هناك فراغ كبير يتسع بيني وبين المكان الذي لم أعد ألفه من قبل إطلاقا ، أسافر عبر الزمان والمكان بفكري المتوقد ، وأنا ألملم شتات نفسي الغارقة في تفاصيل الأحداث المتسارعة من حولي ، أحسب نفسي وكأني ولدت في عالمً جديد غير العالم الذي أنتمي إليه الآن ، جميع تفاصيل حكاية الأمس التي كان يرويها لنا القادمون من الغرب إلينا ، تحدث الآن في بلدنا وأمام أعيننا.. فمن أستدعاها ولماذا ؟ ، لقد تغير كل شيء من حولي ، حتى القيم والمبادئ التي تربينا عليها وعشنا من أجلها ولها أراها تندثر بل توأد بكل بساطة ، كل هذا بسبب ذلك الصديق الذي طلب لقائي في أحد المقاهي بالخير ، حملت نفسي المثقلة ورميت بها في عقر سيارتي التي ضاقت جوانبها وهوى سقفها على رأسي وكأنه درع فارس يتهيأ للقتال ، مضيت بها بها من شارع لآخر متبعاً تعليم وإرشادات الموقع حسب الخارطة والصوت الذي يخرج من هاتفي النقال ، وما إن دخلت ذلك الشارع الضيق ذو البنايات المرتفعة والمحلات والفنادق والمطاعم والمقاهي المترامية على جانبيه ، وكلما تعمقت به لمحت الغواني الممتلأت ، لم يخطر ببالي مطلقا من قبل هذا بأن سوق عكاظ والبصرة والصين وتايلاند والشام قد تحول إلى هنا في أحد شوارع الخوير ، لم اعلم قبل هذا بأن سوق النخاسة قد رسى هنا واسقط رحالة بعد أن مر ببلاد الجيران ، ترجلت من على سيارتي وصافحت عيني قبل يدي صديقي المنتظر قدومي ، كانت عيناه تبتسمان لي قبل شفاهه ، وكانت كل تعابير الإستغراب والتعجب والإستفهام والحيرة ترتسم على وجهي المكفهر من هول ما رأت عيناي ، قلت له ما هذا منذ متى نحن وصلنا إلى هذا الإنفتاح الأخلاقي الراقي الذي يدعو إلى الغبطة والسرور ، ما هذا النوع البشري المتوهج الوقاد الذي لا ينفق يقف حتى يتحرك إلى كل جانب وحدباً وصوب ، اذا هنا ترسي أشرعة الصواري المرهقة من الأسفار بعد عطش وجوع وضمور ، هنا الميناء الغارق على سيف الشواطئ المسافرة عبر الزمن الضائع والإخلاق المنحلة ، هنا يبرد الصيف الحارق بصقيع الثلج وحب الزيتون ، عاتبته كثيرا على اختياره هذا الشارع وبهذا المكان للقاء به ، لقد سقطت كثير من الأسئلة من ذاكرتي وبقى سؤال مهم يقدح بذهني وكأنه ناقوس ، لماذا أخترت هذا المكان وأنت اعلم بطباعي؟ ، قال وهو ينخرط في الضحك.. ارتك أن ترى ما آلت إليه الأمور ، اعلم إنك تنزعج من هكذا مشاهدات وتبتعد عن هكذا أماكن تسودها السوداوية ، لكني ارتك أن تعلم بأن العلم لست أنت وما هربت من مشاهدته في البلد الآخر لحق بك إلى بلدك دون أن تطلبه ، دار حديث طويل بيني وبينه ، واستنتجنا في الغالب أنها أسلوب السياحة الجديد لواجهة البلد بعد ضعف الإقتصاد ، ليس هناك مبرر لبقاء الغواني في سوق النخاسة هذا غير هذا السبب رغم علم الجميع به ، هكذا تطحن الرحى حبها المتناثرة عليها دون استثناء هل هي حبة حلبة أم أرز ، لقد خانت الأعمدة والزوايا السقف فخار كل شيء على الساس وهوى ، حملت نفسي وأنا ابتعد وتفاصيل الأجساد المرتسمة على الجنز والبلوزه بنقوش فرعونية تقبع في مخيلتي ويستشيط لها عودي النائم ، لقد تركت المكان ولم أعد اعرف عنه أو اريد ان اعرف عنه شيء آخر ، لكنه يبعث في قلبي وعقلي الخوف من الأسواء ، تحدثت مع نفسي كثيرا ، يراودني سؤال يغتال فكري ويزرع الخوف من القادم وأنا اتخيل أبني يكبر ويصبح يافعاُ ، ياترى حين يشتد عودة هل سوف يرسي يوماً ما في هذا الميناء العكر والشواطئ المتعفنة بجيف الأمس وسهر الليالي في مقاهي الأنس وسوق النخاسة ؟!!
يعقوب بن راشد بن سالم السعدي
#عاشق_عمان