محفوظة العوفي
الأعمارُ بيد اللّه كان آخر ما تردد بِلسانِ الطبيبِْ المُعَالج … تَربِتُ المُمرضه على يدِها وتُطَمئنُها بأن كل شيءٍ سيكون على ما يُرام….. لتبقى هي شاردةً بِذهنها بعيداً ….تتسارع نبضاتُ قلبها دون أن تهدأ…. ولوهلة ظلت تأخذ نفساً عميقاً….. ويبدأ الخفقان بِالرجوعِ لوضعهِ الطبيعى. تسترجع شريط حياتها العابر وذكرياتها الجميلة كفيلمٍ قصير والدهشة تغمُرها بوهم حُلمٍ من كابوسٍ لا مفر منه ….. تُناظر ما حولها وكأنها ترى كل شئٍ لأول مرة….. تبكي بحرقة …. لم تستطع أن تتمالك نفسها…. من الآن وصاعداً ستعيش تحت رحمة ربها والمسكنات. ظلت على النحيب والبكاء إلى أن داهمها النوم.
في صباح اليوم التالي تستيقظ وما زال ألم الخبر بارِحاً بِصدرها لا يأبى أن يُغادر….. من أمام مِرآتها تتتبعُ تفاصيل وجهها الشاحبْ بِعينيها الحادتين والسؤال المشتت يتكرر في حال نفسها هل سيكون علاجي أفضل في الخارج أم أبقى بين أهلي وأستمر ….. ( لا يجب أن أستسلم….. هكذا كانت تُلهم عقلها وقلبها بين كل لحظه يأسٍ وضعفّ ) ….. ولكن للأسف هي تعلم بل وعلى يقين أن الخبيثَ بدأ يُسيطرُ على كل جزء من جسدها النحيل…. ينهش ما تبقى منه….. هذا ما وأفت به نتائج الفحوصات الأخيرةِ لها . وبعد إِقتناعٍ تام والرضوخ للأمر الواقع….. تقبلت ما هي عليه وبِحُسن ظنٍ بالله وإصرارٍ بالتغلب على المرض والنيل منه ….
بدأت رحلة العلاج وكل شيئ يسير بنجاح حسب الخطة المتبعة …. هل ستتماثل للشفاء شيئا فشيئا أم ماذا….؟
وفي اليوم الأخير لجلسةِ الكيماوي قامت تودعُ الجميع بإبتسامةِ خافتة…. وتخُرج.
في البيت …. يعمُ السُكون.
هي كعادتها تنفردُ بِالكُرسي الخشبي الهزاز تحتسي فِنجان قهوتهاِ الساخن لتستقر بالجلوس في الصالة المقابلة لحديقة المنزل …دائماً ما تُفضلها بعد الخروجِ من المستشفى فزُجاج النافذة أمامها واسع مما يجعلها ترى الخارج بوضوح ….. اليوم قارب على الإنتهاء وهي ما زالت أمام النافذة …. لم تُبدي رغبتها بالملل بعد ….. منظرُ المساء يبدو مخيفاً على غير العادة . غُروب الشمس الباهتْ يُودعُ السماء ببطئٍ وكسل.
الغيماتّ تزدادُ سواداً ….. فسوادْ
الساعةُ المُعلقةُ على الجِدار تُنْذرُ بِقُدُومِ مُنتَصْفِ الليل …..الطبيعة خلفَ الزجاج تُبْهِرُهَا….. فقد شدها وقعُ هُطُولِ المطر وهديرْ الرعد وسُرعةِ إلتماس البرق بين السُحبْ…. وعذوبة غناء الريحْ مع الشجر يدفعها لتتمايل يميناً ويساراً كلوحةٍ فنية لراقصةٍ غجرية بِشعرها المجعد الأشبهُ بالموج وحثيثْ الأعشاب الأخضر الداكن حين يتراقص مع الفراشات الملونة فرحاً بخطواتٍ تحذو حركاتِ البالية …. إحساسُها أنذاك خلق جواً مغايراً بين الخوف والطمأنينة…… ولكن للأسف تعمُ حالة الصمت من جديد …
ينتابُها التردد لزيارة مكتبة زوجها المتوفي في الطابق العلوي …..لم تعد تلجأُ لمزاولة هواية القرأءة كالسابق منذ ما يقارب السنتين من موعد وفاته …. تعلمُ جيداً لِما تُراوِدُها فكرة الفُضول اليوم هذا بالتحديد ….. إنها ذكرى وفاة زوجها وحبيب قلبها الوحيد…. وبينما تهمُ بالصعود إلى فوق ….. لتتفقد المكتبة.
أحست بضيق شديد وألم في صدرها….. تأخذُ حبة المُسكن …. شيئا ما يعكر صفو المكان…. كل ما شعرت به وإرتاحت لرؤيته في الطابق السُفلي تغير للأسوأ…. صوتُ صفيرِ الرِياح يُربِكها وكأنه إقترن بصياحٍ و قهقهةٍ لأشباحٍ تحومُ حولها ….. حتى قرقعت حباتِ المطر هي الأخرى ظلت مستمرة بِالضربِ على زُجاج النافذةِ دون توقف….. حاولت أن تستجمع قواها و تُجْبر نفسها بعدم الخوف… كلها تهيأت….. تُهدئ من روعها…. وتُتابع الصعود إلى فوق .
بالقُربِ من المكتبة….. أخذت تتحسس وتطبعُ قُبلاتٍ بأصابعها على الرفوف الممتلئةِ بالغُبار ….. تُسلم بيدها على الكتب الميتةِ المصفوفةِ في الزوايا … وكأنما تُنعشُها من جديد وتخضعها للتنفس …. بعضاً ممن فرغت من قراءتها بدت مرميةٍ هنا وهناك دون أن تُعاد لمكانها بعد آخر حضور لزيارتها…. أوراقٍ ومذكراتْ قديمه متناثرة تبدو متآكلة كما لو أن الزمان إحتلها دون إستئذان ….. فجأة تسمعُ هاتفها النقال يرن… ويرن. من عساهُ يطلبها في هذه الساعةِ المتأخره من الليل…. ؟ تحاول النزول للأسفل بمهل…… تفتح جَوالها لتجد إتصالين فائتين من أُمها وأخيها الصغير ورساله غير مقروءة …. في نصها ( سنأتي لزيارتكِ أنا وأخيكِ غداً صباحاً طمنينا عليكِ …. نُحبكِ ).
#عاشق_عمان