في ظل عالم تتداخل فيه المصالح، وتتشابك فيه الاهتمامات، وتتقاطع فيه الأولويات وتتباعد فيه الغايات والأهداف، وتتسع فيه مساحات الشراكات الاقتصادية والتكتلات السياسية، في ظل تزايد لغة المصالح الفردية والأنانية المفرطة والحساسيات الدولية في التعاطي معها؛ يشكل الأمن فيه هاجسا وطنيا لدى الدول والحكومات، تتنافس في إبراز مداه وقوته عبر توفير ممكنات أكثر مهنية وقوة وإنتاجية في استراتيجيتها الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والاستثمارية، فتضع البعد الأمني أولوية في رسم ملامح التغيير وإعادة هندسة الواقع، بحيث توجه نتاجاته لقوة المجتمع واستثمار موارده وبناء مواطن قادر على التكيف مع متطلبات الواقع ومتغيراته وتتوفر لديه الضمانات الأمنية القادرة على صناعة التغير، والتعامل مع هاجس القلق والخوف مع الاحتمالات الناتجة من هذه المنافسة على المدى البعيد، وبالتالي ما يتطلبه المنظور الاستراتيجي لهذه الاتفاقيات من جهد وطني يفوق كل الممارسات الاعتيادية عبر توفير إطار تشريعي واضح يصنع من هذه الشراكات والاتفاقيات محطة إنتاج قادمة تضخ نتائجها لصالح الوطن وإنسانه وتستقرئ في التحولات الاقتصادية الوطنية مدخلا مهما في تعميق القيمة التنافسية الناتجة منها على صعيد الإنجاز الوطني، وتوفير ممكنات أخرى قانونية وتشريعية وأمنية في قراءة هذه الاتفاقيات عبر تعزيز دور المراكز البحثية والكراسي العلمية والأمنية في هذا الشأن.
عليه، يشكل البعد الأمني اليوم مرحلة تحول استراتيجية في مسيرة إنتاج القوة لهذه الاتفاقيات والتأثير الإيجابي الناتج عنها ورسم ملامح التغيير النوعي المترتبة عليها في المجتمع وإعلاء القيمة المضافة لمواردها البشرية وتقوية سياساتها الوقائية والدفاعية الناتجة عن تعزيز القيمة المضافة لاقتصاداتها واستثماراتها، وهي فرضية ناتجة من محورية العلاقة الحاصلة بين الأمن والتنمية في قضاياها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والفكرية والتعليمية وغيرها، ولما تشكله مظلة الأمن الإنساني الشامل، في نظريته القائمة على تعظيم القيمة الإنسانية والاستثمارية له، وتعميق دوره في صناعة الإنسان، وبناء منصات وطنية متكاملة اقتصاديا وسياسيا وفكريا وإنتاجيا، تستقي من ميادين التفوق البشري مساحات لها للنهوض المجتمعي وتحقيق التنمية المستدامة، لذلك ينظر في أي عمل وطني، إلى مستوى تحقيقه لمنظور الأمن والأمان والاستقرار، واستشعار المواطن فيه بأن ما يقدمه هذا المنجز وما تحتويه فلسفة الإنجاز إنما يأتي في إطار ترقية الحس الوطني للمواطن وتعميق الشعور الإيجابي لديه وترسيخ الدلالات الوطنية والقيم الساعية لبناء مجتمع التنمية والشراكة. ويبقى البعد الأمني معادلة التوازن في إدارة فاعلة لهذه الاتفاقيات ومتطلباتها وصناعة التقدم في أجندة عملها وتأطير السلوك الناتج عنها وتقنينه وتأسيسه وفق قراءات استشرافية لمعطيات واقع عملها ونواتجها وأدواته، عبر التزامها معايير وأطر ومحددات تستهدف أمن الإنسان الشامل، فيعصمها من الزلل ويوجهها لبلوغ الهدف، ويضمن عدم تأثيرها على مبادئ الوطن وسياساته والأولويات المعيشية للمواطن والمحافظة على مستويات العيش الكريم له، وتحقق الأمن النفسي والفكري والاجتماعي والغذائي والأخلاقي، فهي تؤسس لمرحلة متقدمة من جاهزية هذه الموجهات في التعامل مع الأولويات الوطنية وبلوغ المعايير الإنسانية في أدائها، لتصنع بدائل تساعد المواطن على مواجهة ما قد تتسبب فيه هذه الاتفاقيات وغيرها من تأثير على أمن الإنسان وحياته واستقراره.
لقد أنتجت مسيرة النهضة والتحولات التي تشهدها السلطنة في كافة القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، والسياسة الحيادية القائمة على مبادئ السلام والحوار والتنمية والوئام والتعايش والوئام والالتزامات بالعهود والمواثيق الدولية والتزام حسن الجوار وغيرها، أنتجت العديد من الشراكات والاتفاقيات الاقتصادية سواء مع دول معينة أو عبر شراكات أخرى إقليمية ودولية، وما اقتضته من التزامات وشروط وتعاون وتفاعل وتيسير للبيانات وخلق مسارات أكبر للتناغم والتكامل في عقودها وبنودها أسست لمشتركات في العمل، وتبادل للخبرات والمنافع، وتقديم البرامج التدريبية الداعمة للقدرات وتمكينهم، فإنها ارتبطت بحاجتها إلى مزيد من التكييف مع طبيعة الظروف والمتغيرات المتسارعة والواقع الوطني والحالة العمانية مراعبة لخصوصيتها ملتزمة مبادئها، وبالرغم مما تحمله هذه الاتفاقيات الاقتصادية والاستثمارية من شروط متبادلة، وحقوق وواجبات مشتركة، وما تعكسه من التزامات قادمة على الدول أن تتعامل معها أو أن تستوعبها في تشريعاتها وقوانينها وتصبح بمثابة التزام متبادل، وأن من بين بنود هذه الاتفاقيات الاقتصادية أو الاستثمارية مراعاة قضايا أخرى ذات علاقة بالأمن البيئي والمحافظة على سقف عال من الجاهزية في التعامل مع المخاطر المترتبة على بعض منتجاتها أو نواتج عمليات التشغيل فيه؛ إلا أن هناك أبعادا أخرى قد تكون غير مدركة وذات تأثير مقترن بطبيعة التحولات الحاصلة في المجتمع وتظهر تبعاتها على المدى البعيد، أو أن تبرز بعض السلوكيات التي تثير حالة من القلق والتباعد في عمليات تنفيذ الالتزامات أو غيرها من الطرف الآخر، بحسب تغير الظروف التي تعمل بها أو حالة التجاذبات السياسية التي يشهدها العالم.
لذلك نعتقد بأن الحديث عن الاتفاقيات الاقتصادية والاستثمارية ينبغي أن تحمل اليوم في نصوصها وبنودها مفاهيم أوسع وأعمق في إبراز مقومات الأمن الوطني، وتدخل في مذكرات التفاهم قضايا ذات علاقة بمفاهيم السيادة الوطنية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية ومنع هذه الشركات من القيام بأي أنشطة أخرى خارج إطار الاختصاص، بالإضافة إلى قضايا تتعلق بالسلوك والقيم أو فلسفة العمل ومبادئ التعايش والاحترام وتقدير المواطن وترقية الممارسة الفكرية الإيجابية الموجهة، وموقع المواطن في منظومة عملها وحقوقه في التعامل مع التجاوزات القانونية التي تطول شخصه ومهاراته، ومسألة تبادل المعلومات ونمو الخبرة وموقع البرامج التدريبية المنفذة للقدرات والكفاءات الوطنية خارج السلطنة مثلا، لذلك فالمسألة الاستثمارية والاقتصادية في تقديرنا الشخصي يجب أن تتعدى ما تتركه من تأثير سلبي على البيئة لتشكل أيضا نصوصا قانونية وجزاءات وعقوبات وغرامات مالية ومحاسبية قانونية، عندما يتسم العمل فيها بالبطء والابتزاز ويتجاوز السلوك الناتج عن هذه الاتفاقيات الإنشائية أو الشراكات في تنفيذ أو إنجاز مشروعات اقتصادية معينة الجوانب الأخلاقية أو تستهين بقيم المجتمع ومبادئه أو تتعلق بالاعتداء على موارده الأرضية وتاريخه أو محاولة تشويه صورة المنجز الوطني أو تفصح عن حقائق ومعلومات صفتها السرية ومحدودية التداول، أو تمس قيم وطنية أو مفاهيم في العمل السياسي والاجتماعي والثقافي الوطني، بحيث يكون له تأثيرها على الذوق العام والأخلاق الفاضلة للمجتمع؛ على أن ما يثار حول الواجهة البحرية لميناء السلطان قابوس من نقاشات عبر منصات التواصل الاجتماعي وغيرها الذي يتجلى في حجم المردود الاقتصادي الناتج من هذه الاتفاقية؛ إنما يرتبط بهذا المدخل الأمني ومستوى الكفاءة فيه والآمال المعقودة عليه في كشف الملابسات وإبراز الحقائق بشكل جلي، وقوة التشريعات التي تضع مسؤولية الشركات على المحك، والمتابعات القضائية والقانونية المترتبة على التأخير على الإنجاز، وأن يؤسس البعد الأمني في مثل هذه الاتفاقيات ويدرس كل الاحتمالات الناتجة عنه ومستوى الجاهزية والقوة الاستثمارية والكفاءة الإدارية والمالية التي تتميز بها هذه الشركات أو المؤسسات، أو مستوى الجدية التي تؤسسها هذه العلاقات في تقديم خدمة نوعية تتوافق مع طبيعة المهمة أو حجم المشروع الوطني ومستوى اعتماد السلطنة عليه في خريطتها الاقتصادية.
ويبقى كفاءة القوة التشريعية ووضوح البعد الأمني في هذه الاتفاقيات وحقوق السلطنة فيها، والنواتج الإيجابية التي تتحقق للمواطن العماني منها، مدعوما بوضوح أجندة العمل وكفاءة التشريعات ووضوح الإطار القانوني والتنظيمي الذي تعمل فيها، وما يمكن أن تقدمه للمواطن العماني من فرص عمل أو برامج تدريبية أو خبرات نوعية أو مساهمات تنموية أو مبادرات تستفيد منها فئات مختلفة من المجتمع، منطلق لرسم ملامح التحول في مسارات العمل القادمة وتؤسس لمنطق وطني يقوم على الثقة فيما تقدمه هذه الاتفاقيات من فرص وبدائل ونواتج على التنمية الوطنية، هذا الأمر يستدعي التأكيد على وضع البعد الأمني كقاعدة أساسية في أي اتفاق اقتصادي واستثماري متناغم مع البعد التشريعي والقانوني، وأن تتضح بالتالي صورة المنجز المتحقق أو أجندة العمل المقترحة وطبيعة التعاون الحاصلة والسلوك الناتج من العمليات اليومية المتحققة في الواقع، وفي الوقت نفسه أن تضع المؤسسات ذات العلاقة هذا البعد كمنطلق في أي اتفاقيات أو عمليات استثمارية قادمة لضمان قدرة هذه الشركات أو غيرها في تحقيق التزامها، بحيث تحظى بالاعتراف ولها حضورها الواسع في الخريطة الاقتصادية الإقليمية أو العالمية، ويصبح البعد الأمني في المنظور الاقتصادي والاستثماري اليوم منطلقا لقدرة نواتجها على تأسيس أرصدة نجاح لها تفوق التوقعات يشعر المواطن بهذه النواتج، فإن المواطن يقرأ قدرة هذه الشراكات أو نواتج هذه الاتفاقيات بقدر ما تحققه من تحول في الواقع الاقتصادي الوطني وتؤسسه من فرص لتشغيل القوى العاملة الوطنية واحتوائها.
من هنا نعتقد بأن تناول هذا الموضوع والبحث فيه يشكل هاجسا وطنيا ينبغي التأكيد عليه، وإعادة النظر في أي إخفاقات أو تجاوزات حاصلة في هذا الجانب، وتوفير نصوص تشريعية ومواد قانونية تضمن الاحترازية الأمنية المحددة من قبل جهات الاختصاص، وعدم تعرض حقوق السلطنة وأولوياتها لأي انتهاكات قد يؤديها تخلي الطرف الآخر عن التزامه أو وفائه بتعهداته أو أن يقيد السلطنة عن ممارسة مسؤولياتها في هذا الشأن، لقد اتخذت السلطنة رؤية واضحة في هذا الشأن ومع ذلك نؤكد الحاجة إلى قراءة البعد الأمني لفلسفة هذه الاتفاقيات الإطارية أو اتفاقيات مشروعات التطوير في البنية الأساسية والاقتصادية الوطنية أو في التنقيب والاكتشاف ومساحات الأمان التي تعمل فيها وحدود الصلاحيات الممنوحة لها، وقراءات أوسع لمستقبل هذه الاتفاقيات وأثرها على الاقتصاد الوطني، فإن المنظور الأمني لهذه الاتفاقيات يتجاوز التعبير التقليدي للأمن ليشمل أبعاد الأمن الأخرى والممكنات والتأثيرات الناتجة عنها على الأمن الاجتماعي والاقتصادي والغذائي والصحي والبيئي والسيكولوجي، وبالتالي إلى أي مدى يمكن أن تشكل بعض هذه الاتفاقيات الاقتصادية مهددات للأمن الوطني أو معيقات في سبيل تحقيق التوازنات الأمنية الاقتصادية، والتشريعات التي تحمي حق السلطنة في التقاضي الدولي، عبر بناء معايير القوة في تشريعات السلطنة في التعامل مع هذه الأحداث، ورفع تظلمها للمؤسسات القانونية والعدلية الدولية ذات الاختصاص، إن هذه القراءة للبعد الأمني ستقدم قراءة للأداء الاستراتيجي المتوازن في الحفاظ على سقف التوقعات من هذه الاتفاقيات، وبما يؤسس لوعي المواطن وثقته فيما تتخذه الحكومة من سياسات وتدابير اقتصادية واستثمارية.
وعود على بدء فإن عرض الاتفاقيات الاقتصادية والاجتماعية التي تعتزم الحكومة إبرامها أو الانضمام إليها، على مجلس الشورى في المادة رقم 58 مكررا (41) من النظام الأساسي للدولة قراءة واعية للمشرع العماني ورؤية معمقة للمنظور الاستراتيجي، ولكنها في تقديرنا الشخصي بحاجة إلى ممكنات أخرى تقوم على تعزيز دور البحث العلمي الاستراتيجي في إعطاء صورة مكبرة واضحة تدرس هذه الاتفاقيات بصورة أكثر عمقا ومهنية واتساعا، فتقرأ الواقع الدولي والتشريعات والتجارب العالمية والإقليمية في التعامل معها، ثم تدرس نتائج بعض الإخفاقات التي حصلت في بعض المواقف والمواقع وانعكاساتها على نواتج التطبيق، والسلوك الناتج عن الاتفاقيات على الأمن الوطني؛ هذا الأمر يدعونا إلى الإشارة أيضا إلى أهمية وجود الكراسي الوطنية للدراسات الأمنية والتي سيكون من بين مهامها قراءة هذا الاتفاقيات وتأثيرها على البعد الجيوسياسي والأمني والاقتصادي للسلطنة، والإجراءات أو التدابير الوقائية أو الاستثمارية التي ينبغي للسلطنة أن تعمل عليها في سبيل تحقيق الأبعاد الاستراتيجية لهذه الاتفاقيات، وكيف يمكن للسلطنة أن تستفيد منها بشكل أكثر فاعلية واستدامة، ويحقق مردودا استثماريا وعائدا نوعيا، فإن اتجاه السلطنة لتعظيم القيمة المضافة من هذه الشراكات والاتفاقيات الاقتصادية والتي نعتقد بأن المرسوم السلطاني رقم (54/۲۰۱۹) بإنشاء الهيئة العامة للتخصيص والشراكة وإصدار نظامها، جاء لرسم بعض معالمها مدخلا مهما لإعادة هذا المسار ورسم ملامح التحول فيه في قادم الوقت، فهل ستتجه الجهود الوطنية لإعادة هذا الملف للظهور في ظل بعض المؤشرات التي أبرزها الواقع الوطني؟
د. رجب بن علي العويسي
#عاشق_عمان