قال تبارك وتعالى: (الرحمن علّم القرآن خلق الإنسان علّمه البيان)، الكثير منا وإلى الآن يبحث عن شواهد الإعجاز القرآني، حباً بالقرآن الكريم، لكن قلّة منا ينتبهون إلى السياق القرآني، الذي يصنع الصورة البيانية المتكاملة، في كل أجزائه وسوره وآياته وكلماته.
البيان بالمعنى العام هو التعبير عمّا في النفس، أو عمّا لدى الكاتب أو المتكلم من أفكار ومشاعر بدرجة عالية من الإفهام والتأثير.
والبيان اصطلاحاً وهو المعنى الخاص: هو الذي تشكل عندما وضع العلماء قواعد البلاغة وجعلوا (البيان) أحد علومها الثلاثة، وعرّفوه بأنه “علم يُعرف به إيراد المعنى الواحد بتراكيب مختلفة في وضوح الدلالة على المعنى المراد بأن تكون دلالة بعضها أجلى من بعض”، بالتالي، إن المعنى العام هو الأصل لأنه عندما يتحدث الناس عن البيان القرآني والبيان الأدبي والبيان عن المعاني والأفكار، نجده بدأ قبل العصر الإسلامي من الموروث الشعري القيّم الذي تركه الشعراء من بيان ساحر وأداء رائع، حيث جمع محمد مرتضى الزبيدي في تاج العروس معظم ما قاله العلماء في دلالة البيان، فقال: (والبيان، الإفصاح مع ذكاء، وفي الصحاح هو الفصاحة واللسن، وفي النهاية هو إظهار المقصود بأبلغ لفظ، وفي شرح جمع الجوامع هو إخراج الشيء من حيّز الإشكال إلى حيّز التجلي). وكل ما يقال عن البيان القرآني يشكل شرحاً لما ابتدئنا به مقالنا هذا (علّمه البيان)، القرآن الكريم يعلمنا كيف يمكن أن نستغل قدرات لغتنا العربية في إنتاج أرفع أنواع الأدب المستمد من البيان القرآني روحه ووسائله.
ففي الدراسات اللغوية نجد أن هناك من كان يتخذ موقفاً يدل على إيمانهم بوقوع الترادف، ولكنهم عندما يتخذون جانب التفسير، ويتحدثون بلسان التفسير، كانوا ينتبهون إلى اختلاف التركيب القرآني اختلافاً يسيراً عندما يرد في موضعين أو أكثر، مثل قوله تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم)، حيث قال الألوسي في تفسيره روح المعاني: (ولا تقتلوا أولادكم)، بالوأد (من إملاق) من أجل فقر أو من خشيته، كما في قوله تعالى (خشية إملاق)، بالتالي نجد تشابه في الألفاظ وفي دلالة التركيب اللغوي المتشابه بالمعنى العام الواحد وهذا نوع من أنواع المقابلة في التراكيب التي تبدو متشابهة، فكل الآيات في القرآن الكريم نجد به صور بيانية رائعة، ونظم فريد، وفيه استخدام معجز لكل ما في اللغة العربية، فلقد أنزل الله تعالى كتابه في صورة (قرآن) يُقرأ عربيّاً، يستخدم حروف اللغة العربية نفسها وطرائق التعبير نفسها وأساليب القول نفسها، ولكن بنظم إلهي معجز، لم يستطع العرب قبل أو بعد أن يأتوا بمثله على الرغم من التحدي القائم إلى يوم القيامة، قال تعالى: (وكذلك أنزلناه قرآناً عربياً وصرّفنا فيه من الوعيد)، بالتالي، التحدي الإلهي واضح بأن يأتي أحد بمثل القرآن الكريم، وما كان ليتحدى العرب لو كان بغير لغتهم، قال تعالى: (ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي)، هذا يأخذنا إلى أن وسائل البيان العربي ينبغي أن تكون مستمدة من طرائق التعبير القرآني، بالتالي إن النظر في تراكيب آيات القرآن الكريم وفي صيغه الصرفية وفي اختياره للحروف وتآلف الكلمات والترابط بين المضمون واللفظ هو السبيل الوحيد لمعرفة البيان القرآني، قال تعالى: (لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا)، هذه اللغة لغة إسلامية فيها كل ما لدى العرب من فنون القول وإيقاع الشعر وروعة التعبير، التي عرفوها من أوزان ومصطلحات وتفعيلات وبحور، جاء بها القرآن قبل أن يعلموها بكثير، من هنا من تدبر القرآن الكريم والبيان القرآني وجدها نموذجاً رائداً لا مثيل له.
من هذه المقدمة المطولة، التي كان لا بد منها، لتكون لاحقة لسلسلة التفسير التي بدأناها في تفسير سورة طه، والتي فيها من الخشوع ما يُبكي القلب ويدميه لشدة قوتها بياناً ولغةً وموعظةً، قال تعالى: (قال ربِّ اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدةً من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي واشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيراً إنك كنت بنا بصيراً قال قد أوتيت سؤلك يا موسى)، في هذه الآيات الجميلة، نجد موقف جديد في قصة موسى عليه السلام، ولا شك بأن هذا الموقف كان تكراراً لمواقف سبقت، بالموقف الأول حين ناداه ربه فيه (لموسى) وقال له (اخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري…)، إلى آخر ما جاء في هذا الخطاب الإلهي، إذ يمكن أن يكون موقفاً مستمراً إلى نهاية الحوار عند عتبة فرعون الذي أرسل إليه النبيان موسى وأخوه هارون عليهما السلام.
لا بد أن تكون المواقف متعددة، موقف يُنبّئ فيه بأنه نبي وبأنه موحى إليه، وأنه مكلف بهذه الرسالة، وموقف يتبين فيه عدته من المعجزات التي أتاحها الله له وعرّفه قيمتها وأثرها، ثم موقف آخر والتي شرحناها في المواضيع السابقة بشيءٍ من التفصيل، حيث أعد موسى نفسه لتحمل الرسالة ويسأل ربه أن يؤتيه بعض ما يحتاج إليه في بلاغ الرسالة وهو ما يتضمنه ذلك الدعاء الذي بدأ (رب اشرح لي صدري) حيث ذكر الزمخشري سراً، ونذكر الثاني فيما بعد قال: فإن قلت (لي) من قوله: (اشرح لي صدري ويسر لي أمري) ما جدواه والكلام مستتب بدونه، قلت: قد أبهم الكلام أولا فقيل اشرح لي ويسر لي فعلم أن ثم مشروحاً وميسراً ثم بين ورفع الإبهام بذكرهما فكان أكد لطلب الشرح والتيسير لصدره وأمره، أما السر الثاني فهو أن تكون فائدتها الاعتراف بأن منفعة شرح الصدر وتيسير الأمر راجعة إليه وعائدة عليه فإن اللّه عز وجل لا ينتفع بإرساله ولا يستعين بشرح صدره تعالى، فما جاء في الآية أعلاه هو الموقف الثالث الذي سأله موسى فيه ربه أن يشرح صدره بهذا التكليف الجديد الذي يتلقاه ليتوجه به إلى فرعون الذي يعرفه حق المعرفة، فقد تربى في بيته، وهو لا ينسى ما عرفه عنه من جبروت وطغيان ومن تجاوزٍ للحد بشكلٍ بشع، وفرعون كان تقريباً الملك “الذي يعتبر نفسه إلهاً” في العالم كله في ذلك الزمان، ورسالة موسى اقتضت أن يتنازل فرعون عن كل ما نصوره لنفسه، أن يتنازل عن الألوهية وأن يخضع لموسى عليه السلام، ثم يقوده الخضوع إلى الله تبارك وتعالى، ويصبح إنساناً ككل الناس، وهذا الأمر فيه من الخطورة الكثير، وهذا ما كان يتصوره موسى عليه السلام عندما كان يدعو ربه.
كما تخيل موسى عليه السلام التكليف الذي هبط عليه من السماء وخاطبه به رب السماء والأرض، هذا التكليف يحتاج إلى عدة، وأنه غير مؤهل لتحمل هذه المسؤولية إلا إذا انزاحت عن نفسه مشاعر التردد (اشرح لي صدري) كي يقبل على هذه المهمة دون تردد، (اشرح لي صدري) حتى استطيع أن أقوم بهذا الواجب، معتنقاً إياه في عقيدة جديدة لم يعرفها فرعون ولم تعرفها أمة مصر، وإنما هي عقيدة جديدة تمثل تكليفاً ملزماً لفرعون ذاته، ذلك الذي كان يقول لشعبه: (ما علمت لكم من إلهٍ غيري)، (ونادى فرعون في قومه قال يا قومي أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين) يعني لا بد أن الأمور كانت واضحة جداً فيما يتعلق بمراحل العرض والإقناع، وهذه في الواقع مهمة كبيرة لا بد أن يستعد لها موسى، وقد ألهمه الله تبارك وتعالى أن يطلب ما يشاء من عدة وتجهيز وإعانة من الله تبارك وتعالى، فألهمه ربه بأن يدعو بهذا الدعاء (اشرح لي صدري) وهذا نعمة من نعم الله تبارك وتعالى منّ بها على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقا له : (ألم نشرح لك صدرك) وهذه هي العدة الأساسية في بناء الموقف الرسالي، الموقف الرسالي يحتاج إلى اقتناعٍ أساسي يتكلف به ويتمثل به ذلك النبي الذي سيواجه مشكلاتٍ هائلة، ويرى أنه في تلك المواجهة لا بد أن تكون هناك تضحيات واستعداد لتحمل المشاق، وكل ذلك لا يمكن أن يتحقق لإنسانٍ إلا إذا تجهز بعدة هائلة أولها شرح الصدر التي طلبها موسى لنفسه وطلب (ويسر لي أمري) فإني أتوقع عقبات هائلة لا يذللها إلا تيسير الله تعالى.
(واحلل عقدةً من لساني يفقهوا قولي) كان موسى فيما يقرر المفسرون يشعر بعقدةٍ في لسانه، هذه العقدة فسرها كثيرون بأنها نتيجة التربية في بيت فرعون، فحل العقدة هي مقدرة موسى على إتمام مهمته بالدعوة المناطة به ونشرها على أكمل وجه، ولننظر إلى الدعوة الأخرى (واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري)، هو يعلل هذا المطلب في سورة القصص (وأخي هارون هو أفصح مني لساناً) بالتالي لذلك طلب موسى من ربه (أن يجعل له وزيراً من أهله هارون أخي أشدد به أزري وأشركه في أمري) وكل ذلك ناشئٌ عن أنه يدرك طبيعة جبروت فرعون، وأنه يحتاج لمن يؤازره ويساعده في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، وهذا كله مضمون هذا الدعاء، فالوزير هو من يُشد الظهر به وهو كناية عن أنه يستطيع أن يقف منتصباً ويواجه خصمه بكل شموخ ولا يجبن أمام جبروت فرعون، فالوزير يشد الأزر وكيف إن كان الوزير أخ موسى، (وأشركه في أمري) أي أن يكون هارون شريك موسى في الرسالة، وهذا مطلب جميل قبله الله تبارك وتعالى واستجاب له بعد أن شرح موسى عليه السلام الهدف من وجود وزير (كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيراً إنك كنت بنا بصيراً) وهذا في حقيقة الامر، إدراك لمفهوم العبادة ومفهوم الرسالة وأن الإنسان لا يستطيع أن ينال رضا الله تعالى إلا بمزيدٍ من التسبيح والحمد الكثير.
فما قاله النبي موسى (كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيراً إنك كنت بنا بصيراً) وهنا يأتي إجابة الله تبارك وتعالى، الإجابة الفورية قال: (قد أوتيت سؤلك يا موسى) تأمل عظمة الخالق وروعته في الاستجابة التي قد تحدث لأي منا إن أصدقنا القول وأرضينا ربنا، هذه الإجابة مدهشة، ويستمر القرآن في تذكير موسى بعظمة الله تعالى وبما يمن عليه في مواقف أخرى سنصل إليها تباعاً.
في تفسير سيد قطب (ظلال القرآن)، لقد طلب إلى ربه أن يشرح له صدره، وانشراح الصدر يحول مشقة التكليف إلى متعة، ويحيل عناءه لذة؛ ويجعله دافعاً للحياة لا عبئاً يثقل خطى الحياة وطلب إلى ربه أن ييسر له أمره، وتيسير الله لعباده هو ضمان النجاح. وإلا فماذا يملك الإنسان بدون هذا التيسير ماذا يملك وقواه محدودة وعلمه قاصر والطريق طويل وشائك ومجهول وطلب إلى ربه أن يحل عقدة لسانه، وقد دعا ربه في أول الأمر دعاء شاملاً بشرح الصدر وتيسير الأمر . ثم أخذ يحدد ويفصل بعض ما يعينه على أمره وييسر له تمامه، وطلب أن يعينه الله بمعين من أهله، هارون أخيه. فهو يعلم عنه فصاحة اللسان وثبات الجنان وهدوء الأعصاب، فطلب إلى ربه أن يعينه بأخيه يشد أزره ويقويه والأمر الجليل الذي هو مقدم عليه يحتاج إلى التسبيح الكثير والذكر الكثير والاتصال الكثير. فموسى عليه السلام يطلب أن يشرح الله صدره وييسر له أمره ويحل عقدة من لسانه ويعينه بوزير من أهله. كل أولئك لا ليواجه المهمة مباشرة؛ ولكن ليتخذ ذلك كله مساعداً له ولأخيه على التسبيح الكثير، تعرف حالنا وتطلع على ضعفنا وقصورنا وتعلم حاجتنا إلى العون والتدبير، لقد أطال موسى سؤله، وبسط حاجته، وكشف عن ضعفه، وطلب العون والتيسير والاتصال الكثير. وربه يسمع له، وهو ضعيف في حضرته، ناداه وناجاه. فها هو ذا الكريم المنان لا يخجل ضيفه، ولا يرد سائله، هكذا مرة واحدة، في كلمة واحدة فيها إجمال يغني عن التفصيل وفيها إنجاز لا وعد ولا تأجيل كل ما سألته أعطيته فعلاً لا عطاء ولا استعطاء وفيها مع الإنجاز عطف وتكريم وإيناس بندائه باسمه: (يا موسى) وأي تكريم أكبر من أن يذكر الكبير المتعال اسم عبد من العباد.
هذا يعني كفاية وفضل من التكريم والعطف وقد طال التجلي؛ وطال النجاء؛ وأجيب السؤل وقضيت الحاجة، ولكن فضل الله لا خازن له، ورحمة الله لا ممسك لها، فهو يغمر عبده بمزيد من فضله وفيض من رضاه، فيستبقيه في حضرته، ويمد في نجائه وهو يذكره بسابق نعمته، ليزيده اطمئناناً بموصول رحمته وقديم رعايته. وكل لحظة تمر وهو في هذا المقام الوضيء هي متاع ونعمى وزاد ورصيد، فجمال هذه العلاقة الروحانية بين عبد وربه وليس أي عبد، بل نبي من أنبياء الله، خطاب رائع وراقي يدل على عمق الرسالة السماوية وعمق التواصل مع الخالق عز وجل، من الحكم والمواعظ والمعاني.. وللحديث بقية.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان