تَسْرِيدُ الأرض.. الأرض بوصفها سردًا:
عبدالله حبيب –
«الحَمَامات تطير عبر السماء
كم أفتقد أمي الميتة
ألن أراها أبدًا؟
اليقطينات في الوادي
وثمار البطيخ على التل
لا تفكر أبدًا في الغناء لبعضها البعض
وفي صمتٍ عليَّ أن أتحمل ضرب أبي
يجب ألا أشتكي، يجب ألا أشتكي
…»
العذاب دائم
والعذوبة قصيرة»
من الأغنية الثيماتيَّة في فيلم «الأرض الصفراء
في سياق سيرورة التجربة الشيوعيَّة الصينيَّة وصيرورتها التي لها ما لها وعليها ما عليها (النجاح الهائل في اجتياز – البعض يقول «حرق»- مراحل تاريخية كبيرة والوصول بإرادة قوية حد الشراسة حقًّا إلى مجتمع حديث متقدم صناعيًّا وتكنولوجيًّا من ناحية، ومن ناحية أخرى آثام ومذابح «الثورة الثقافية» التي كلما أوغل المرء في قراءتها والتأمل فيها اكتشف أنه لم يكن لها أي داعٍ خارج مغبَّات الاقتتال الحزبي الداخلي، هذا كي أكتفي بمثال واحد على كل وجه من وجهي العملة الصينيَّة) يجدر تذكُّر أنه في سياق المداخلات، والمناظرات، والمحاضرات، والجدالات الكثيرة التي زَخَر بها مؤتمر يينان للأدب والفنون، ها هو «الزعيم» ماو تسي تونغ يهبُّ حازمًا وجازمًا ليقول في مداخلته الشهيرة المُلقاة بتاريخ 23 مايو 1942 ما يلي: «في النقاش حول أيَّة مشكلة، فإن علينا البدء من الواقع وليس من التَّعريفات»؛ وذلك، ببساطة، كما يمضي في القول والإيضاح؛ لأنه سيكون من الخطأ «إن نحن ابتدأنا بالنَّظر إلى تعريفات الأدب والفن في كتب النُّصوص المدرسيَّة، ونستعملها بعد ذلك لتحديد المبادئ التي تقودنا إلى «النَّظر» في وضع الأدب والحركة الفنيَّة اليوم» (1).
في هذا الإطار النظري الذي يبدو – للوهلة الأولى في الأقل- أنه يرجح كفَّة الأسئلة الجديدة والمفتوحة للمتغيرات والواقع المتباين والمتغاير وغير الثابت على كفَّة الإجابات الدوغمائيَّة والإيديولوجيَّة المغلقة والواثقة من نفسها بصورة شعائريَّة فيما يخص مسيرة الأدب والفنون، فإن «الزعيم» يوضح محاججته بطرح السؤال التالي: «خذ دلوًا من الماء، على سبيل المثال. من أين له أن يُرفع إن لم يكن من الأرض؟. أمن منتصف الهواء»؟ .(2) وطبعًا فإن «الزعيم» لا يشير في سؤاله الاستنكاري هذا إلى أيٍّ من دلوي الماء اللذين تجلبهما الصبيَّة القرويَّة من النهر إلى بيت أبيها الكهفي وبالغ التقشف بعد اثنين وأربعين عامًا بالتمام من إطلاق «الزعيم» مقولته، وذلك في فيلم تشن كايغ Chen Keige «الأرض الصفراء» (1984). ومع ذلك فإنه في ضرب من المفارقة التاريخية المريرة التي يرتد فيها السحر على الساحر فإن الفيلم يسرد فعليًّا كِلا «الأرض» و«دلو الماء» الذي يُرفَع منها بطريقة قد لا تستجيب لكل ما ورد في «الكتاب الأحمر» مثلاً؛ فالقصة التي يرويها الفيلم تعيد النظر في الأمر الذي يقترحه «الزعيم» من خلال إعادة توجيه السؤال بطريقة تمثِّل الأرض وأناسها بوصفهما ذاتًا ساردة تملك الفاعليَّة والطاقة، وذلك بدلاً من تسخيرها باعتبارها استراتيجية ملائمة للخطاب الإيديولوجي وخُطَب العلاقات العامة، وشعارات الحشود الجماهيريَّة. وحقا فإن السرد في فيلم «الأرض الصفراء» لا ينبثق «من منتصف الهواء» (كما في عبارة «الزعيم»)، ولكنه ينبثق من لا مكان غير فضاء التاريخ وجذور الأرض التي ترتبط بها روح الكرامة والنضال الإنساني الذي لا يكفُّ أبدًا عن أن يكون.
وحقاً فإن فيلم «الأرض الصفراء» يضيء لنا محاججة المنظَّر والمؤرخ السينمائي الفرنسي مارك فيرو Marc Ferro الذاهبة إلى أنه في العلاقة بين السينما والتاريخ فإن السينما يمكن أن تكون مصدرًا للتاريخ (بمعنى أنها تُرينا ما حدث في الماضي الذي ليس في مقدورنا أن نفعل شيئًا حياله بكل ما وقع فيه)، ولكن السينما يمكن أيضًا أن تكون فاعليَّة للتاريخ (بمعنى أنها تحرضنا على المشاركة في صياغة الحاضر الإنساني، والسياسي، والثقافي الذي لا بد أن يكون لنا قول في مجرياته، وأحداثه، واحتمالات مستقبله) (3). ومن هنا فإن مبحثي الضئيل هذا سيحاول إضاءة عدة أوجه من جماليات سرد الفضاء في هذا الفيلم ضمن ذلك الإطار وما ينجم عنه من أفكار ومقتضيات؛ إذ أني أراه على جانب كبير من التفرد والفتنة.
لكن، قبل الانخراط في مسعاي النقدي هذا، عليَّ أولًا الحديث عن الفيلم قليلًا؛ فقد حاز هذا الأثر على الترتيب الرابع في قائمة أهم مائة فيلم أنتجتها السينما الصينيَّة (جوائز هونغ كونغ 2005)، وأثار نقاشات وسجالات ملتهبة شرقًا وغربًا. كما أن هذا الفيلم قد رسَّخ نفسه، في وقت إطلاقه وبعد ذلك، بوصفه واحدًا من أهم أفلام «الجيل الخامس» في السينما الصينيَّة (4). إن ما حدث، وما أحدثه الفيلم في تاريخ السينما الصينيَّة، هو أنه بعد عقود طويلة آسنة ومتواضعة في نوعيَّة الإنتاج السينمائى الصيني الذي اتَّسَم في معظمه بالتعليميَّة الثوريَّة التبسيطية، ومحض الدعاية السياسية الفجَّة والمستهلَكة، والدروس الحزبيَّة الخرقاء جاء فيلم «الأرض الصفراء» ليفرض نفسه بوصفه بياناً تجسيديًّا للحساسيَّة السياسية والجمالية التي ضمنت «للجيل الخامس» من السينمائيين الصينيين مكانهم المرموق على خارطة الإنتاج السينمائي العالمي الكيفي. إننا نجد توصيفًا وافرًا ودقيقاً لذلك في عدة مصادر في مكتبة الدراسات الثقافية والنقدية السينمائية (5). والحقيقة إن رونغ ويجنغ Rong Weijing يذهب إلى القول بطريقة دراميَّة ومُفيضة في حماسها وعاطفيَّتها: «طالما لم تتكرر فكرة «الأرض الصفراء»، فإنه لن يكون هناك شكل شبيه لهذا الفيلم» (6). والحقيقة إن المنزلة الأسطورية الرفيعة التي حازها الفيلم جعلت الكثير من النقاد غير راغبين (أو أنهم مترددون في أحسن الأحوال) في الكشف عن العديد من أوجه القصور التقنيَّة فيه. ورغم أن ذلك ليس مطمحي في هذا البحث، إلا أنه لن يضير أن أشير، مثلًا، إلى أن بعض المؤثرات الصوتيَّة مقسورة قسرًا على الفيلم، بل ومجانيَّة؛ فصوت الريح، على سبيل المثال، يزأر بلا نهاية طوال الفيلم. والحقيقة إن أحد النقاد ممن يتمتعون بقدرة كبيرة على الدعابة والفكاهة أكثر مني يذهب إلى أن صوت الريح في الفيلم كان أقرب إلى صوت طائرة (7). (يتبع في الأربعاء المقبل).