“نصف الحقيقة كذبة كاملة” أو “أسوأ كذبة هي نصف الحقيقة” هي اثنتان من أبلغ المقولات التاريخية التي قد تكون ما يتمثل عليه التضليل في بعض الأحيان حتى لو لم يكن القصد من ذلك هو التضليل؛ فحين يتم اجتزاء الحقيقة ووضعها في غير السياق الذي وردت فيه أصلا فإن ذلك قد يتسبب في إعطاء التصور الخاطئ أو الفهم غير الدقيق إلى الجمهور، وهي ذات النتيجة النهائية التي يسببها التضليل عموما. بالإضافة إلى ذلك – وباعتبار أبسط مفاهيم علم التواصل – فإن الوسط الناقل أو الوسيلة Medium عنصر أساسي بالنسبة للقائمين على حملات تضليل الرأي العام من أجل إنجاح حملاتهم. وبناء على ذلك كله فإنه يمكن التعرف إلى الدور الذي يمكن أن تؤديه وسائل التواصل والإعلام سواء في عمليات التضليل ذاتها نظرا لطبيعة عملها، أو في كونها إحدى الجبهات أو خطوط الدفاع ضمن منظومة مواجهة حملات تضليل الرأي العام التي تم الإشارة إليها في أوقات سابقة ضمن هذه المساحة.
قد لا يكون منطقيا أو عمليا بالنسبة لأية وسيلة إعلامية أو منصة للتواصل أن تكون ناقلا لمعلومات أو أخبار مضللة ما لم تكن جزءا من تلك الأجندة أصلا وبما يجسد التدافعات بين التيارات أو الجهات السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية أو الدينية وغيرها. وحيث أن ذلك قد لا ينطبق بالضرورة على واقع قطاع الإعلام محليا، فإن ما يمكن اعتباره في سياق الحديث عن دور وسائل التواصل والإعلام في ما يتعلق بحملات تضليل الرأي العام هو أن الأصل أن تكون تلك الوسائل جزءا من منظومة مواجهة حملات التضليل لا أن تكون جزءا من التضليل نفسه.ونتيجة لتلك الخلاصة فإن من المهم أن يتم تجهيز تلك الوسائل بما يمكنها من التحقق من المعلومات المنشورة واستقصاء الحقائق والاعتماد على البيانات الموثوقة من أجل التضييق على محاولات تضليل الرأي العام.
هنالك العديد من الأمثلة حول العالم التي تبين دور وسائل التواصل والإعلام في التحقق من الأخبار أو ما يصطلح على تسميته عالميا Fact Checking ومواجهة حملات التضليل Countering Disinformation. لا تزال حاضرة في الذاكرة التجربة التي استعرضتها شبكة يورونيوز التلفزيونية في المؤتمر الدولي للبث الإعلامي في أمستردام منذ ثلاث سنوات؛ حيث قام ممثلون عن الشبكة بالحديث عن منصة تم إطلاقها بمسمى (المكعب The Cube) والتي تضم فريقا متخصصا تم تفريغه بشكل كامل للتحقق من الأخبار والحقائق التي تتداولها وسائل التواصل والإعلام من ثم إعداد فقرة دورية ضمن نشرات الأخبار التلفزيونية للشبكة تركز على استعراض تلك الأخبار والحقائق ومدى صحتها مع وجود الأدلة العلمية والبيانات الموثوقة لذلك.
وقد كان ضمن الأمثلة التي استعرضتها الشبكة في المؤتمر رواية تم تداولها حول شخص مسلح قام بإطلاق النار على أشخاص مدنيين في مدينة ما وأنه اتخذ مسارا معينا في أوقات محددة في تنقله بين الأماكن التي استهدفها لإطلاق النار، وبعد ذلك بينت الشبكة كيف قام المختصون في منصة المكعب بتحليل تلك المعلومات وإسقاطها على خرائط المنطقة المذكورة في الخبر المتداول مع مقارنتها بالأوقات المستغرقة للتنقل بين تلك المواقع. وكانت ضمن الخلاصات التي توصل إليها المختصون هي أنه من المستحيل بالنسبة لشخص يسير على الأقدام أن يوجد في مواقع مختلفة في فترة زمنية قصيرة، بالإضافة إلى تمحيص بعض الجوانب الأخرى من حيث ساعات فتح وإغلاق المواقع المذكورة وطبيعة المسار بين تلك المواقع وغيرها من العناصر.
إن أبرز الدروس المستفادة من تجربة شبكة يورو نيوز الإخبارية هي أن التحقق من الأخبار والحقائق يمكن أن يتم باستخدام الأدوات والمنصات والتطبيقات المجانية المتاحة، كما أنه ليس بمستوى التعقيد الذي قد يُتَصَوَّر، أو أن يكون خارج نطاق قدرات العاملين في المؤسسات الإعلامية.
أما على مستوى المؤسسات الصحفية فإن أبرز الأمثلة التي يمكن الاستئناس بها صحيفة واشنطن بوست الأمريكية التي بدأت ممارسة التحقق من الأخبار والحقائق التصريحات منذ العام 2007 في خضم حملات انتخابات الرئاسة الأمريكية للعام 2008. وتخصص الصحيفة حاليا منصة خاصة ضمن موقعها الإلكتروني تحت مسمى (المتحقق Fact Checker) بحيث تدرج فيه الأخبار المضللة مع تحليلها وتمحيصها باستخدام البيانات الموثوقة والبحوث المستقلة، بالإضافة إلى إرفاق مؤشر لا يخلو من الطرافة يقيس مدى تضليل تلك الأخبار باستخدام أيقونة تجسد وجه الشخصية الكرتونية الشهيرة (بينوكيو) الذي يزداد طول أنفه عندما يكذب.
بالنسبة لوكالات الأنباء فلا يختلف الأمر كثيرا؛ فعلى سبيل المثال تقوم وكالة أسوشييتد برس للأنباء بشكل مستمر بالتحقق من الأخبار والمعلومات التي تلقى رواجا كبيرا عبر وسائل التواصل والإعلام ونشر نتائج ذلك التحقق عبر منصة مخصصة في موقع الوكالة الإلكتروني. ويعمل في ذراع التحقق التابع لوكالة أسوشييتد برس المسمى AP Fact Check ستة عشر صحفيا ومحررا ومختصا مفرغون بشكل كامل لذلك الغرض، كما تقوم المنصة التابعة للوكالة بنشر ملخصات أسبوعية للأخبار المضللة التي تم التحقق منها تحت مسمى “أخبار غير حقيقية: نظرة على ما لم يحدث هذا الأسبوع. بالإضافة لذلك تعمل وكالة أسوشييتد برس مع منصات عالمية مثل فيس بوك وتويتر من أجل التعاون لمواجهة الأخبار والمعلومات المضللة التي تلقى رواجا في تلك المنصات.
ويحدث أن تعمل وسائل الإعلام مجتمعة من أجل مواجهة حملات التضليل والتحقق من الأخبار والحقائق؛ حيث تعاونت مجموعة من وسائل الإعلام في الفلبين بالشراكة مع مؤسسات أكاديمية من أجل إطلاق منصة مشتركة مواكبة للانتخابات الرئاسية في الفلبين للتحقق مما قد يروجه المترشحون عن أنفسهم أو عن بعضهم من معلومات أو أخبار مضللة قد تؤثر على سير الانتخابات.
ومع تطور تقنيات التواصل وتنوع أساليب وأغراض التضليل تتعاظم المسؤولية التي تقع على عاتق وسائل الإعلام والتي بطبيعة الحال لا يمكنها أن تعمل بمعزل عن ما يمكن أن يتم على أرض الواقع من توفير للمعلومات والبيانات الموثوقة وتجاوب الجهات الرسمية في القضايا المتعلقة بها لتتكامل الجهود من أجل مواجهة التضليل.
*مهتم بالاتصالات الاستراتيجية والهوية المؤسسية