في ظل متغيرات وتحوُّلات تنموية متسارعة تطرحها رؤية عُمان 2040 في أولوياتها، وتستشرف خلالها مستقبل العمل الوطني في العقدين القادمين، ولمَّا كان من شأن هذا التسارع مع تزايد تنفيذ المستهدفات أن يؤدي إلى حالة من البطء وفجوة اللحاق في ظل ما قد يصاحبها من إغفال المواطن عن المشاركة في صياغة مشروعات التنمية أو إبداء رأيه بشأنها أو إعطاء صورة أكثر وضوحا حول طموحاته وهواجسه وأولوياته من هذه المشروعات، ومنعا من وجود أي مبرر قد يعطّل فرص هذه المشاركة، لذلك كان من الأهمية التفكير في بدائل وخيارات تواصلية وجسور اتصال احترافية تمنح المواطن فرص المشاركة والتعبير عن رأيه، وفي الوقت نفسه تتيح للحكومة ـ ممثلة في الجهات المعنية ـ سرعة تنفيذ هذه المشروعات المستهدفة وتجنب التعقيد والازدواجية فيها، خصوصا إذا ارتبطت المسألة برأي المجتمع، وما قد يثيره الأمر من تكهنات أو تحفظات تؤخر عملية تنفيذ هذه المشروعات عن وقتها المحدد، ناهيك عن أن استقراء رأي المواطن اليوم لم يعد من الصعوبة بمكان في ظل ما وفرته التقنيات الحديثة والمنصَّات الاجتماعية ومحركات البحث العالمية وقواعد البيانات من فرص، وأتاحته من أدوات متخصصة تعمل في قياس الرأي العام وتوفير نواتجه وفق قواعد بيانات تعطي مؤشرات وحقائق وإحصائيات دقيقة يمكن من خلالها تحليل مرئيات المواطن في التعاطي مع هذه المشروعات.
وعليه، تمثل لغة الاستفتاءات وقياس الرأي العام إحدى أهم الأدوات المهمة في رسم خريطة التنمية والمستهدفات التنموية على المستوى الوطني عامة وعلى مستوى المحافظات؛ لِمَا لها من أثر إيجابي في إعطاء صورة أكثر واقعية تتناغم مع ما يفكر فيه المواطن، ويصنع لأفكاره وتجاربه وتطبيقاته حضورًا مُهمًّا في مسارات التنفيذ، فمن جهة تُمثِّل صورة للعقل الجمعي الذي تتمازج فيه آراء الكل أو الأغلبية لتشكل منطلقا للعمل القادم، ومن جهة أخرى يؤسس لبناء ثقة المواطن واستشعاره الجدية فيما يقدمه من أفكار ومرئيات ووجهات نظر، ناهيك عن تقوية مسارات الشراكة فيما تطرحه مؤسسات الدولة وقِطاعاتها المختلفة، في إطار مقارنة نتائج هذه الاستفتاءات والمسوحات ووجهات النظر بنتائج الدراسات والبحوث والإحصائيات والمؤشرات العالمية لتعطي صورة واضحة حول العمل القادم والإنجاز المتحقق، مدخلا لتوليد آليات مبتكرة ومنهجيات متعددة وأدوات محكمة تقدم مؤشرات واضحة حول هذه المشروعات وتشخيص واقعها، وتقييم حجم التأثير الذي تحدثه في سلوك المستهدفين منها، بحيث تقيس لغة الاستفتاءات مسار التوجُّه، ومدى تحقيق الأولويات، ووقوفها على مسارات التنفيذ لتعمل جنبا إلى جنب مع المدركات البيانية الأخرى في رسم ملامح إيجابية حول برامج العمل وأدوات المتابعة وآليات التنفيذ، والتصحيحيات والمراجعات والأولويات التي تضمن متابعة المواطن للمستجدات، وقدرته على الاستفادة من نتائج قياس الأداء، ويبقى نجاح لغة الاستفتاءات في قوة مسار المتابعة لما بعد النتائج والتزام الجهات المعنية بالتنفيذ، وكفاءة آليات العمل والإجراءات المتخذة من قبل المؤسسات.
على أن مسألة تنشيط لغة الاستفتاءات والمسوحات ووجهات النظر وقياس الرأي العام حول القضايا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية والتربوية، وقضايا التشغيل والتوظيف والتسريح، وغيرها من القضايا التنموية التي تمس هاجس المواطن، خصوصا في ظل فرص التمكين الممنوحة للمحافظات وتجسيد مسار اللامركزية في التنفيذ عبر استقراء رأي المواطن في مختلف المشروعات المنفذة بالمحافظات؛ لم تعد حالة طارئة وقتية ترتبط بمزاجيات القائمين على المتابعة والتنفيذ والإشراف، بقدر ما هي إجراءات ثابتة ومنهجيات أصيلة وبرامج معدة تلتزم أطرا واضحة وتستفيد من كل الفرص التي يطرحها الواقع، لضمان الوصول إلى نتائج أكثر مهنية ومصداقية وموثوقية، بما من شأنه أن يصنع للبيانات والإحصائيات الناتجة حياة متجددة تتناغم مع الواقع الوطني وتستجيب للمستجدات الحاصلة، وتضع المواطن أمام واقع تنافسي جديد عليه أن يعزز من مهنية الاتصال والتواصل وبناء شراكات أكبر تتيح له مساحة أكبر للتعايش المعرفي، الأمر الذي يجعل من هذه الاستفتاءات محطة تحول مهمة في عمل المحافظات لتوليد البدائل وصناعة الخيارات وإنتاج الحلول وتقوية مسار الشراكة والمشاركة الشاملة في استيعاب برامج التنمية الوطنية، وبالتالي أن تصبح الاستفتاءات جزءا أساسيا من المنظومة الوطنية للحوكمة وقياس الأداء بحيث تجند لها القدرات والكفاءات التي تعمل على تنفيذها.
لذلك نعتقد بأنه حان الوقت لإيجاد تقسيمات تنظيمية مهمتها الأولى وضع إطار وطني شامل ومتكامل لقياس الرأي العام، “مختبر وطني” يعبِّر عن مسار إعلامي واضح ومتخصص يتكامل مع مستهدفات الرؤية ويترجم أهدافها ويجسد برامجها ومشروعاتها، بحيث تقع عليه مسؤولية قياس التغذية المرتجعة من المشروعات المنفذة أو قيد التنفيذ، وتكون من بين مهامه تنفيذ المسوحات المعمقة والدراسات وأدوات القياس التي تتيح لها فرص التعمق في الحالة المجتمعية، للوصول إلى موجهات تعتمد عليها منظومة العمل الوطني في أي قرارات تتخذها، كما يمتلك الصلاحيات والممكنات الإدارية والمهنية والتقييمية والخبراتية وبرامج الدعم اللوجستية والفنية، والآليات التي تعمل على تحليل السياسات التنموية في القِطاعات المختلفة، وضمان ملاءمتها للخطط الخمسية، ورصد التحدِّيات والفجوات وتوظيف الفرص التي تنتجها، أو المتغيرات والأبعاد المتوقعة أن تؤدي إليها في ظل معطيات الواقع؛ خيار المرحلة الاستراتيجي، والإطار الداعم لنفاذ الرؤية ووصولها إلى حيز التطبيق، بما يتيحه من فرص تحليل السياسات وإعادة هيكلة الأفكار المطروحة، وإشراك المجتمع في صناعاتها، وبناء عقيدة مهنية متجددة في حياة المواطن تنشأ معه في مختلف مراحل حياته، وفق إجراءات ثابتة وأطر واضحة تعمل على تعظيم قيمة استطلاع الرأي والاستفتاء في فقه المواطن وسلوكياته اليومية وأولوياته التنموية، وتصبح ممارسته لسلوك الاستفتاء والإجابة عن الأسئلة المطروحة ووجهات النظر التي تتقاطع أحيانا أو تتقارب في أحايين أخرى، محطة لالتقاط الأنفاس، وتشكيل الصورة الذهنية التي يطبعها المواطن على المشروعات الوطنية والجهود التي تقدمها أجهزة الدولة وقِطاعاتها ومؤسساتها، من شأنه أن يولد قناعات إيجابية حول قيمتها المضافة وأهميتها، بما يؤكد على تبنيها وتحقيق التزام مجتمعي نحوها، الأمر الذي من شأنه مساعدة المواطن في إعادة ترتيب أفكاره واولوياته، وتصحيح ما علق في ذهنه من أفكار وتخيلات غير سارة بشأن البرامج والمشروعات التنموية المنفذة أو المتوقع تنفيذها مستقبلا، بحيث يتعدى دور المختبر تطبيق أدوات قياس الرأي العام على شكل استفتاءات واستبيانات واسئلة، إلى قياس نتائج هذه الاستفتاءات والمؤشرات التي تنتج عنها، والمبررات والعوامل والظروف التي تفسر هذه النتائج، فالمسألة أكبر من مجرد عملية قياس الرأي العام وتحديد مؤشراته، إلى تكوين اتجاهات واضحة لها دلالاتها حول المشروعات التنموية المنفذة، وتعظيم قيمتها المضافة على حياة المواطن.
أخيرا، فإن ما تحمله رؤية عُمان 2040 من طموحات متعاظمة وأهداف سامية وبرامج وخطط وسياسات يستدعي أن يواكبها جهد تحليلي متعدد الأدوات، متنوع الأطر لقياس مستوى الثقافة المرتجعة من المواطن حول المشروعات التنموية والبرامج الوطنية، فهو طريق الرؤية إلى الاستدامة، وصوت المواطن للتعبير عن هاجسه وطموحاته وتوقعاته، بحيث يقف على مواقع الإنجاز المتحققة في مشروعات البنية الأساسية والخدمية والاقتصادية والصناعية والسياحية أو غيرها، وفق إحصائيات دقيقة ومؤشرات تحدد تفاصيل الإنجاز، والفرص التي حققتها للمواطن، كما تقف على التشريعات والضوابط والاشتراطات والجهود التي تبذل في سبيل تبسيط الإجراءات وتقليل الهدر وتعميق روح المسؤولية وضبط الموارد واستغلال الثروات، ومحاسبة الجهات المسؤولية المنفذة لها أو المشرفة عليها في أي انحرافات قد تضر بأولويات الرؤية، ويبقى وجود إطار وطني لتأصيل لغة الاستفتاء وقياس الرأي العام خيارا استراتيجيا لضمان مواكبة التقدم الذي يحصل في برامج الرؤية ومستهدفاتها، ومشاركة المواطن في صياغة معالمها، وتوفير الضمانات التي تتيح للمواطن فرص التعمق في ابجديات ثقافة البحث العلمي وتحليل المعلومات والاحصائيات وعبر تهيئة المواطن نفسيا وفكريا ومفاهيميا ومعرفيا في التعامل مع مستهدفات الرؤية واستيعابه نواتجها في الواقع الاجتماعي والاقتصادي، والتغيير الذي يجب أن يطرأ على سلوكه ومواقفه ومسؤولياته القادمة في كل موقع من مواقع المسؤولية الحياتية والوظيفية على حد سواء، بحيث تسهم هذه اللغة التواصلية العميقة في تقريب الأفكار، وسد التباينات والفجوات، ورسم خريطة طريق تضع المواطن في صورة ما يحدث.
د.رجب بن علي العويسي