علينا أن نعترف أن هناك أزمة حقيقية مركبّه تواجهها الحركة القومية وأن الأزمة ليست متزامنه مع سقوط الأنظمة القومية أو ما كان يُعرفبالحواضن القومية ، الأزمة تمتد لعقود زمنية وترافق نشوئها مع صعود الأنظمة القومية على هرم السلطة وممارساتها في الدول التي كانتمحكومة بتيارات القومية العربية الرئيسية ، البعث والناصريه وحركة القوميين العرب لذا علينا أن نُدرك حقيقة الأزمة التي تعيشها الحركةالقومية و نعمل على تعريفها بعمق بلا محظورات وبلا محددات حتى يكون ذلك بداية فعلية وصحيحةلإعادة التموضع التاريخي للفكر القوميأولاً ومن ثم لحركة قومية نضالية لديها حضورها وزخمها الجماهيري في الشارع العربي في ظل متغيرات يشهدها العالم الذي بات يتجهلأول مرة منذ نهاية الحرب الباردة وظهور نظام القطبية الإمبريالية الأمريكية التي نشرت الفوضى والخراب في كوكب الأرض ، هذه المرحلةالإنتقالية التي يعيشها العالم اليوم تحتاج من القيادات القومية بمختلف توجهاتها وتياراتها أن ترفع الشعار التاريخي الذي اعلنه ذات يومأحد المناضلين في الثورة الجزائرية يوسف زيروت بطل عملية اغسطس 1957م عندما قال (( لقد رمينا بكفاحنا إلى الشعب فإن شاءاحتضنه وإن أبا فليسقط )) وهو الأمر الذي يتطلب منا وقفة للمراجعة التاريخية حول طرق وأساليب ووسائل إعادة بناء العمل في أوساطالجماهير العربية ، الجماهير التي للأسف الشديد باتت تعيش حالة من التشظي والإنقسام ، لكن العمل وفق ثوابت الأمة وبعيداً عنسياسات الإحتواء والإقصاء وايجاد المشروع القومي الجامع والجاذب بمشركاته وثوابته القومية قد يدشن مرحلة جديدة في قيادة العملالجماهيري ، وحتى لا أطيل وللدخول في صلب العوامل والمسببات التي قادت الحركة القومية إلى التراجع والإنحسار أحاول هنا تقديم بعضتلك العوامل والمسببات التي أوصلت الحركة القوميه إلى ماهي عليه الأن ، وهذه الأسباب لا بد من دراستها وأثرائها بالبحث ومن خلالالندوات الفكرية التي تقدم الحلول والمعالجات الحقيقيه لإخراجها من واقعها الكارثي ، من بعض تلك الأسباب ما يلي :-
*- علينا أن نعترف قبل كل شيء أننا عشنا سياقًا قوميًا كما عاشته الأمم الأخرى وكنا نمتلك الإطار النظري للفكرة ومحدداتها مكرهاتهامحضوراتها موجباتها فكان أن التقطت الأمم المقسّمه اللحظة التاريخية وتوحّدت قوميًا وهو الأمر الذي حدث عكسه تمامًا في الحاله العربيةطبيعة الكيانات والدول التي نشأت على ضوء سايكس بيكو سيئة الصيت ومشروعها لتجذير القطرية وتكريس التقسيم ، ووعد بلفور المشؤومالذي زرع كيانًا دخيلاً في جسد الأمة العربية ، وكانت تلك المشاريع المعادية للعرب تندرج في إطار مؤتمر لندن الذي دعا إليه كيمبلبانريمان رئيس وزراء بريطانيا الذي انعقد على مراحل في ابتداءً من سنة 1904 وحتى سنة 1907 وقرر اعتبار العرب كأمة هي العدوالتاريخي لأوروبا ومخرجات وتوصيات المؤتمر معروفة لدى كل القوميين العرب ، ومع نشوء الفكرة القومية كفكرة جامعة للمثقفين العرب ظلتعلى مستوى النخب والمثقفين العرب ترواح مكانها بين المثقف المنحاز للقومية العربية كهوية ثقافية للعرب وبين من أجبرهم السياق التاريخيلركوب موجة المد القومي من أفراد بقوا مشدودين للذاتيه ولديهم تلك الحساسية المفُرطه والخوف من تغليب ما هوقومي على ماهو قطريمثال تجربة حزب البعث في سوريا والعراق وموقفه من القيادة القومية التي جرى عزلها وتقزيمها في الإشراف على التنظيمات القوميةللحزب دون أن يكون لها أي حق في أن تكون المرجعية لكلا القيادتين البعثية التي تحكم سوريا والعراق ، وهذا النموذج ينطبق على الحالهفي مصر الناصريه وحتى في ليبيا القذافيه وينطبق كذلك على حركة القوميين العرب التي سيطرت على الحكم في جنوب اليمن .وهو مايظهر بجلاء من وجود بعض التنظيمات الناصرية التي هيمنت عليها المناطقية الجهوية ولم تكن قادرة بفعل بنيويتها التنظيمية على تغطيةنطاقها الجغرافي القطري .
* – معظم الحركات القومية والتنظيمات القومية أو جلها قامت بعملية واسعة لتجريف المثقفيين من داخل التنظيمات القومية بمختلف توجهاتهاعلى حساب الولاء للفرد والمنطقة والقبيلة والمذهب والطائفه وحتى الذي من طائفه اخرى عليه أن يتحول للولاء للفرد قبل كل الولاء للحزبوالتنظيم وهذا يظهر بوضوح في الحالة السوريه والعراقيه واليمنيه تجربة اليمن الجنوبي الجبهة القوميه ويظهر كذلك في الحاله الليبيه،ابعاد المثقف لصالح القبيله والسلطه من فؤاد الركابي إلى أكرم الحوراني إلى أخره .
*- معظم التجارب القوميه ما أن تصل إلى السلطه حتى يبدأ نوع جديد من الصراعات الثنائيه الثنائيه بين الرجل الأول والرجل الثاني السلطة والأمثلة على ذلك كثيرة ومتعددة في كافة الدول القومية في الاطار ذاته يبدأ الصراع بين الأجنحة حيث يتضح بعد فترة أنهم لميكونوا اتجاهًا فكريًا سياسيًا واحداً بل اشبه بتكتل يحتوي اراء ورؤى متعددة جعلت التنظيمات والأحزاب الحاكمة تبدو كما لو أنهافسيفساء سياسية غير متجانسة وهنا جاء بريق السلطة وشهوة الحكم التي كانت كفيله بإظهار المناضلين أنهم لم يكونوا سوى طلابسلطة لا أكثر حدث ذلك الصراع في معظم او كل التجارب السياسية التي وصل بها القوميون إلى السلطة ،كيف ولماذا حدثت تلك الصراعاتومن هو السبب مسأله اخرى لكن في كلا الحالات تصرف الجميع بعقلية السياسي لا بعقلية المناضل صاحب المشروع والمؤمن بالقوميةالعربية .
* – التقليدية المفُرطة في العمل والممارسة بلا ابداع على مستوى السلطه او على مستوى الأوعيه التنظيمية التابعه لها .
* – ارتباط كثير من القوى القومية بالدولة القومية وامكاناتها المادية والمعنوية وليس بالمشروع القومي ذاته وبمجرد انتهاء وسقوط الدولوالحواضن القومية اتضحت الحقيقه المُؤلمه وهي أنه طوال عقود من كان يتواجد في المشهد هم أدعياء القومية وليس انقياء الفكر القوميوالدليل على ذلك مانراه اليوم من مكونات العمل القومي الذي ارتمى رموزه في معسكرين متناقضين وكِلا المعسكرين مُعاديين للقومية العربيةكمشروع وهما المعسكر الإيراني والمعسكر الرجعي السعودي .
* -التمظّهر الفكري وليس الابداع والايمان باالمشروع الذي يحتاج إلى تلك الحالة من الجدل التي لاتتوقف فقد جرى تجريم وتسفيه العديدمن المشاريع التي لم تتبناها ما عُرف بالعواصم والحواضن القومية بل ووصل الأمر إلى أننا حتى ونحن في اطار العمل القومي لم نكنقادرين على التعبير عن الفكرة و إذا ما فعلت وتجرأت وقدمت رؤيتك حتمًا سيكون مآلك القصف و بقوة وسوف يظهروك انك القاصف وهذاالأمر يقودنا إلى طبيعة التجربه التي لا تعترف بالآخر حتى في اطار الفكرة والطرح الواحد وهو الأمر الذي جعلها تبدو أشبه بالجسدالمحنط ،التربية الاقصائيه نتيجة حالة التمظهر الزائف هي من اغتالت التجربه .
*- ما سبق يتطلب منا إلى معرفة وتشريح بنيوية وتركيبة الدولة القومية بتركيبتها ببعدها المناطقي والجهوي والمذهبي التي انتصرت علىالمشروع القومي وباتت تتحكم فيه حيث صار المشروع تابعًا للدولة وليس العكس وهنا سنكتشف الجريمة السياسية التاريخية التي اُرتكبتضد المشروع القومي .
* عدم وجود البديل الجاذب للحركات الرجعية والظلامية التي بدأت تنتعش كمشاريع مضادة مدعومة من النظم الرجعية والقوى الامبرياليةلضرب القوى القومية والتقدمية بداية من مؤامرة 15 مايو1971م في مصر السادات ومروراً بفشل حركة 15 اكتوبر 1978م الناصريه فياليمن وضرب التيار القومي في موريتانيا ابريل 1984م وخارطة الاعتقالات في الوطن العربي والتي شكلت المقدمه لتصفية وضرب التيارالقومي ومهدت الطريق لقوى الظلام للسيطرة على الشارع العربي واختطافه وقد كان الرد من قِبل المتمظهرين من أدعياء القومية العربيةوالمتمسحين برادائها الذين وجدوا الفرصة سانحة للتموضع في اطار الدولة القومية أن ينحازوا إلى قوى الظلام ، فالدولة القومية التياعتمدت مبدأ اهل الثقة وليس اهل الفكرة لم تكن تمتلك الرؤية ولا الأدوات في مواجهة تلك المشاريع لكونها أصبحت فارغه جوفاء من الداخل .
*- شكلت الفكرة لدى البعض وسيلة للكسب وباتت العديد من الحواضن القوميه اشبه بحالة مفسدة ومفسدة تكبر وتتسع يومًا بعد آخر .
*- ظهور أكثر من تنظيم قومي من نفس التيار يؤكد ان البعض كان يبحث عن الذات وليس عن مصلحة الأمة وهذا ما قاد إلى تشويه العملالقومي وضربه بعمق وتفريغه , ولنا في مرحلة الحرب الأهلية في لبنان تحالفاتها صراعاتها نماذج عديدة في التخبط والعشوائيةوالانتهازية الرخيصة .
* – على عكس رؤية رواد الفكر القومي الذين اشتغلوا على خلق فضاء لمستقبل عربي جدير بالأمة العربية يضمن للعرب تحقيق الكرامةوالعدل والحرية فإن معظم الصراعات بين التيار القومي كانت تتكئ على الموروث الماضوي القديم والفهم الخاطئ للتاريخ أو على صراعاتالماضي القريب بين النُخب العربية وقياداتها السياسية خلاف عبدالناصر والبعث وخلاف البعث مع البعث والصراع بين الناصرية وبين التيارالعصمتي جماعة عصمت سيف الدوله وبين ناصرية القذافي الخضراء والحركات الناصرية الكلاسيكية .، على ضوء ذلك ظهرت اجنحةمناطقية ومذهبية اختطفت العمل القومي المحصلة النهائية لتلك الحالة من التشظي والخراب كانت الاشتغال على المشهد والمرحلة بعقليةاجترار التراث لابعقلية روح العصر ، ببعدها الثوري والتقدمي وخروج المثقف القومي من الحركات القومية بصورة مُحزنه لصالح القوىالعشائرية ومجموعة أهل الثقة وتيار مناطقي واسع سيطّر على الحركة القومية واختصر التاريخ وحرق المراحل للوصول بها إلى مرحلة الوئدوالأغتيال .
*- التعاطي مع الفكرة بعقلية ثبات النص لا بعقلية حركية المضمون هناك سلفية قومية مقيتة قتلت الفكرة ، ومنعت تمددها فبدت الفكرة وكأنهالاتمتلك ذلك الميكانيزم المتحرك باستمرار ،فدب الجمود أمام ظهور تيارات حداثية استطاعت ان تخلق حالة من الجدل والديالكتيك في اوساطالمثقفين العرب اليسار الجديد على سبيل المثال .
* – نتيجة لحالة الفشل والإنسداد السياسي والفكري وتوقف الميكانيزم السياسي جاء ظهور تيارات تساوميه متعددة من داخل الحركةالقومية حاولت الاقتراب من التيارات الاخرى تحت شعار الواقعية والعقلانية والموضوعية على حساب التيار القومي، وهنا كانت عملية الإحتواء من قبل التيارات المضادة للمشروع القومي وهنا شهدنا التغيّر الفكري لدى العديد من قيادات ورموز التيار القومي وتحولها نحو القوىالمضادة والرجعية العربية .
* – ورث الجيل القومي الجديد العديد من الصراعات الفكرية بين جيل الرواد والتي كانت حالة جدل متقدمة لكن فهمه الخاطئ وّلد حالة منالتشظي في المشهد القومي .
* -عدم قراءة القوى القومية للمشهد السياسي العربي والدولي ساعد في ضرب القوى القومية في سياق زمني واحد لصالح التيار الظلاميوالاسلام السياسي المتحالف مع القوى الاستعمارية .
* – عدم تفريق الحركة القومية بين دورها السياسي ومشروعها القومي النهضوي وتم تغليب السياسي على النضالي في نهاية الأمر .
سابع عشر- الاصرار على مقولة الاقليم القاعدة للعمل القومي وهو ما قاد الى تجريف العمل القومي في العديد من ساحات الوطن العربيالكبير .
*- عدم وجود ميثاق شرف قومي الامر الذي قاد الى تحالفات مع القوى المضادة للقومية العربية قادت إلى ضرب العمل القومي .
* – اهمال العمل النقابي والجماهيري اوصلت التيار القومي إلى حالة أشبه بالعزلة ، عن الجماهير .وبدأت الأنظمة القومية التي وصلت إلىهرم السلطة بضرب الاتحادات والنقابات والروابط المهنيه بقوة وقسوة كون وصولها للسلطة كان يعتبر هو نهاية المطاف ولا داعي لوجودها فيالمشهد باعتبار الاحزاب والتنظيمات القومية هي وحدها صوت الجماهير ولا صوت يعلو على صوت الحزب أو التنظيم القومي الذي فيالسلطة مما حول تلك الأنظمة إلى انظمة دكتاتورية قمعية .
* – تركيبة وبنيوية الاحزاب القومية الطاردة للكفاءات وعدم وجود التغيير الديمقراطي والتداول السلمي في الهيئات المختلفة .عقدة القيادةالتاريخية التي تبقى مدى الحياة وهي حالة شبيهه بالأنظمة (( الأوتوقراطية )) ووصل الأمر إلى أن تلك الدكتاتوريات تتناسل وتنقل جزء منصلاحياتها للأبناء .
* – عدم الاعتراف بالتنوع الثقافي وبالديمقراطية وحقوق الانسان وهي القضايا الجوهريه التي اغفلها واسقطها القوميون العرب منحساباتهم فا شتغل عليهم الاستعمار والقوى العميلة من التيار الليبرالي ودعاة التغريب ، كان يمكن ان يكون لنا نظامنا الديمقراطيالخاص بنا كأمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة .
* – وصول الاحزاب القومية الى السلطة مع نقاباتها وروابطها المهنية واتحاداتها الطلابية ، مما جعلها تعتقد أنها الممثل الشرعي والوحيدللجماهير العربية وقامت بذات الممارسات الاقصائية ضد النقابات والروابط المهنية واستخدمت نفس ادوات الاقصاء للانظمة التي سبقتوصولها الى السلطة وهذا جعلها تبدوكأدوات قمع جديدة .
* -المؤامرات الاقليمية والدولية التي وضعت نصب عينيها اسقاط الانظمة القومية حيث تم ضرب الأنظمة القومية بكافة التيارات من خلالالانتفاضات والمشاريع المعادية الجيل الرابع من الحروب كما هو الحال في خريف العرب ٢٠١١م ولولا تراكم الأخطاء من قِبل الأنظمة القوميةومشاريع التوريث وغياب الديمقراطية ودولة الحكم الرشيد لما وجدت المؤامرات الإقليمية الرجعية والدولية الامبريالية طريقها للنجاح .
*للخروج من المأزق التاريخي يتم العمل وفق المبادئ والثوابت القومية من اجل الوصول الى الحركة العربية الواحدة ببعدها الجماهيريالشعبي ومن خلال خدمة الجماهير اجتماعيًا بما من شأنه خلق الغد العربي المشرق الوضاءعلينا إجراء مراجعة تاريخية حقيقيه من شأنهاالتأسيس للفكرة القومية التي تتناغم مع المتغيرات التي يشهدها العالم وتتناسب مع الجيل العربي الجديد ولديها قوة فكرية جاذبه تستطيعالتعامل مع ايقاع العصر تأخذ في الإعتبار البُعد الثقافي والجغرافي والاقتصادي للأمة العربية كجغرافية واحدة وتستفيد من أخطاءالماضي تنقدها وتعيد تقويمها لصياغة ميثاق عمل قومي جديد .
عبدالرحمن الرياني / كاتب ومثقف قومي مستقل