لقد ظلَّ العُمانيون ينتهجون في سلوكهم سلوكَ الأدب الجم في تعاملهم مع الآخرين، ويُنفرون بشدة من كل متجبِّر مُختال، وهذا التواضُع الكبير ظلَّ كامناً في جِينَاتهم الوراثية، وهو تواضُع الإنسان المقتدِر، والمسيطر على نفسه وهذا الأهم؛ لأنَّ كبح النفس عن الغرور والطغيان يُعد الأكثر أهمية في الحياة، وقد ضرب المثل على ذلك مالك بن فهم الأزدي، حينما هاجَر من اليمن إثر انهيار سد مأرب إلى عُمان؛ فعندما وَصَل إلى عُمان وجد الفرس يسيطرون على عُمان؛ فطلب أن يمنحوه قطعة من أرض العرب في عُمان ليعيش هو وقومه في جيرتهم بسلام، لكنهم رفضوا بقوة وقرروا إرجاعه من حيث أتى، وعندئذ قرَّر مُحَاربتهم وهو كان قادراً على ذلك منذ بداية الأمر، ولمَّا انتصر عليهم رغم كثرة عدتهم وعددهم، قال لهم إنْ أحببتُم العيشَ معنا بسلام ضَمنَّا لكم حقوقكم، ولكنهم أبُوا إلا مواصلة الحرب والقتال، فكانت النتيجة أن هُزِموا وطُرِدوا من عُمان؛ وذلك رغم المدد الكبير من كِسْرَى لقائده المرزبان.
إذن، العُمانيون يتوارثون الخلقَ القويم، ولا يصطنعونه عند الضرورة كما كان يفعل بعض الناس، ولأنَّ الآخرين لا يعرفُون ذلك، وأنَّى لهم بهذه المعرفة، وقد عاشُوا على السَّلب والنَّهب وقطع الطرق، حتى إنَّ بعض الأئمة العُمانيين أهدروا دماء بعض مشايخ الصعاليك لكثرة فسادهم في الأرض؛ فمِن بَاب أولى أن يعذر الصعلوك نفسه وأحفاده من تبنِّي نهج الأدب والخلق الحميد، وما كانتْ الطاعة للسلاطين العُمانيين في الماضي إلا نتيجة خوف وردع، بدليل أنَّهم وبمُجرد أن ملكوا الأموال الطائلة، تناسُوا كل الماضي والإحسان عليهم، فأصبحوا يشرئبون بأعناقهم إلى السماء، رغبةً وأملاً في مطاولة الثريا في عُلاها، كالدُّخان الذي يرتفع من مواقد الطبيخ، وقد نسي أن أصله دخان وَضِيع يُعمي العيون، أي أنَّه مُجرَّد أدخنة نار وليس هو بنار.
لقد تَنَاسى هؤلاء القوم، وكان وما زال وضعُهم يُشبه وضع النِّقَّاف الذي يتساقط حول “طوبج الخبز”؛ فلا يُهتم به؛ فهو من خُشاش الأرض الذي يترك لدواب الحارة لتتغذى عليه، لا أعرف سبباً واحداً يجعل مثل هؤلاء التطاول على من هو يكبرهم بآلاف السنين في التاريخ، وبأمجاد عمَّت الكرة الأرضية من أقصاها إلى أقصاها، وحكاياتهم الأخلاقية والبطولية زينت بها الإمبراطوريات القديمة ردهات مكتباتها، لفخرهم بأنَّ عُمان كانت ترفع من شَرف مجدهم، بمجدها العريق أن أوجدت علاقات معهم، حتى إنَّ ملوك الصين كانوا يُطلقون على العُمانيين “ملوك الأخلاق الحسنة”، وفي أمريكا كان لهم الفخر بالتعرف على أناس يمثلون العرب؛ فقد اتَّصفوا بسمت الملوك، وأدب النبلاء الأشراف الأعزاء الكرماء، أما ملوك ورؤساء أوروبا في العصر الحديث، فقد عبروا عن ذلك الاحترام لعُمان، بكسر قواعد البروتوكول عندهم؛ وذلك عندما استقبلَ رئيس جمهورية فرنسا جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله وأبقاه- فقد ذهب لمُلَاقاته في ساحة المطار، وليس أمام قصر الإليزيه كما ينصُّ البروتوكول الفرنسي، وكذلك فعلت ملكة بريطانيا.
إنَّ الدولَ العظيمة تُعطِي القيمة المناسبة للعظماء، أما الدول الوضيعة -وهي طارئة على الزمن- فترى كل شيء وضيعًا بقدر وضاعتها وخِسَّتها، وليس بوسعنا إلا أنْ نقول “فلا نامت أعين السفهاء الجبناء”.
لقد قتل القهر القوم الوضعاء، فأصبَح همُّهم منع عُمان من التقدُّم والتطوُّر، حتى لو بالكذب والافتراء، وغاب عن بالهم أنَّ الجبالَ الشامخة لا تنحنِي لترتوي من الغُبيب الرَّاجنات في قعر الوادي، وعادة الجبال الشاهقة أن تُروى من مَشيم السحاب العالي، فعُمان أيُّها الأقزام ماضية في نهجها، وإنَّ نظام “البهطة” قد ألغي من قاموسنا عن السفهاء، وسترون أي اقتصاد سيرتقي بعُمان إلى علياء المجد، رغم كيد الكائدين وحسد الحاسدين، وكذب الكذَّابين النمَّامين؛ لأننا كُنَّا وما زلنا نحمد الله ونشكره ونذكره؛ وذلك على عميم فضله، وواسع نعمه، ومن ضِمن تلك النعم والمكارم الرَّبانية علينا أنْ هيَّأ الله لعُمان قائداً فذًّا حكيمًا رحيمًا محبًّا لعُمان وشعبها، وهو أهم كنوز عُمان على الإطلاق.
حمد بن سالم العلوي
#عاشق_عمان