عرفت من آبائي أن للشعر أشكالا أخرى غير ما أطالعه في المناهج الدراسية –
تعلمتُ من صلاح عبد الصبور أهمية أن تكون الثقافة طريقة حياة –
القصيدة الجديدة بطبيعتها خفيضة الصوت وتحتاج لإنصات لا إلى ضجيج –
ليس المطلوب من صاحب القصيدة الجديدة أن يكون داعية أو قائدا عظيما –
الإنسان يحتاج إلى شيء من التقدير يجعله على ثقة بالحياة –
محمود درويش يقف فوق تلة الشعر مثل سنديانة شاهقة ووحيدة –
لا يمكن لنا سوى النظر إلى الخلف بمزيد من المغفرة والرحمة –
الشعر في العالم كله يعيش أزمة منذ سنوات –
يعد الشاعر المصري عاطف عبد العزيز واحداً من شعراء السبعينات في مصر، غير أن قصيدته تنتمي جمالياً إلى قصيدة التسعينيين، فقد استطاع مواكبة تطور القصيدة فصار واحدا من أهم شعرائها.
عاطف عبد العزيز أصدر عددا كبيرا من الدواوين منها «ذاكرة الظل»، «حيطان بيضاء»، «كائنات تتهيأ للنوم»، «مخيال الأمكنة»، «سياسة النسيان»، «الفجوة في شكلها الأخير»، «برهان على لا شيء»، و«شيء من الغبار»، وقد تم ترجمة قصائده إلى عدد من اللغات العالمية. عاطف عبد العزيز له وجه آخر، إذ يكتب السيناريو ومؤخرا حصل على جائزة ممدوح الليثي. هنا حوار معه حول الجائزة وحول شعره وطموحه للقصيدة بعد أن وصل عمره إلى 64 عاما .
حصلت مؤخرا على جائزة ممدوح الليثي للسيناريو من مهرجان الإسكندرية السينمائي فماذا منحتك الكتابة للسيناريو إلى جوار الشعر؟
قبل إجابة السؤال، هناك قصة طريفة لابد أن تُحكى، فقد كنت منذ طفولتي عاشقا للسينما بوجه عام، إذ كانت تلهب خيالي وتستجيب لطبيعته الجامحة، ثم كان أن تطور هذا العشق مع اتساع مداركي وتعمق علاقتي بعوالم الأدب والثقافة، ليصبح جزءا من طريقتي في استقبال العالم وإدراكه، بل توغل أثر ذلك العشق -على ما يبدو- في تجربتي الشعرية، ما جعلها تتسم -حسب رأي كثيرين- بالمشهدية وعلو الحس الدرامي، ولعل هذا هو ما دفع القائمين على مجلة الشعر المصرية، إلى عمل ملف كامل عن تجربتي الشعرية، شارك فيه عديد من النقاد، ثم نشر الملف في أحد أعداد المجلة (خريف 2014) تحت عنوان (السينمائي)، وبدا وقتها أن اختيار هذا العنوان، كان تأثرا مباشرا بكلام النقاد المشاركين الذين اتفقوا بالمصادفة على رصد هذا الملمح في تجربتي، من هنا انفتحت شهيتي لفكرة خوض تجربة الكتابة السينمائية.
أما ما منحته لي كتابة السيناريو، فهو الإفلات من الضجر الذي يترصد حياة أي مبدع يكره أن يكرر نفسه، ويكره الاعتماد على اجتلاب النصوص الجاهزة من عباءة الدربة والمهارة والاحترافية، ثم قبل ذلك وبعده، فإن السيناريو -حسبما أراه- هو الشعر بطريقة أخرى.
قلت إن أصوات آبائك الشعريين ظهرت في ديوانك الأول «ذاكرة الظل».. فمن هم آباؤك وماذا استفدت من كل واحد منهم؟
طبعا كان لديَّ آباء كبار، على أياديهم عرفت -في أقل القليل- أن للشعر أشكالا أخرى غير ما كنت أطالعه في المناهج الدراسية، وعرفت أن الشعر أوسع كثيرا من القوالب الموروثة، عرفت أيضا أن الشعر صيرورة لا تتوقف.
فمن عبد الصبور مثلا، تعلمت أهمية أن تكون الثقافة طريقة في الحياة، لا محض تحصيل معارف، ثم تعلمت من مسرحه، كيف أن محبة الآخر طريق وحيدة إلى تفهمه.
أما حجازي، فقد رأيت في قصيدته الموهبة الشعرية في حدودها القصوى، فعلى يديه – وهذا في رأيي طبعا- جاءت أرفع النماذج الشعرية، وأكثرها عظمة وسموقا في ما قدمه جيل الرواد، ثم في الجيل الذي تلا الرواد، وقف محمود درويش فوق تلة الشعر مثل سنديانة شاهقة ووحيدة.
ويبقى أن أهم ما استفدته من هؤلاء جميعًا هو ألا أكونهم، بعبارة أخرى أكثر قسوة وجلاء: البر بالأب -في الشعر- قد يكون قتله.
صدر ديوانك الأول عام 1993، أي أن العام المقبل (2023) تمر ثلاثون سنة على بدايتك.. كيف تنظر خلفك؟
سؤالك يذكرني بسطر شعري للراحل حلمي سالم، ما يجعلني أقوله بتصرف «مرت الثلاثون كما يمر نبيٌّ على براقه»، ففي معظم الأحيان أرى هذه السنين برهة خاطفة لم يتح لي فيها عمل شيء مما حلمت، وللحقيقة عليَّ أن أعترف بأن مسؤوليات الحياة والتزاماتها المعيشية، أهدرت جانبًا كبيرًا من حياتي الإبداعية، فمع الأسف -وكما هو معروف- نحن أبناء الطبقة الوسطى، ليس بمقدورنا إدارة ظهورنا للمسؤوليات.
في أحيان أقل، أرى أن تلك السنوات كانت عريضة وعارمة بما يجل عن الوصف، فقد كانت -دون ريب- ملأى بالبهجة والمحبات العارضة والمقيمة، وأيضا كانت ملأى بالتحولات الصادمة والإخفاقات وفقدان الأحبة والأصدقاء، غير أننا نحن الشعراء -بوصفنا أبناء مخلصين للنوستالجيا- لا يمكن لنا في الأخير، سوى النظر إلى الخلف بمزيد من المغفرة والرحمة والتحنان.
أصدرت 11 ديواناً آخرها «شيء من هذا الغبار» ما الطبقات الجمالية التي تتشكل منها تجربتك؟
سؤالك صعب، ولعلي أكون آخر من يملك إجابته، سؤالك بالضرورة يخص غيري، فأنا أمام هذا السؤال تمامًا كمن صار عليه أن يبصر عينيه، مع ذلك فيمكنني أن أعمد إلى شيء من التبسيط المخل فأقول إن تجربتي الشعرية هي حياتي: طبقة سميكة من النصوص التي أحببتها، فوقها خبرة تشكيلية مجلوبة من دراسة العمارة والسينما، فوقها طبقة من فقدان الأحبة، فوقها أشواق مبهمة إلى ما لا أعرف، فوقها سقطات وخيانات.. إلخ.
تنتمي إلى جيل الثمانينات، وهو جيل وجد نفسه يأتي خلف جيل له بصمة قوية هو جيل السبعينات، الذي أغرق قصيدته في الغموض وأكد شعراؤه أنهم يكتبون للمستقبل.. كيف تأثرتم بهذا الجيل؟
جيل السبعينات تحديدًا مصطلح عالمي لا يخص مصر وحدها، إذ إنه أطلق أول ما أطلق، على ذلك الجيل الذي قام بثورة الشباب في أوروبا عام 1968، تحديدًا في فرنسا، وهي الثورة التي يؤرخ بها البعض لنهاية حقبة الحداثة، اتسع بعد ذلك هذا المصطلح ليضم شباب هذا الجيل في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك المنطقة العربية التي كانت تعاني بعدا إضافيًا في أزمة شبابها، كنتيجة لنكسة يونيو 1967. من هنا لا نجد معنى حقيقيا لمصطلحات أخرى مماثلة، كأجيال الثمانينات والتسعينات وغيرها، إلا إذا كان ذلك على سبيل التحديد الزمني لتبلور شاعر ما وتحققه.
وبالفعل جاء جيل السبعينات كجيل غاضب يسعى إلى هدم كل الأبنية الجمالية القائمة، معتبرًا إياها مسؤولة عن تردي الواقع، ومن ثم كانت لقصيدته الجديدة والغريبة بصمة قوية ومؤثرة، بما أحدثته من صدمة مروعة للذائقة العامة، الأمر الذي سبب اضطرابا لدى محبي الشعر والمهتمين بشأنه، فانصرف أغلبهم عن تلك القصيدة الغامضة، وتحمس لها البعض.
وبغض النظر عن التمايزات الفردية بين شعراء جيل السبعينات، فقد انبنت قصيدتهم -في ظني- على فكرة اللجوء إلى الأنساق الاستعارية، التي تعمد إلى المباعدة بين طرفي الاستعارة إلى أقصى حد، بغية تفجير اللغة وتعظيم طاقتها، كذلك سيطرت عليهم فكرة خلق معجم لغوي خاص، تتنكر المفردة فيه لمعناها المعروف، لتأخذ معنى أكثر عمقا، على نحو ما نرى لدى المتصوفة الكبار، الأمر الذي حوّل النص الشعري إلى طلسم في نظر الغالبية من القراء، مما زاد من أزمة الشعر وعزلته.
جانب من شعراء الموجة التي تلت جيل السبعينات -والذي أعد نفسي واحدا منه- كان له رأي آخر، إذ أخذ على عاتقه الوقوف بمواجهة تلك النزعة التي ارتأى أنها أقرب إلى العدمية، وقرر إعادة الاعتبار إلى اللغة الدالة، والانتصار للكناية في مواجهة الاستعارة، وكذلك الانتباه إلى شعرية كل ما هو هامشي حولنا، بوصفه بابا جانبيا للمتون الكبرى.
جماليا تنطلق من رؤية تكاد أن تتطابق مع تجربة القصيدة الجديدة في مصر والعالم العربي، هل تحسب نفسك الآن على التسعينيين؟ وهل أنت مهتم بالتصنيف الجيلي؟
يعجبني تعبيرك (القصيدة الجديدة) لأنه بسيط ودقيق ويخلو من الادعاء، ويجب القول إن أجيالا عدة ساهمت في صناعة ما يسمى بالنص الجديد، فمن يسمون بالثمانينيين بدؤوه، وما زالوا مستمرين في محاورته، والتسعينيون وما بعدهم دخلوا ونفخوا فيه من روحهم، والمدهش أن السبعينيين أيضًا انتبهوا له بعد ذلك، ووضعوا عليه بصماتهم، إذن القصيدة الجديدة الآن -إن شئنا الإنصاف- جمع جهود أجيال وموجات عدة.
لماذا يبدو صوتك خافتا في الوسط الثقافي؟ هل تميل إلى عزل نفسك عن تجمعات المثقفين؟
دعنى أبتسم قليلًا وأنا أقول إن القصيدة الجديدة بطبيعتها خفيضة الصوت، وتحتاج إلى مزيد من الإنصات للعالم بأكثر مما تحتاج إلى الضجيج، وبالطبع ليس المطلوب من صاحبها أن يكون داعية أو قائدًا عظيمًا، مع ذلك فأنا كائن اجتماعي من الدرجة الأولى، أعيش في المقاهي الشعبية، ويتنوع أصدقائي ويتدرجون من عمال إلى حرفيين إلى موسيقيين إلى دبلوماسيين، وأنا أعد هؤلاء جميعًا هم أساتذتي ومعلميَّ في الحياة.
أما عن مسألة الاندماج في تجمعات المثقفين، فهى حاضرة عند الضرورة، ويكفي أن أذكرك بالملتقيات الشعرية الدولية التي شاركت في لجانها التأسيسية وإقامتها مع شعراء آخرين مثل ملتقى القاهرة لقصيدة النثر الذي انعقدت له دورتان عامي 2008 و2009، وكذلك أحيلك إلى المجلات المستقلة التي اشتركت في تأسيسها وتحريرها مع زملاء لي مثل مجلة «إيقاعات» ومجلة «مقدمة»، هذا بخلاف المشاركة في مهرجانات محلية ودولية عديدة، ومن المؤكد أن المناخ العام محليًا وعالميا أصبح غير مؤات لإقامة أنشطة كتلك خاصة منذ اجتاحت العالم موجة وباء كوفيد 19.
هل يواجه الشعر في الوقت الراهن أزمة؟ وما أبعادها؟
الشعر في العالم كله يعيش أزمة ومنذ سنوات، ويكفي أن تلقي نظرة على مبيعات الدواوين الشعرية لدى دور النشر لتعرف مدى انحسار مقروئية الشعر، ومرد ذلك في رأيي جملة من المتغيرات التي حدثت في حياة البشر.
أولا: هناك موجة عارمة من التسليع تجتاح العالم منذ عقود، فالنزعات المادية جعلت كل شيء بحياتنا خاضعًا للتسليع، وبالطبع لم يكن ذلك الطوفان ليصب في صالح الفنون الأدبية بشكل عام والشعر منها على نحو خاص، ذلك لأن الرواية والقصة شكلان أدبيان قابلان للتحول إلى أشكال درامية رائجة وقابلة للتسليع (سينما/ تلفاز.. إلخ)، بينما الشعر يظل بنظرهم أقنوما غير قابل للتحول.
ثانيا: ينظر بعض منظري ما بعد الحداثة إلى الشعر، باعتباره فنا رعويًا يعنى بالحكايات الكبرى التي لفظت -حسبما يرون- أنفاسها الأخيرة، أي غير قابل للحياة كأحد مواطني المدينة الحديثة بعلاقات إنتاجها المعقدة، وهم -على الأغلب- ينطلقون في ذلك من فكرة نمطية عن الشعر تفتقر إلى الدقة.
مع ذلك فالشعر سوف يظل باقيا لسببين رئيسيين: الأول هو أن الشعر يظل جوهر كل فن، فاللوحة لا تكتسب قيمتها الفنية إلا بقدر ما امتصته من الشعر، وكذلك المشهد السينمائي، بل إن مصطلح (الشعرية) يشير نقديًا إلى هذا المعنى، فشعرية الرواية هي الكيفية التي تصير بها الرواية رواية، وشعرية القصة تعني الكيفية التي تصبح فيها القصة قصة وهكذا.
السبب الثاني، هو أن الشعر كان وسيبقى مجدد اللغة الأول في كل أمة، فبدونه تموت اللغة وتضمحل، ومن ثم يموت الفكر داخل الأمة، ذلك تأسيسًا على النظرية التي ترقى إلى مستوى الحقيقة حين تقول بأن اللغة وعاء الفكر.
هل تشعر بأنك مظلوم على المستوى الشعري والإعلامي؟
لم ينتبني شعور كهذا مطلقا، ربما ذلك لكوني -بكل صدق- لست مهتما بالأمر، وإن كان -للحقيقة- من دواعي سرور المرء شعوره بأنه مهم لآخرين، فالإنسان يحتاج في بعض الأوقات إلى شيء من التقدير الذي يجعله على ثقة بالحياة.
وبالمناسبة فقد حصلت على جائزة التميز هذا العام من اتحاد الكتاب، وهي أكبر وأهم جوائزه، وقد سعدت جدا بها كونها جائزة لا يتم الترشح إليها، بل هي اختيار مباشر من لجنتها، ثم إن الشعر بالنسبة لي طريقة في الحياة، وربما لو أتيحت لي طريقة أخرى لكنت سلكتها، أي أن الشعر لدي طريق إجبارية، وفي هذا المقام أتذكر كلمة جارسيا ماركيز الرائعة حين سألوه: لماذا تكتب؟، فقال: «كي يحبني أصدقائي»، أجل الشعر قدم لي أحباء كثيرين وهذا يكفي.
من شاعر قصيدة النثر المصري الذي تعجبك تجربته؟ ولماذا تنصح الناس بقراءته؟
هنا عديد من الشعراء الذين أقدر تجاربهم، ولكنني أحببت تجربة الشاعر الراحل محمد صالح بما تحويه من بساطة ذات باطن فلسفي عميق، كذلك حلمي سالم في بعض دواوينه مثل ديوان «يوجد هنا عميان»، وفي جيلي وما بعده، هناك عديدون أحب قصائدهم، مثل تجربة إبراهيم داود التي تتمتع أيضًا بالبساطة وتذخر بالخبرات الإنسانية المدهشة، ثم تجربة إيمان مرسال لحدة زوايا نظرها إلى الأشياء، فضلا عن فهمها الخاص لماهية الشعر.
من أقرب الشعراء العرب والعالميين إلى روحك ولماذا؟
من العرب، أحب اللبناني وديع سعادة لعرامته الهادئة التي لا تعرف فيها من أين تنهمر المعاني والصور، وكنت أحب الراحل اللبناني محمد علي شمس الدين شاعرا وناثرا، وأراه نموذجا للشاعر المطبوع ذي الموهبة الفذة، ومن جيلي أحب السوري فؤاد محمد فؤاد رغم قلة إصداراته.
ومن الشعراء غير العرب أحببت اليوناني السكندري قسطنتين كفافيس، الذي أعتبره أستاذي على البعد، وذلك لجرأته الصادمة أحيانا وانتباهه للشعر الكامن في ما نظنه بدهيا، ومثله في ذلك يجيء الفرنسي جاك بريفير، أما من الأجيال الأحدث فلقد أحببت الأمريكية كيم أدونيزيو، التي تعد مثالا في جسارتها وذهنيتها الحرة غير المقموعة.
وصلت إلى عامك الرابع والستين.. كيف تشعر بتقدمك في العمر؟
لقد تجاوزت الرابعة والستين، مع ذلك أراني ما زلت روحا شابة في جسد منهك، أو بتعبيرات هذا الأيام أنا (Soft Wear) حديث، داخل (Hard Wear) متهالك، وحتى الآن ما زلت وأنا أشاهد السينما، أجدني متماهيا مع الشاب العاشق في محنته داخل الفيلم، متغافلًا عن دور الأب الذي هو أقرب إلى سني.
وما طموحك للقصيدة في المستقبل؟
قصيدة المستقبل ملك أصحابها، كل ما أتمناه الآن هو بقاء الشعر حيا في الصدور والضمائر، كصمام أمن أخير لإنسانية الإنسان.