حمد الرمضاني
خيم الليل سدوله.. ونشر الظلام في الحي هدوئه وسكونه.. والكل ذهب إلى فراشه للنوم والراحة والإستكانة.. بعد يوم مضن.. وجهد أتعب القلوب والأجساد، وأرهق العقول والأفكار.. الصغار منهم قبل الكبار.. غطت الأم صغارها.. وأطمأنت على كل من في دارها.. والقت قبلة دافئة على جبين زوجها.. المنهك جسده من مشواره لهذا اليوم.. لقضاء متطلبات البيت والأولاد والمدرسة بالإضافة إلى عمله الرسمي اليومي.. ركن رأسه ليستريح على المخدة المخملية الناعمة.. لتحتضن همومه وتعبه.. وتنتشل أكوام أرقه ومشاق عمله.
إقتربت الساعة من الثانية ليلا.. وإذ بالزوجة يدغدغ أطراف أذنيها همسا من الأنين.. ضنت في البداية حلما يراود خيالها.. إلا إن هذا الأنين بدأ يزحف إليها.. وتتصاعد حدته ويزداد شدة وقوة.. إلتفتت إلى جانبها.. إنه زوجها يصارع إختناقا جاثم على صدره.. يحاول بكل قوة أن يجاهد ليحرك جسده المثقل.. ويداه مخدرتان و منهارتان.. ووجهه المبلل بالعرق يكسوه الوجم والشحوب.. وعيناه تحكي ألف حكاية.. تقرأ من خلالها الألم والمشقة والصراع لقول شيئ ما يختلج في ظلمات صندوق صدره…
إنطلقت الزوجة إلى إبنها الأكبر.. فأيقضته من نومه ، وهي تصرخ في وجهه.. أبوك يحتضر.. أبوك يحتضر.. اطلب الإسعاف فورا.. تناول الإبن عكازه ليساعده في الوصول إلى التليفون.. وما هي إلا دقائق معدودة حتى وصلت سيارة الإسعاف.. وقبل الوصول إلى بوابة المستشفى.. ودع الرجل زوجته ورفيقة دربه وأبنائه المرعوبين بمصير والدهم .. دون أن ينطق بكلمة واحدة.. نظرات خاطفة حزينة.. انطلقت كالسهم من عينيه المتعبتين .. تحفر كلماتها بدماء الحزن والآسى وفراق الرحيل.. في هذه اللحظات العسيرة الصعبة.. تفقد الأسرة عائلها الوحيد – بعد الله – ورجلها المتكفل بأعباء الحياة ومتطلبات الأسرة.. ظلها الذي يحميها من صقيع مخاطر الزمن و التيارات الخاطفة المميتة.. ويرسم لها أزهار البسمة وروائع البهاء على صفحات وجوه أبنائه وأسرته وأحبائه.
بعد إنقضاء مراسم أيام العزاء.. بدأت الزوجة تفكر في الآتي، ما الذي تفعله؟.. لديها ٥ بنات في ريعان الشباب وإثنين من الأبناء.. الإبن الأكبر سنا في الكلية.. وعلى وشك التخرج ولديه عاهة في رجله ومشكلة تكسر في كريات الدم.. يحتاج إلى عناية طبية وتنويم في المستشفى لتزويده بالدم كلما ازداد المرض حدة وألما.. وبالمثل لأخته الصغرى ولكنها أقل حدة.
أما هي أي الأم فتعمل مديرة لمدرسة حكومية ولديها من المسؤوليات الجسام ما يكفيها عن تحمل أعباء إضافية أخرى.
بعد تفكير عميق وصراع مع نفسها لإتخاذ القرار المناسب لها ولأسرتها .. قررت أن لا تستكين لليأس ولا ترضخ للقنوط.. ففوضت أمرها لله.. واتخذت عهدا بأنها سوف تسخر حياتها من أجل أبنائها مهما كلفها الأمر من مشقة وجهد وعطاء في سبيل تربيتهم ، وتوفير سبل الراحة والعيش الكريم.. واصلت كفاحها من أجل أبنائها.. حيث واصلت عطائها وجهدها ليل نهار لتستمر الحياة دون الشعور بالنقص أو الحاجة للآخرين.. من أجل إنهاء دراسة أبنائها وبناتها.. فقسمت وقتها بين العمل الرسمى كمديرة مدرسة والجلوس مع أبنائها لتلبية متطلباتهم وحل مشاكلهم والإستماع إلى أرائهم لهذه المرحلة من السن.. وعلاج إبنها وإبنتها المريضين وضرورة البقاء معهما في المستشفى لأسابيع وأيام.
واصلت الأم حياتها بكل جد واجتهاد وصبر ومثابرة دون كلل أو ملل.. راسمة البسمة والفرح والسرور في وجوه أبنائها.. وصولا لتحقيق الأهداف والغايات التى تثلج صدرها وتؤجج معاني الإعتزاز والفخر لها ولأبنائها..
ومع مرور الوقت.. فكرت الأم ببيع المنزل الذي يسكنون فيه حاليا نظرا لصغره ، ولأنه سيتنزف منهم الكثير من الأموال للصيانة لقدمه ، وكذلك الإبتعاد قليلا عن الذكريات المؤلمة التى حاصرتهم وكبلت جزءا من مسيرة حياتهم الفتية.. إن الأولاد كبروا ويحتاجون إلى غرف إضافية ليكونوا أكثر راحة وسعة و استقلالية.
أدركت الأم بخبرها وكفاحها.. الحاجة إلى بيت جديد ربما قد يغير من نفسية الابناء إلى الأفضل.. لذا بنت بيتا جديدا على الأرض التى خلفها والدهم بعد موته في مكان جيد ومنطقة راقية وهادئة بعيدا عن الضوضاء وصخب الإزدحام..
وها هي اليوم.. الأم المكافحة الصابرة.. تفتخر بولديها اللذان يعملان في رعاية الأسرة وأخذا جل المسؤولية الملقاة على عاتق والدتهم خلال تلك السنين الطويلة المضنية من العمر ، المليئ بالكفاح وحجم المسؤوليات الجسام… أما بالنسبة للبنات الخمس فقد تخرجن من الكليات بتفوق وإقتدار ، أثلج صدر هذه الأم المثالية في الإصرار والصبر والكفاح.. معتمدة على الله.. وعلى الإصرار في السير قدما كأم لمواصلة المشوار.. وإلى مزيد من النجاح والتفوق وتحقيق الأحلام والأمنيات.. إنها الأم التى لا ينطفى عطاؤها.. ولا يرتاح ضميرها.. ولا يسمع أنين ألم جسدها.. مهما بذلت من جهد وعطاء لأجل فلذات أكبادها.
#عاشق_عمان