ما أقبح الشهرة عندما تستدرج مزون الكلم بأقبح الأدوات، وتسلب روح الحكمة من ذوي الملكات، وتبني بفعل الصراخ واللعب بالعبارات مساحة حضور لها في مقابل صمت الحكماء ورُقي العظاء ونخوة الكرماء، وما أحقر ما يمارسه المتزاحمون على أبواب الشهرة من تعطيل للقدرات في سبيل إرضاء غرور الذات، وفرض صورة جديدة للواقع المادي الذي بات يسيطر على حياة الناس، ليتبوأ فيه المتسلقون مواقعهم الجديدة على أكتاف الإنجاز وبصمات المخلصين، حتى غيَّب هؤلاء الحقيقة البيضاء الناصعة لمفهوم العمل في خفاء، وقيمة الإنجاز بلا أضواء، ورسموا الوجه المشوه الذي بات يسيء للفكر السليم والمنهج الحكيم والعطاء المتجدد، لقد ضيَّق المتزاحمون على أبواب الشهرة الخناق على عفوية الكلمة، وصدق المعرفة، ورصانة الفكرة، ومزون الحكمة، ليشعلوا منصَّات التواصل الاجتماعي بغثِّ حديثهم، وهم يسابقون الناس في الشاشات الاستعراضية بأساليب ملتوية، مع أنهم لم يصنعوا منتجا أو يبتكروا فكرا سوى أنهم أعطوا من لحن القول ما استطاعوا به أن يسلبوا الحقيقة من موقعها، ويسرقوا المعلومة من مصدرها ليبثُّوها في الناس بسرعة البرق، هكذا هم ناشطو المنصَّات الاجتماعية أو أكثرهم ظواهر صوتية فارغة، وأساليب تغريرية ترويجية إعلامية وقتية، تفتقر لرصانة المحتوى، وسلامة الفكرة، وصوت الوعي، ولأنهم ماديون لذلك كانت فكرة القيام بأي عمل لديهم لا تتحقق إلا في ظل مكسب وقتي أو متأخر أو مالي أو غيره، حتى أسدلوا ستار الأمل على حياة الناس بسبب صيحات المادة التي أعادت إلى الواقع أيديولوجية التفكير وكأن الحق ما هم فيه دون غيرهم، فهم أبواق للمال والتطبيل والشهرة والبحث عن الرصيد الذي بات يدخل جيوبهم بدون حساب، ويستحوذوا على رضا الشركات ومؤسَّسات المال لتكون لهم الغلبة والقوة في الحصول على المكاسب الطائلة من الدعاية والإعلانات التجارية ما لم يحصل عليه معلِّم الأجيال أو الأستاذ الجامعي أو الصحفي أو الكاتب أو العالم في مختبر أو الطبيب أو غيرهم من منتجي المعرفة وأصحاب الكلمة.
في كل يوم تصادفنا المئات من التغريدات الكلامية التي يحاول أصحابها الاصطياد في الماء العكر، ونسمع ونقرأ غرائب الأحداث وعجائب التصورات والأفكار مما يستقبحه المنطق ويفتقر للمهنية، فهذا يحرم ما أحله الله، وآخر يحلِّل ما حرم الله، وذلك يتجرأ على ما هي مسلمات في المجتمع ومعتمد في فقه الناس، وذلك يبحث فيما تركه الناس من عادات لم يعد وجودها ذا أهمية، فيثير بها فتنة تخرج عن منطق الحكمة، وذلك يقترح إلغاء الإجازات الوطنية، وآخر يطالب الناس بالعمل في أيام الإجازة الأسبوعية، وثالث يبحث عن الثغرات ويختلق من الأكاذيب والقصص المزورة ما لم ينزل الله به من سلطان، وأنه سمع هذا الخبر أو المعلومة من صديقه وزميله لينسج خطيئة جديدة يطلق شررها على المجتمع المسالم، فذاك لم تقبله المرأة لسواد في رجله، أو بياض في عينه أو غيرها من الأوصاف الغريبة والعجيبة، وهكذا أصبح كل واحد منهم يفتح مواجع منسية وأحزانا مرمية أو يشوه الحقائق المعروفة ويسعى للتدليس والزج بها في أفكار هذا الجيل المتشبع بالصدمات، على أن الأغرب في الأمر أن يكون لهؤلاء من يدعمهم بالنشر، وينشر لهم هذه المقاطع الكلامية أو الكلمات المستهجنة، في حين لا يصنع هذا الحساب أو ذاك من نفسه منصَّة دعم لنشر المقالات والبحوث والمقترحات الرصينة التي تحمل محتوى مهنيا راقيا، وبين سطورها قضايا الإنسان والتنمية والأوطان، لتمارس تلك الحسابات دور الصانع للتفاهة والتفافهين، والمخبرة عنهم والمساندة لفعلهم والمعززة لظهورهم. لذلك لا غرابة في ازدياد أعداد المتسلقين على أبواب الشهرة، والباحثين عن سرقة الأضواء والمتعطشين إلى تصفيق الجمهور؛ لأنهم بتصرفاتهم اختبروا ضجيج الرأي العام فوجوده حالة تابعة تتأثر بما يغرد به التافهين من أخبار، ليتم تناقلها بأوسع الطرق وتنوع الوسائل. لقد استغل التافهون هذه المنصَّات في تضليل الرأي العام بنشر الإشاعات، وإيضاح مآربهم وتحقيق غاياتهم وأهدافهم، في استحمار لعقول الناس، واستفزاز لمواطن الضعف فيهم.
وهنا يأتي التساؤل: من صنع التفاهة؟ ومن أوجد للتافهين فرص حضور لهم في هذه المنصَّات؟ من أشار إليهم؟ ومن تداول مقاطعهم؟ ومن أثرى محتواهم بردود من الشرع والدين والقانون والنقل وغير ذلك؟ لتتَّجه أصابع الاتهام لنا جميعا، فالحقيقة نحن من صنع التافهين، ونحن من أوجدهم، ونحن من منحهم استحقاقات الشهرة والتعريف بهم، وإلا فهم نكرة على حساب المبادئ والمخلصين، وصنَّاع الكلمة الذين يفترض أن تكون لهم أولوية التشجيع ومساحة الاهتمام وفرص استشعار وتحليل محتواهم المعرفي والفكري الموسوعي والرصين، ولكونهم لم يكتبوا ما يخالف الدين ويستقوي على المبادئ أو يعاكس العرف، لم يجدوا من يسوق لكتاباتهم أو يعرِّف بأطروحاتهم، أو ينشر مقالاتهم، أو يتبنَّى إنتاجهم، أو يعيد تغريد ونشر كتاباتهم بما تحمله من طيب الكلمة، وحس الواجب، وموضوعية الطرح، ومصداقية الفكرة ـ إلا قليل ـ فإن المقاربة بين أعداد المتفاعلين مع الحسابات الرسمية والشخصية التي تنشر الفكر العلمي الرصين والمتنوع، والمتفاعلين مع ما ينشره مشاهير الفلس والمحتوى الفارغ، قد تجحف أُسس المقارنة، ومع ذلك هل تدرك الناس أنها بهذا الفعل تشجِّع هؤلاء على الاستمرار، وتدعوهم إلى المزيد من الخداع والتضليل على الناس؛ كونه تعبيرا عن الاحتواء الفكري لهم والضمانات التي تتيح لهم الاستمرار في تداول مثل هذه الأفكار لتعيش المجتمعات الآمنة اليوم في ظل هذه التناقضات الفكرية، والتذبذبات المعرفية، حالة من التشويه لهُويتها ومبادئها وقِيَمها وثوابتها؟ ليجد هؤلاء في ظل افتقارهم لأخلاقيات المهمة، وفراغ الضوابط، والبحث عن الكسب المادي السريع، فرصتهم في نشر الأفكار التحريضية وانتزاع ثوب الحياء والقِيَم والأخلاق.
أخيرا، وبجانب ما أشرنا إليه من دور الفرد في إعادة تقييم هذه الصورة ورسم خريطتها في ذاته، فإن على الخطاب الرسمي الإعلامي والديني والتعليمي والأُسري اليوم أن يتحمل مسؤولية أخلاقية وأمانة تأريخية وطنية في الكشف عن ملامح الصورة التي ارتبطت بـ”مشاهير السوشيال ميديا” في الواقع والغايات والأهداف المبطنة التي يعملون على تحقيقها، حتى لا تقع الأجيال القادمة في فخ الشهرة، على حساب المبادئ والقِيَم والأخلاق وحس الكلمة واستشعار المسؤولية، فلن يستطيع هؤلاء أن يطفئوا الكلمة الطيبة، نبراس الحياة وضوءها، ومنهلها وسراجها، ونورها وتبيانها، مهما حاولوا تزيين حناجرهم، أو تصويب سهامهم على صنَّاع الكلمة الطيبة والقول الحَسن؛ لأنهم ببساطة باحثون عن الشهرة، والتصفيق، والمدح والثناء، والإعجابات، واعتمادهم على الصراخ، ورفع الأصوات، وما يتاح من عروض الدعاية لمساحيق التجميل وغسيل الأواني والمطابخ وغيرها من المستهلكات الوقتية، لذلك لن يصمدوا في مواجهة صوت الكلمة الراقي، وحكمة المعرفة التي تتجاوز صيحات الأفواه وقشور الكلام، فإن الكلمة الصادقة التي يفتقدها مثل هؤلاء هي صوت الحق الذي يُعلي المبادئ ويرقى بالفضائل ويحمل هموم الأوطان وطموحاتها وأحلام الإنسان ومبادئه، من يقف على الواقع لتحكي الإنجازات بنفسها واقع العمل وثمرة الجهد والمتابعة بدون فرقعات إعلامية وصيحات كلامية، شواهد إثبات على ضحل محتوى مشاهير الفلس وناشطي الإعلانات ومروِّجي العروض والدعاية؛ لأنهم يربطون صراخهم ودعاياتهم بما يحققونه من أرباح وما يحصلون عليه من هبات، وعندما يكتشف الناس حمقهم، وتبدأ إدارة منصَّات التواصل الاجتماعي بتقييم ذاتها وتسريح موظفيها كما فعلت ـ فيسبوك ـ وطلب الرسوم من هؤلاء الناشطين، عندها لن يثبتوا أمام المطالبات القانونية والمالية لهذه الشركات، فهم يعيشون حالة من القلق والخوف وضعف السلام الداخلي وارتفاع سقف التباينات والاختلافات بينهم، وتبقى الصورة الشكلية التي يتغنون بها أمام الجمهور، ما هي إلا ظواهر صوتية لن تصمد، وأبواق فارغة نفختها رياح المال والشهرة حيث لا بقاء لها أمام عظمة الكلمة الصادقة والإنجاز الحَسن.
د. رجب بن علي العويسي