بينما يعود الـ “punctum” الفيلمي في حالة ريي فيلم “في مكان منعزل” إلى الضحيَّة، فإنه ينتمي إلى الجاني الفعلي والضحايا المحتمَلين في فيلم “فتاة الحفلة” (1958). في هذا “الفيلم الأسود” أيضًا نجد كذلك أن “ميكانِزمات” التمثيل (representation) ضمن التمثيل (representation) تعمل في سياقٍ بارتيٍّ إلى حد كبير، وهنا أيضًا نجد أن تلك “الميكانِزمات” تتجسَّد في استخدام الصورة الفوتوغرافيَّة بوصفها “punctum” لكامل الفيلم؛ فَنحن نرى رِيكو أنجِلو المتغطرس (قام بدوره لي جي كاب Lee J. Cobb) للمرة الأولى وهو يطلق النار ثملًا، لكن بصورة ذات عزم وحسم واعٍ، على الصُّورة الفوتوغرافيَّة لِجين هارلو Jean Harlow التي كانت واحدة من أشهر الأيقونات الأيروسيَّة والجنسيَّة في مرحلة سينما هوليوود الكلاسيكية، وقد توفيت في عام 1931 عن ست وعشرين سنة؛ أي قبل واحد وعشرين عامًا من إنجاز فيلم “فتاة الحفلة” بكل ما يحتويه ذلك من احتمالات للمعنى. أما سبب جريمة القتل الرمزية هذه فهو أن الممثِّلة الراحلة كانت قد تزوجت (في الحياة الفعليَّة) من رجل غيره. لكن ما يهم هنا هو تعليق إحدى الراقصات بأن أنجلو لم يُقِم علاقة حب فعلية بالممثِّلة الراحلة، ولكنه يحرص على مشاهدة جميع الأفلام التي ظهرت فيها. بعبارة أخرى فإن كل ما تبقى منها هو الصُّورة، وأن أنجلو يشعر بعاطفة عارمة وهيام غامر نحو صورة، وأنه عندما فُقِدَ الأصل فإنه، ببساطة شديدة، يقوم بتحطيم “حقيقيَّةِ” وجود المرأة في عالمه بإطلاق النار على صورتها الفوتوغرافيَّة؛ وبهذا، كما أرى، لا تستطيع الصورة أن تكون “حقيقيَّةً” أكثر من ذلك (في الحقيقة، لقد أصبحت حقيقيَّةً أكثر من الأصل). وفي الوجه الآخر من العملة فإن فعل إطلاق النار على صورة فوتوغرافيَّة، وهو فعلٌ يتفصَّد شرّا وشناعة، إنما يبوح بصورة مكثَّفة بالحد المتطرِّف من الساديَّة والذُّهانيَّة المؤهَّل رجل العصابات القاسي للإتيان بهما بلا تأنيب من ضمير أو رفَّة من جفن. وهكذا فإن ذلك الـ”punctum” العنيف الذي تم تقديمه في مستهل الفيلم إنما يمهد الطريق لقافلة الدم الذي سيسيل في بقية الفيلم (ستكون لي عودة إلى فيلم “فتاة الحفلة” في مكان لاحق من هذا البحث).
وقبل أن أقول ما لديَّ قوله عن فيلم رْيْيْ “على أرضيَّة خَطِرَة” (1951) فإن عليَّ ـ في استطراد لن يطول كثيرًا ـ الاتفاق مع النَّاقد السِّينمائي فوستر هِرْش Foster Hirsch في قراءته لعناوين بعض أفلام رْيْيْ؛ فـ”الأرضيَّة الخَطِرَة” تنطبق في الوصف على المحيط المدينيِّ وعلى الظرف العاطفي والنفسي لشخصيَّة شرطي التَّحريَّات في الفيلم. والـ”مكان المنعزل” هو الانعزال الذي يعيش فيه كاتب السِّيناريوهات الهوليوودي نتيجة لسلوكه اللااجتماعي غير المُرَحَّب به في ذلك الوسط. كما أتَّفقُ أيضًا مع استياء هِرش من نهاية بعض أفلام رْيْيْ: “إن النهاية في فيلم “في مكان منعزل”، حيث الكاتب لا يُهدِّئ علاقته بالعالم ولا يتَّسق معه، [تبدو] مقبولة أكثر من نهاية فيلم “على أرضيَّة خَطِرَة” التي تقترح أن امرأة طيَّبة القلب وضريرة قد أنقذت شرطيّا؛ فهذا التَّصوُّر الوجداني يتعارض مع عالم “الفيلم الأسود” المحموم والمطمور فيه البطل”. وحقًا فإنه كان على الفيلم أن ينتهي بعودة الشُّرطي إلى المدينة (في نهاية مفتوحة) (1).
أود أن أعود الآن، إذًا، إلى فيلم ريي “على أرضيَّة خَطِرَة”؛ فالصّور الفوتوغرافيَّة توجد بكثرة هنا أيضًا، وهي صور فوتوغرافيَّة لمجرمين مطلوبين للعدالة نراها معلَّقة على جدران المكتب في مركز الشُّرطة، وكذلك بين يدي أحد أفراد الشُّرطة السِّريين الذي كان يستقل سيارة الُّشرطة. وإضافة إلى ذلك، تُرينا لقطة مقرَّبة (CU) بالكاميرا السينمائيَّة صورة فوتوغرافيَّة منشورة في صحيفة يوميَّة، وهي، في الحقيقة، صورة شخصية بِرني تَكَرْ (قام بالدور رِتشَرد إِرْفِن Richard Irving) التي يُعْثَرُ عليها لدى صديقته الحميمة؛ وبالتالي فإن الصُّورة الفوتوغرافيَّة تقوم هنا بغرضٍ منفعيٍّ مباشر كونها دليلًا جنائيَّا. لكني أعتقد أن ما هو ذو مغزى أكبر في هذا الفيلم ليس صورًا معيَّنة تشي بـ”التَّهديد” لمجرمينَ “يتهدَّدون”؛ بل انه لوحة معيَّنة معلَّقة على جدار غرفة المعيشة في بيت ميري مالدِن (قامت بالدور آيدا لوبينو Ida Lupino)، وهو لوحة تصوِّر مخزنًا تهتم به الكاميرا بصورة خاصة، حيث “تزومُ إليه” (zoom in) وتتفرَّس فيه عبر لقطة مقرَّبة جدًا (ECU). إننا نرى هذه اللوحة عبر تلك التقنية قبل اللحظة التي تُفشي لوبينو بمكان اختباء أخيها داني مالدِن (قام بالدور سَمْنَر وليمزSumner Williams) إلى الشُّرطي السرِّي جِم وِلْسُن (قام بالدور روبرت رايَن Robert Rayan). وبعد ذلك بوقت قصير يتضح أن ذلك المخزن، والذي يظهر في اللقطة، ليس إلا تمثيلاً (representation) دقيق التفاصيل للمخزن الحقيقي الذي يختبئ فيه داني، والذي سيهرب منه إلى مصير لن يكون سوى ملاقاة حتفه. والحقيقة أن سرد ريي يتنبأ بمصرع داني وذلك عبر سقوطه من على الشجرة في أثناء المطاردة الأولى في المدينة. وهكذا فإن سقوط داني من على الشجرة إنما يوازي اللوحة التي تُمثِّل (represents) المخزن، بينما سقوطه الثاني والمُمِيت في المطاردة النهائيَّة تُوازي المخزن الفعلي. وفي هذا سأحاجِج بأن التَّمثيل (representation) قد أسهم بدور محوري في التنبؤ بالموت ثم وقوعه؛ بل أني سأقول، بصورةٍ أدق، أن اللوحة التي تمثِّل (represents) المخزن إنما تقوم بوظيفة مضاعَفة؛ فهي “punctum” الفيلم من ناحية، ومن ناحية أخرى فهي تقوم بـ”الكشف البطيء” (slow disclosure) الذي ينظِّرُه ستيفان شارف Stefan Sharff، وذلك من حيث إن “الكشف البطيء يبدأ بصورةٍ ما تتبعها… صورة أخرى قريبة منها جغرافيَّا وتلقي الضوء على… معنى الصورة الأولى” (2).
—————
(1). أنظر: Foster Hirsch, Film Noir: The Dark Side of the Screen (New York: Da Capo Press, 1981), 194-95.
(2). Stefan Scharff, The Elements of Cinema: Toward a Theory of Cinesthetic Impact (New York: Columbia University Press, 1982), 119.