نتحدث كثيرًا عن الإحسان، وعن الأذى، وعن رد الجميل ونكرانه، وربما قد يحز في قلوبنا عندما لا نقابل الإحسان بالإحسان، والجميل برد الجميل، ونحزن أكثر، عندما يكون الأذى هو مقابل الجميل، فهذه فطرة بشرية، وربما قد يتغاضى البعض عن رد الجميل، ولكن لا يكون له الموقف نفسه عندما يتقدم الأذى في هذا الرد، ذلك لأن الأذى وقعه ثقيل، وتأثيره على النفس أثقل، فجراحه دامية، وليس يسيرًا أن تندمل في وقت قصير، حيث يقتطع لنسيانه الكثير من أعمارنا.
يحل المفهومان: الإحسان والأذى؛ كأول محطة إنسانية في حياتنا منذ نشأتها الأولى، حيث الحضن الدافئ لوالدينا، فبقدر إحسانهما علينا تلك الحمولة المخضبة بالود، والرضا، والتضحيات، نكون؛ نحن في المقابل، أقرب إلى الأذى منه إلى الإحسان في مجمل تصرفاتنا تجاههما، هذا بخلاف مجموعة العقوق التي نمارسها عليهما إذا بلغا من العمر عتيًا، فتأسيس الأذى مقابل الإحسان يبدأ منذ المراحل الأولى في حياة الإنسان، وكأنها نداء مبطن للفطرة الإنسانية منذ هذه المراحل الأولى في حياة كل منا، والمحظوظ من يستطيع أن ينتبه لنفسه، ويتخطى هذه العقبة الكأداء، فبتخطيه لذلك قد يستطيع أن يعيش حالة من التوازن النسبي في تعامله مع ثيمتي: الإحسان والأذى، وهذا التوازن يوجد فيه القدرة على ترويضهما في التوظيف دون أن يطغى أحدهما على الآخر في مسار التبادل بينه وبين الآخرين من حوله؛ لأنه إذا كان الإحسان حالة إيجابية تحظى بالقبول المطلق من قبل الآخرين، فإن هذا الإحسان المبالغ في إهدائه للآخر، إلى حد التفريط، قد يفقد قيمته المعنوية، ويصبح وبالًا على صاحبه، فيصبح عناوين للتندر والتهكم، والابتذال، وقد يحل الأذى كأنه عونًا لاستقامة الحياة، وقد يشاد بصاحبه، وينظر إليه على أنه المخلص لأشياء كثيرة، كأن الناس يستمرئونها في صور من الانتهازية، والاستخفاف بالنظم والقوانين، والأعراف، والسير على أكتاف الآخرين، والدوس على مصالح الآخرين، فهذه كلها صور مؤذية، ولكن هناك من يسلكها، ظنًا منه لمساعدة الآخرين، والآخرون في المقابل يرون ذلك أحسانًا؛ لأنه يتفق مع مصالحهم الخاصة.
يصبح من النادر جدًا، أن تجالس شخصًا ما، وتتبادل معه الحديث دون أن يأخذ أحدكما الآخر في مظان السوء والإخفاقات في مجمل السلوكيات المتبادلة مع آخرين، تركوا أثرًا سيئًا على صفحة الذاكرة المملوءة بالكثير من “خربشات” المعاملات اليومية؛ سيؤها وحسنها على حد سواء، ولكن لأن السيئة وقعها ثقيل على الذاكرة، تبقى هي المتصدرة للمشهد المأساوي في حياة الناس بشكل عام، وتنزوي الحسنات خجلًا فهي المغلوب على أمرها دائمًا كما يبدو؛ في معظم الثقافات التي تنظم حياة البشر اليومية، وعلى امتداد العمر تكثر الجراحات، والتصدعات النفسية، فتلبس الأنفس رداءً سوداويًا؛ يكاد يغلف مجمل الصور الحسنة المضيئة على امتداد خط التعامل بين الناس، وهذه مسألة مهمة، وتجاوزها من قبل الناس ليس سهلًا، لعمق الجراحات التي تتركها مجموعة صور الأذى.
الله سبحانه وتعالى يقول: (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) – الآية (60) من سورة الرحمن – إلا أن هذا الإحسان يمتحن كثيرًا أمام الأذى، فيحاول الناس؛ إمعانًا؛ في ذلل الآخر أن يغلبوا صورة الأذى على الإحسان، وذلك كله لأجل تبرير مواقفهم أمام الآخر، وتقوية حجتهم للنيل من الطرف الآخر، وهذا ما يؤسف له حقًا؛ لأنه بقدر تضخيمنا لمواقف الأذى التي تصدر من الآخر، مقصودة أو غير مقصودة، يقوي قناعاتنا بأن الطرف الآخر يظل طوال حياته سيئًا، وكل أفعاله ونواياه سيئة، وهذا غير صحيح، فالإنسان يعيش حالة من التغير والتبدل لظروف يمر بها؛ وقد تكون قاسيةً؛ ومع ذلك لا يلبث أن يعود إلى توازنه في أقرب فرصة، فهو إن أخطأ مرة، يصيب في الأخرى، وبذلك هو يحافظ على توازنه، حيث “لا إفراط ولا تفريط” وإن شذت حالة عن ذلك، فذلك أمر مرده إلى ذات الحالة فقط، ولا يمكن تعميمه على الجميع كسلوك إنساني ثابت أو مطلق.
يقر أكثرنا أن الكمال ليس من طبيعة البشر، ولذلك ينظر إلى الشيء ونقيضه على أنه امتداد لهذا النقص الذي تعاني منه البشرية في مختلف سلوكياتها اليومية، وانطلاقًا من هذه القناعة، فبقدر الإحسان الموجود عندنا؛ ففي المقابل هناك أذى لا ننكره ينطلق منا؛ على صورة تصرف، على صورة كلمة، على صورة موقف غير محايد، على صورة تبرير للإفلات من العقاب، على صورة مؤازرة ضد حق، على صورة تخلي عن واجب، المهم أننا أيضًا موسومون باعتناق الأذى، كما هو الحال موسومون باعتناق الإحسان، ولكن ننبذ الأذى ولا نقره لا من أنفسنا، ولا على أنفسنا؛ لأنه أذى له تداعيات خطيرة، ومؤذية للآخر، ومن ابتلي به عليه أن يراجع نفسه، ويقلع عنه في أقرب فرصة، ولا يسعى أبدًا إلى تنميته، أو تبنيه، بخلاف الإحسان الذي تدعو إليه كل الشرائع، وكل المثل لأن يبقى ويتمدد، وينمو، حيث المرحب به دائما، يقول أحدهم: “أخطاؤنا جزء من إنسانيتنا والتزام البعض بمظهر المثالية ليس إلا تمثيل متقن، فالكمال ليس من طبيعة البشر”. وهذه حقيقة وجودية معبرة عن ماهية الإنسانية وتجردها.
تحل صورة الجمل كأقرب مثال في هذا السياق؛ وفق مقولة: “إن طاح الجمل؛ كثرت سكاكينه” وإن كان هناك مبرر لقتل الجمل للاستفادة من لحمه وشحمه، إلا أن هذا الجمل كان في يوم من الأيام يحملنا ويحمل أمتعتنا من مكان نواجه فيه مشقة، إلى مكان آخر ربما أكثر مشقة، فوق ألفته الرائعة طوال مسارات هذه الدروب التي نقطعها ذهابًا وإيابًا، وكثرة السكاكين ليست محصورة في علاقاتنا مع الجمل، وإنما كثيرًا ما تسن شفراتها في علاقتنا مع بعضنا البعض، ومع الكثير مما حولنا، فطموحاتنا غير المحدودة لا نرى في سبيل تحقيقها إلا من خلال سن شفرات ألسنتنا، وخياناتنا، وسوء تصرفاتنا، وإنكارنا لكثير من الإحسان الدائم بيننا، وفي تعنتنا لآرائنا، وفي انتصاراتنا لذواتنا، وفي الـ”وشوشات” التي نتبادلها مع الآخر عن الآخر، وهي التي نرهف لها السمع من قبل الآخر، وفي سلوكنا للدروب الضيقة، وفي تجاوز الكثير مما يمكن أن يحد من خطواتنا نحو ما نريد، ولا يهم في سبيل تحقيق ذلك ما من شأنه أن يضر بالآخر، وأن يوقع الآخر، وأن يقصي الآخر، وأن يعكر صفو حياة أناس آخرين ليس لهم ذنب؛ سوى أنهم يتقاسمون معنا حياتنا، وفي المقابل ننسى أن هذا الآخر قد ينزلنا نفس المنزلة.
من جميل ما قرأت النص التالي: “الناس مستعدون للرد على الأذى أكثر من استعدادهم لمكافأة الإحسان” مع أن الإحسان في متناول اليد، ويمكن رده بكل سهولة بينما في المقابل يصعب رد الأذى؛ لأن تكلفة رده كبيرة، وثقيلة، وفيها مخاطرة، وقد يصاحبها دفع ثمن باهظ، ومع ذلك فهناك من الناس – بوحي الفطرة – ينتصرون إلى رد الأذى، ويرون في رده انتصارًا للذات، وتحقيقًا للشخصية المهابة، ومخرجًا من كثير ما يعاب على الشخص، الذي لم ينتصر لهذه النداءات النفسية كلها، مع أن المدقق في هذه العلاقة التبادلية من مختلف الأطراف يجد أن الإحسان أقدم في تسجيل الحضور، فالولد -على سبيل المثال- لا يمكن أن يتلقى الأذى من والديه منذ النشأة الأولى، حيث يحيطانه بالرعاية والعناية والتضحية عبر صور لا يمكن مقارنتها، لكن هذا الولد يمكن أن “يهدي” والديه أو أحدهما. فمن الأذى لمجرد موقف صادم بسيط وفي لحظة ضعف تمتحن فيها الإرادة، وكان بإمكان هذا الولد العاق أن يستحضر مجموعة الصور المخضبة بالإحسان والتضحيات والرعاية والعناية، ويسحب أذاه في أسرع وقت ممكن، ولكن هذا -في بعض المواقف- لا يحدث لتحقق الحكم: “أكثر الناس لا يشكرون” و”أكثر الناس لا يؤمنون” و”أكثرهم فاسقون” وقس على ذلك أمثلة كثيرة.