كتب : عبدالعزيز الكيومي
الأحد، ٩ديسمبر ٢٠١٨
المسير الجبلي (الحاجر وبلد سيت بولاية الرستاق-جبل الشرف-مسفاة العبريين بولاية الحمراء):
رسالة “وتسأب” من أبي سلطان مضمونها “حان وقت مغامرة شيقة في ممر جبلي جديد” كانت كفيلة بأن توقد في صدري نار الحماس لعلمي بجمالية المكان الذي سنقصده.
إلتقيت في ولاية الرستاق بالصديق الطيب سيف البلوشي وهو معلم في مدرسة هاط وشغوف بتسلق الجبال والمشي في الممرات الجبلية.
انطلقنا بسيارةٍ ذات دفعٍ رباعي متجهين إلى قرية هاط، ولم يكن درب السيارات الوعر بوادي بني عوف من بلدة “الطيخة” إلى بلدة “هاط” بالدرب الجديد عليَّ فقد قطعته في السنة الماضية ووصفته كذلك في تقريري عن مغامرة (هاط-الشرف)، ولكن الفرق هو أنه أصبح أكثر وعورة بعد الأمطار السابقة.
بعد الوصول للقرية دخل سيف للمبيت في سكن المعلمين وأنا كعادتي فرشت حقيبة النوم خاصتي “سليب باغ” في “قرنة” تضمن لي شمّ هواء البلدة الخالي من شوائب ملوثات المدن، وكذلك لأتمعن وضوح النجوم وكأنني أراها على شاشة سينمائية متطورة.
حرصت على الصلاة في مسجد القرية الجديد، وأثار اعجابي كبار السن كيف أنهم بكامل قواهم حتى أن خطاهم تدل على مرونة وقوة عضلاتهم نتيجة حركتهم في الجبال لرعي أغنامهم.
بدأنا المسير في السابعة والربع صباحا من الحاجر (بلدة صغيرة تتوسط الطريق بين قرية “هاط” وقرية “بلد سيت” وتتبع قبيلة الذهول)، فدخلنا مجرى وادٍ بين شقين عظيمين يخرجانك مباشرة إلى قرية بلد سيت وهي أجمل قرية عمانية رأتها عيناي إلى الآن، ولا أبالغ في ذلك.
قرية بلد سيت قرية زراعية، وسياحية، وذات مُناخ متوسطي، تحاكي شكل طائر حُر يحلق بجناحيه بإتجاه الشمال، والجناحان هما المساحات الخضراء المزروعة بأشجار النخيل، والرمان، والعنب، والبصل، والثوم، والقت، وأما جسد الطائر فهي منازل ومباني تكونان قرية وادعة غاية في الجمال.
تبادت لنا مزارع القرية ومن فرط كرم أهلها، كان الفلاحون يخرجون لنا من بين مزروعاتهم يلقون علينا التحية ويطلبون منا أن نقاسمهم افطارهم وأننا سنُدخل السرور على قلوبهم لو لبينا الدعوة ولكننا كنا نعتذر لهم بلباقة مع اصرار على مواصلة الطريق.
الجدير بالذكر أن معظم الطرق التي تخترق القرية ومزارعها كانت مرصوفة بممرات صخرية غاية في الاتقان وقد اهتمت وزارة السياحة ببعض التفاصيل في تنظيمها لأنها مقصد للسياح الألمان والأوربيين بشكل عام، لذلك اخذنا جولة فيها قبل أن نبدأ في صعود جبل الشرف وهو أحد الجبال الشاهقة من جبال الحجر العماني.
ولجهلنا بالطريق الذي نسلكه كنا نتتبع علامات فسفورية خضراء لسباق مارثوني عالمي والمعلومة التي لدينا أن هذا السباق كانت آخر مراحله هي الدرب من بلد سيت إلى مسفاة العبريين.
كانت جاذبية جمال بلد سيت تفتن أنظارنا كلما ارتقينا صعودا، فكنا نلتقط الصور التذكارية، ويطرب آذاننا صياح الديكة، وغثاء الأغنام، وأصوات محاريث الفلاحين فنتغزل في موسيقى الطبيعية بما جاد لدينا من كلمات، حتى أننا غفلنا عن الوقت واستهلاكه!،
اكملنا مشوارنا وكلما ارتفعنا، زادت كثافة أشجار البوت، والعلعلان، والعتم، وتنتشر كذلك الأعشاب المطرية بعد أن أنعم الله على هذه البقعة بأمطار متتابعة، وقبيل القمة تهادى لمسامعنا أذان الجمعة من بلد سيت وما هي إلا دقائق وأذان الظهر يصدح من هاط…يا الله، كم هو موقف يبعث في قلوبنا الطمأنينة والسعادة، ويذكرنا بعظمة الخالق فكنا نكبر ونشهد بوحدانيته.
في هذه الأثناء لفت انتباهي سيف عندما قال: دائما اسمع أذان الحاج خميس الهطالي وهذا أعذب أذان اسمعه منه، وكنت متفهما لهذا الشعور فهو يحب هاط كثيرا.
استأنفنا السير وتطابق رأيي مع رأي سيف على أن طريق صعود جبل الشرف من بلد سيت أجمل من “غور الطريق” الذي سلكناه في المرة الفائتة، فزواياه أجمل فهي تتيح لنا أن نرى قرى وادي السحتن، ووادي بني عوف بوضوح أكبر، ولعل نقاء الجو في هذا اليوم ساعد على ذلك.
وصلنا القمة وبعد استراحة تخللها التقاط الصور، أكملنا تتبع العلامات الفسفورية بإتجاه الغرب على حافة الجبل وكنا في غاية السعادة فعن يميننا قرى ولاية الرستاق، وعن يسارنا ولايات الحمراء، وبهلا، ونزوى.
مشينا بجدية اكثر من السابق لساعة ونصف ثم ارتقينا على سن جبلي إلتفّ بنا الطريق بإتجاه الشمال الغربي نزولاً فأثار ذلك استغرابنا وقررنا مراجعة المسار !
وبعد تكشف واستدلال اتضح لنا أن لو واصلنا في هذا المسار سنهبط إلى قرية صلماء بين وادي بني عوف ووادي السحتن، وللتأكيد اتصل سيف بمدير مدرسته أ.عبدالله الذهلي فهو ابن قرية بلد سيت ويعرف ما في أمام هذه الجبال وما خلفها وأكد لنا أننا سلكنا مسلكًا أبعدنا كثيرا عن مسارنا الصحيح وأن العلامات الفسفورية للسباق لا تؤدي إلى مسفاة العبريين مباشرة بل تمر على نقاط أخرى صعودًا ونزولا لإطالة مسار السباق، لذلك علينا الرجوع لمسافة ساعة ونصف شرقًا وبلا توقف لتدارك الخطأ ثم علينا أن نقتفر أثر علامة سياحية قديمة عبارة عن طلاء على الحجر وكأنها علم (علامة مشهورة في مسالك جبال عمان) ثم نتجه جنوبًا.
قفلنا إلى النقطة التي وصلنا فيها إلى قمة جبل الشرف، والحسرة تملأ قلوبنا، وكنت مصرًا على المضي قدمًا إلى مسفاة العبريين وكان سيف أكثر اصرارًا ، ولكن هناك أمرًا غاية في الخطورة فالوقت يداهمنا ونحن في وقت أذان العصر والطريق يحتاج لأربعة ساعات فكيف بنا إذا حل الظلام ولم نأخذ عدة النوم والبرد، ولم يتبق لنا إلا القليل من الماء والتمر!
توكلنا على الله واتخذت قرارًا بأن أحمل كل الأمتعة وادع مهمة استكشاف الدرب على سيف لأنه أفضل مني في هذا الجانب.
كانت حقيبة سيف ثقيلة جدا ولكنني أدرك تماما أنه يحمل في صدره هماً أثقل من حقيبته التي على ظهري لأنني في ضيافته لذلك لم أتوانى عن الاستمرار في حملها، وكنا أحيانًا نمشي بخطوات سريعة واحيانا نهرول اذا صدفنا مهباطًا لوادي أو شرجة.
حثينا المسير وكلنا أمل أن نرى مصابيح مسفاة العبريين قبل حلول الظلام، ومازلنا علامات الطلاء المتباعدة التي بالكاد نراها نهارًا فكيف إذا داهمنا الليل!
كنت أحاول تلطيف الجو مع الحث على المسير ببعض التعليقات وكان سيف يتفاءل خيراً وكلما ننزل قعر واديًا نقول سنرى المسفاة بعد “ظهرة” الوادي وللأسف غربت الشمس ولم تتبين لنا المسفاة وبدأ الظلام يداهمنا في ليلة كان القمر فيها محاقًا، ولا نرى إلا نجوماً شديدة الوضوح، ودهمة الجبال المعتمة!
لم نستسلم لوضعنا فالبرد شديد، والجوع افقدنا طاقتنا، والعطش أنشف ريقنا، فقررنا المتابعة لاسيما أن سيفًا اخرج مصباحًا (بجلي) كان قد اخذه احتياطًا وبدأنا نبحث عن علامة الطلاء التي اضعناها مع الظلام الدامس، والارتباك الذي احدثه لنا.
في حقيقة الأمر كنت سأتخذ قرارًا خاطئا بأن نترك البحث عن الطلاء ونتجه غربًا حيث مسفاة العبريين مع علمي أننا لسنا على جادةٍ سهليةٍ لنتخذ هكذا قرار، ولكن التعب، وتشتت الذهن جعلني أُتمتم بهذا الرأي، لم يتفق سيف مع رأيي واصر على البحث فبدأنا نبحث من عدة اتجاهات هو بمصباحه الكشّاف، وأنا بمصباح جوالي، فجأةً.. سمعت صوت سيف ينادي بنبرة يشوبها التعب ويملؤها الأمل : (أبو سارة تعال لقيتها العلامة، هيا تعال).
الحمد لله، قلتها مع زفرة من أعماق صدري، وبدأنا نتبع اسلوبنا في البحث إلى أن تهادت لنا علامة خضراء تعكس ضوء “البجلي” صرخت بأعلى صوتي: (الحمد لله لقيناها علايم السباق الواضحة، عاش أبو سلطان اتبعها الدهديه).
كانت تلك العلامات القادمة من جهة الشمال الشرقي باتجاه مسفاة العبريين ومهيأة للمشي الليلي للمشاركين في المارثون، هنا رجعت لنا الطمأنينة والثقة، لأن هذه العلامات واضحة، وعاكسة للضوء.
اخذنا نجد في المسير والظلام حالك ولكن لا نرى أي أثرًا للمسفاة، فقلت أسلي نفسي بالضحك فكنا نتبادل الطرائف لنضحك وننسى التعب.
استطردت بطرفة اضحتني واغضبت سيف مني لأنني قلت له : “عب هينهم ذيلا الجن بو يقولوا إنهم يطلعوا ويخوفوا الأوادم !،، والله ما صحيح، ولو صحيح تو بيطلعوا”
سيف يرد: “اتق الله بو سارة ما وقته هالحكي تو”! فضحكت وكررت ما قلتله وهو يزجرني ويأمرني بالسكوت.
بعد ذلك سمعنا نداء الحق يتردد صداه فتأكد لنا أن المسفاة ليست ببعيدة، وبعد أن نزلنا في قعر وادٍ عميق اخذنا قسطًا من الراحة وفتحت هاتفي ووجدت أن الارسال قد رجع له فبحثت عن موقعنا بالنسبة لمسفاة العبريين في تطبيق الخرائط فاستنتجت أنها تبعد عنا ما يقارب الثلاثة كيلو مترات والقرية تختبىء خلف الجبل فتأكد لنا أننا سندخلها من مزارعها لذلك لا نرى أثر مصابيحها.
بعد برهة سمعنا خرير الماء المنساب من “القبيل” إلى مجرى الفلج فأحيا هذا الصوت نفوسنا قبل أن نشرب، وأحيا أجسادنا بعد أن ارتشفنا منه، ودخلنا قرية مسفاة العبريين، وعند مدخل هذه القرية التراثية العتيقة الغنية عن التعريف استقبلنا صديق سيف “ماجد الصبحي” وأكرمنا بوجبة دسمة أزالت جوعنا ثم أوصلنا إلى شرفة العلمين عند الطريق المؤدي لهاط فاستقبلنا رجال هاط الأشاوس (بدر وهلال) وأقلّانا إلى قريتهم المتحصنة خلف الجبال، لأقضي اليوم التالي في ضيافتهم وحسن عشرتهم، وتلك قصة أخرى يسطرها الكرماء في قلوبنا فتعجز أناملنا عن خط مكنونات هذا السخاء.
قبل الختام لم يكن التِّيه، وسباقنا مع الزمن، والمشي في العتمة بين الجبال، وأخيرًا لذّة تحقيق الهدف إلّا ذكرى راسخة تطربنا ما بقت ذاكرتنا، وتضيف لنا دروسنا في الحياة.