين الذين لم أكن على معرفة شخصية بهم وهو الأمر الذي شجعني لتجميعها بطريقة منهجية بين ضفتي كتاب. وحول ما الجديد مع سلامة العوفية في شأن الكتابة تقول: الطريق مفتوح وجميع الخيارات مطروحة. المهم هو أن افتح حاسوبي في ليلة مظلمة هادئة وأستمع لإحدى معزوفات الكوري “إي روما” وأحلق!