غياب مراكز الدراسات الإستراتيجية في السلطنة، لا يُعطي الحكومة فكراً مُتميزاً ومتخصصاً، فيما ستظل تقرر وتنفذ بمفردها دون مُعين لها، فهي لا تعطي لمجلس عُمان الدور الملزم، إلاّ إذا تشابكت عليها الأمور، وأرادت من يساعدها في النزول من على الشجرة، فلم يظل هناك إلاّ بعض المقالات، والتغريدات في وسائل التواصل الاجتماعي، أو الآراء التي تبث من خلال القنوات الإعلامية الخاصة، وهذه الوسائل غير كافية إلا بما يساوي 1% مما ستُقدمه الدراسات المتخصصة، وهذه الوسائل في الغالب تعطي آراء عامة وغير متخصصة.
لكنها قد تؤشر إلى وجود بعض الإشكالات في مواضع مختلفة من مرافق الدولة، ومع ذلك يظل احتمال الأخذ بشيء منها أمر ضعيف، فهناك من لا يقبل الأفكار والآراء التي لم يكن منشؤها فكر المسؤول المعني بالأمر نفسه، وهذه معضلة ما زالت قائمة، وذلك من أيام الحكومات السابقة واللاحقة وإلى ما شاء الله.
لقد آن الأوان؛ أن تلتفت الحكومة إلى موضوع إنشاء مراكز للدراسات الاستراتيجية الوطنية، وذلك بترخيص ودعم منها، فهناك عقول مكتنزة بالفكر والتجارب والخبرات الطويلة والمتنوعة من جموع المُتقاعدين، وخاصة كبار القادة العسكريين والأمنيين، وكبار المسؤولين السابقين في الدولة، وأولئك هم عماد الدولة فيما مضى من السنين، فإنَّ المتقاعدين اليوم يمثلون 30% تقريباً من مجموع السكان، وهم من أوجدوا هذا الحاضر الماثل أمامنا، بقيادة ذلك القائد الفذ العظيم المغفور له بإذن لله تعالى السلطان قابوس- طيب الله ثراه- إذن؛ فمن باب أولى ألا نتخلى عن هذه الخبرات، وذلك الإرث المادي والفكري والمختزن في عقول هؤلاء الرجال، وليس بين جنبات الكُتُب وحدها.
إنَّ من دواعي هذه المقدمة، الطلب إلى الحكومة الحالية، أن تعيد النظر في بعض الإشكالات التي تجذرت ولم تحل، بدمج بعض الوزارات، منها على سبيل المثال؛ إشكالات وزارة القوى العاملة ووزارة الخدمة المدنية اللتين دمجتا معاً في وزارة العمل؛ حيث إننا كمواطنين نراها قد استحكمت مشكلاتها اليوم، وتعقدت أكثر عن ذي قبل، فكأنها تعجن في بطحاء، وقد حمِّلت حملاً ثقيلاً أوهن كاهلها حتى وإن لم يقرن بذلك، وهي لا تزال في المهد من عمر الرؤية المستقبلية 2040 فأصبح كل طرٍ يجرها نحوه، فالشق الحكومي والباحثون عن عمل يريدون أن يستأثروا بها لوحدهم، والطر التجاري والعمالي يريد أن يستقل بها لنفسه، وعليه أقترح الآتي:
أولًا: أن تتولى وزارة العمل إدارة القوى العاملة الوطنية وحسب، أكان ذلك بالوظائف العامة في الحكومة، والمساعدة على التشغيل في القطاع الخاص، ووضع معايير للحقوق والواجبات، ورعايتها بما يلزم الطرفين ويحقق المصلحة العامة للدولة والمجتمع، وإيجاد وسائل للتشغيل في مختلف النواحي والأنشطة في كافة أرجاء الوطن، والتخطيط الإستراتيجي لإدارة الموارد البشرية الوطنية، فيما يخص التأهيل والتشغيل والترقيات، وتحديد الدرجات والرواتب والمعاشات، والإشراف على جودة الإنتاج ووضع المعايير الضابطة له، وتقييم المسارات المستقبلية للوظيفة العامة، والتنقلات بين المؤسسات الحكومية، وتخطيط التقاعدات والإحلال، وتحديد العدد المراد تشغيله سنوياً، وعقود الخدمة المؤقتة، والإعارات الخارجية، وتنسيق ورعاية شؤون العاملين في الغربة.
ثانيًا: قسم إدارة العمَالة الوافدة “العمّال” يفصل عن هذه الوزارة، ويلحق بوزارة التجارة والصناعة وترويج الاستثمار، ما عدا القسم الذي يخص المنطقة الاقتصادية الخاصة في الدقم، فتتولاه هيئة الدقم بنفسها. ويوضع نظام خاص بإدارة العمالة الوافدة، ونسبها وتناسبها مع الحاجة المُلحة لها، وأن تستحدث عقود فردية بين أرباب العمل والعمال، وعلى الطرفين عدم الإخلال بالعقود، وأي خلاف ينشأ يُحال للمحاكم العمالية، التي يجب أن تستحدث للبت في الخلافات العمالية. وطبعاً يكون للمستثمرين قواعد خاصة بهم، وذلك من خلال عقود تبرم مع هذه الوزارة المعنية، أو الهيئات الاقتصادية في البلاد، وغيرهما من الجهات الأخرى، وعلى وزارة التجارة والصناعة وترويج الاستثمار أن تقوم بتخصيص رسوم مناسبة (تروج ولا تروع) كما هو الحال اليوم.
ثالثًا: العمَالة المنزلية والمكتبية “الخدم ووظائف الخدمة العامة” تعطي مسؤوليتها مباشرة إلى شرطة عُمان السلطانية “إدارة الجوازات والإقامة” وفق شروط يتفق عليها، وبالنسبة لخادمات المنازل، يوضع لهن نظام موحد، يتم الاتفاق عليه بين وزارة الخارجية، وشرطة عمان السلطانية، وسفارات الدول الأكثر تصديراً لهذه العمالة، ولا يسمح بعد ذلك للسفارات أن تتدخل مُباشرة في موضوع العمَالة، حتى لا يسمح بابتزاز الكفيل أكان مواطنا أو مقيما، وتكون هناك عقود شخصية بين العَاملات وأرباب العَمل، ويتم الفصل في الخلافات العمالية من قبل المحاكم العمالية العُمانية المتخصصة.
إنَّ الوضع الاقتصادي الذي وصلت إليه السلطنة، يوجِب السعي إلى حله بالسرعة المناسبة، وبتضافر جهود الجميع، وخاصة مجلس عُمان، ذلك بما يملك من مختصين، وبما هو مؤهل له من خلال التشريعات والاختصاصات القانونية، وبما يوجّب عليه الوطن والمواطنين من خدمة، وإن الإبطاء في حل مثل هذه المعضلات المتسارعة، لا يكون بالانتظار وتسويف الوقت، فعلى سبيل المثال، ما حاجتنا اليوم إلى رفع رسوم تجديد الإقامات من وزارة العمل، أو تصاريح استقدام العمالة من الخارج، وذلك في ظل أزمة اقتصادية خانقة، ولماذا لا نستفيد من تجارب الآخرين في مثل هذه الحالات؟ فهذه المملكة العربية السعودية رفعت الرسوم، لكنها اليوم تتراجع عن قرارها؛ لأنها وجدت فيه خطأ بالتجربة، وهكذا تفعل الدول المُتقدمة، فإنها تتفاعل مع العرض والطلب، فكلما ضعف الاقتصاد، خُفّضت الرسوم والضرائب، وحتى الفوائد البنكية، إلا عندنا في عُمان يعرفون الكر وحده، وليس فقط رسوم العمالة وحدها، وإنما هناك اشتعال نار الرسوم في كل جهة، وعلى رأسها الكهرباء والماء والهاتف، وكأن عُمان تماثل اقتصادات ألمانيا وسويسرا واليابان.
إنَّ عشمنا أن تلبي الرؤية المستقبلية “عُمان 2040″، طموحنا في الرقي بعُمان، لا أن نكبلها بالرسوم الطاغية التي تنفر المواطن قبل المُستثمر من هذا الوطن، وأملنا الكبير أن تتاح الفرص للعمل دون عقد ونكد، وتخفيف الروتين إن لم يمكن في التغلب، والحد من المنغصات المتوارثة، نتيجة لعقم التفكير، فنرجو أن نرى انطلاقة اقتصادية شاملة، وتغطي كل النواحي وشتى المجالات، لنثلج بها صدر جلالة السلطان الأمين هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- والشعب العُماني الأبيّ، وأن ندفع بكل السبل حتى تكون النهضة حقاً متجددة ومستمرة.. هذا والله من وراء القصد.
حمد بن سالم العلوي