المصائب لا تأتي فرادى كما يقول المثل الشائع الذي ينسبه البعض إلى وليم شكسبير الذي قال “المصائب لا تأتي فرادى كالجواسيس، بل سرايا كالجيش”، فيما ينسبه البعض الآخر إلى المتنبي الذي قال “تأتي المكاره حين تأتي جملة… وأرى السرور يجيء في الفلتات”، وقال أيضا “مصائب شتى جمعت في مصيبة… ولم يكفها حتى قفتها مصائب”.
هذا المثل أو القول الشائع، أيا كان قائله، يصدق الآن وإلى حد كبير على تركيا، التي كانت حتى أسبوع مضى تواجه أزمتين كبيرتين- إن صح التعبير- هما الأزمة الاقتصادية، وازدياد أعداد المصابين بفيروس كورونا، وشاء الله أن تلحقهما أزمة ثالثة هي موجة حرائق الغابات التي اجتاحت معظم المناطق الساحلية الجنوبية، والتي بدأت في الثامن والعشرين من يوليو الفائت، ويتراوح عددها مابين 150 و 170 حريقا وفقا لتقديرات مختلفة، وشملت من 32 إلى 39 محافظة، وتركز معظمها في موغلا وأنطاليا، وأدت إلى وفيات وحرق مئات الأميال من الغابات وتدمير الأراضي الزراعية وعشرات المنازل.
ورغم أن حرائق الغابات تصنف عالميا باعتبارها كوارث طبيعية ناتجة عن تغير المناخ والاحتباس الحراري، فإن تقارير عديدة تربط حرائق غابات تركيا بجماعة إرهابية أطلقت على نفسها اسم “مبادرة أطفال من أجل الحرائق”، تابعة لحزب العمال الكردستاني المحظور في إطار الانتقام من الدولة التركية. ولعل هذا ما دفع الرئيس أردوغان إلى القول “إذا مزقتم قلوبنا.. أقسم إننا سنمزق قلوبكم، إذا ثبت أن لكم يدا في الأمر”.
لم تكن تركيا وحدها التي تواجه هذه الكارثة، إذ تسببت الموجة شديدة الحرارة والتقلبات المناخية في أوروبا وأمريكا الشمالية، إلى اندلاع حرائق الغابات في دول كثيرة منها روسيا إيطاليا واليونان وكندا والولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة إلى الفيضانات في ألمانيا وبلجيكا. ومع ذلك فقد كانت تركيا وحدها تقريبا التي شهدت تحول الحوار والجدل والنقاش حول هذه الحرائق وجهود مكافحتها من كونها كارثة طبيعية إلى قضية سياسية وحزبية بامتياز. فقد سارع معارضو الرئيس رجب طيب أردوغان وحكومة حزب العدالة والتنمية إلى استغلال هذه الكارثة، وتوظيفها في الصراع السياسي مع أردوغان وحزبه الذي تعرض لهجوم منسق من جانب خصومه بسبب ما اعتبروه فشلا في التعامل مع أسوأ حرائق للغابات في تركيا منذ عقود، بالإضافة إلى إعادة إنتاج الاتهامات السابقة والمستمرة للحكومة بالفساد وسوء الإدارة والمسؤولية عن تفاقم المشاكل الاقتصادية في البلاد وأزمة جائحة كورونا، على أمل أن تسهم في إسقاط الرئيس أردوغان الذى يواجه اختبارا انتخابيا صعبا في غضون عامين، ويخشى على شعبيته من التدهور نتيجة الأزمات المتلاحقة والتي لم تعد تأتي فرادي.
وقد أصبحت منصات التواصل الاجتماعي ساحة هذا الصراع الرئيسية، إذ يستخدمها الطرفان المعارض والمؤيد للحكومة. فقد شن المعارضون والأنصار حملات منسقة على وسائل التواصل الاجتماعي. ويتركز خطاب المعارضة على الهجوم على الحكومة لفشلها في مكافحة الحرائق، فيما يتركز خطاب الحكومة ومؤيدوها على اتهام المعارضين بأنهم يحاولون تقويض سلطة الدولة والإساءة لسمعتها.
وقد انطلقت حملة المعارضين على مواقع التواصل الاجتماعي في ساعة مبكرة من صباح الاثنين قبل الفائت، وفور ورود أنباء عن اشتعال الحرائق، وذلك عبر وسم “هاشتاج” ساعدوا تركيا، وخلال ساعات قليلة بلغ عدد التغريدات عليه نحو 2.5 مليون تغريدة. وانضم مشاهير معروفون إلى “الهاشتاج”، مطالبين بتقديم مساعدة دولية لتركيا في مكافحة الحرائق. وقد ثبت أن الوسم كان في إطار حملة تأثير منسقة، بعد أن كشف خبراء في شبكات التواصل الاجتماعي أن عددا كبيرا من الحسابات التي غردت عليه قد حُذفت أو غيرت أسماءها أو حذفت تغريداتها، كما أن بعضها كانت عبارة عن هويات زائفة، وكلها أساليب تم استخدامها من قبل في الحملات السياسية للتلاعب في حركة المرور على المنصات الاجتماعية.
وقد بدأ مكتب المدعي العام في أنقرة تحقيقًا في الرسائل التي تم نشرها على وسائل التواصل الاجتماعي تحت الوسم بزعم أنها تشكل جريمة وأعلن المكتب أنه “تم الكشف عن وجود بعض الأشخاص والجماعات، قاموا بطريقة منظمة عبر حسابات حقيقية أو زائفة بمحاولة إثارة القلق والخوف والذعر في المجتمع، وإضعاف دولة وحكومة جمهورية تركيا”.
وقد جاء رد الحكومة التركية وأنصارها سريعا ومباشرا عبر إدارة حملات تأثير على نفس المنصات، وأطلقت وسم نحن لا نحتاج مساعدة، للرد على حملة تركيا تحتاج للمساعدة، للتأكيد على قدرتها على التعامل مع أزمة الحرائق دون مساعدة أجنبية، بالإضافة إلى وسم تركيا قوية. ولعل هذا ما دفع مدير الاتصالات في الرئاسة التركية، فخر الدين ألتون إلى اتهام المعارضة باستخدام حملة المساعدة على مواقع التواصل الاجتماعي لتحقيق أهداف سياسية، وقال في بيان رسمي: “إن ما يسمى بحملة مساعدة تركيا قد نُظمت في الخارج ومن مركز واحد، ولها دوافع أيديولوجية وسياسية وتهدف إلى تصوير تركيا على أنها لا حول لها ولا قوة، وإضعاف وحدة الدولة والأمة، مؤكدا أن “غالبية المعلومات المتداولة حاليًا على منصات التواصل الاجتماعي، ومجموعات الرسائل الفورية والمنتديات، هي أخبار مزيفة”. وأعلن وزير الزراعة والغابات السبت الماضي على حسابه على شبكة تويتر أنه تم احتواء 209 حرائق في 47 محافظة في الأيام العشرة الأخيرة، مؤكدا تواصل الجهود للسيطرة على ما تبقى من الحرائق.
وقد واكبت الحملات على منصات التواصل حملات أشد ضراوة على الساحة السياسية التي تعج بالمعارضين الحالمين بالإطاحة بأردوغان، والمدافعين عنه. فمع استمرار الصراع على المنصات الاجتماعية الذي بلغ حد المطالبة برحيل أردوغان، سارع كمال كيليجدار أوغلو رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض، إلى اتهام أردوغان بالفشل في وضع خطة جيدة لمكافحة حرائق الغابات، كما اتهم الحكومة بعدم الكفاءة، وأنها لم تستعد لمواجهة الأزمات المتعلقة بتغير المناخ.
وانتقد أغوغلو خطاب الحكومة عن منتقديها واعتبارهم مناهضين للدولة وإرهابيين.في المقابل وعد الرئيس أردوغان بتقديم المساعدة لضحايا الحرائق وسافر خلال عطلة نهاية الأسبوع إلى واحدة من أكثر المناطق تضررا، وتعهد بالبدء على الفور في إعادة بناء المنازل والحظائر خلال شهر واحد.
وانضم حلفاء أردوغان إلى المعركة ووصفوا طلب المساعدة من الخارج بأنه مؤامرة خبيثة ضد الحكومة. فقد وصفت دولت بهجلي، زعيمة حزب الحركة القومية اليميني والحليف السياسي لأردوغان، المعارضة بـ “الانتهازيين الذين يستخدمون حرائق الغابات لتحقيق مكاسب سياسية”. أما الكاتبة هلال كابلان، المعروفة بموقفها القوي المؤيد للحكومة، فقد حذرت في مقال لها بصحيفة الصباح من استغلال حرائق الغابات للقيام بانقلاب آخر ضد حكومة أردوغان.
وقالت إن الحملة على وسائل التواصل الاجتماعي ضد الحكومة ذكرتها بالفترة في 2013 عندما سيطرت الاحتجاجات الشعبية على ساحة تقسيم المركزية في إسطنبول، ومحاولة الانقلاب. في 15 يوليو 2016 الذي كانت نفس الكاتبة قد حذرت منه قبل أربعة أشهر من وقوعه. بين المعارضين الذين يريدون توظيف أزمة حرائق الغابات سياسيا وبين المؤيدين الذين يصفون المعارضين بأنهم أعداء الدولة تقف منصات التواصل الاجتماعي لتكون ساحة للجدل والحوار، وهو أمر إيجابي يحسب لهذه المنصات، ولكنه في الوقت نفسه يمكن أن يكون مدمرا، خاصة إذا كان مدفوعا بأجندات سياسية تضع المصلحة الحزبية الضيقة فوق المصلحة الوطنية العليا. ولعل هذا ما يدعونا إلى المطالبة بوضع ضوابط لاستخدام المنصات الاجتماعية في أوقات الأزمات والكوارث تضمن عدم توظيفها لتحقيق أهداف سياسية ضيقة على حساب الأمم والشعوب.